اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (37)

الفاء في قوله : " فتلقى " عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها ، و " تلقى " " تفعل " من اللِّقَاء بمعنى المجرّد .

وله معانٍ أخر : مطاوعة " فعل " نحو : " كسرته فتكسر " .

والتجنب نحو : " تجنب " أي : جانب الجَنْبَ .

والتكلّف نحو : تحلّم .

والصيرورة : تأَلَّم .

والاتخاذُ : نحو : تَبَنَّيْتُ الصبي ، أي : اتخذته ابناً .

ومُوَاصلة العمل في مُهْلَة نحو ، تجرّع وتفهم .

ومُوَافقة استفعل نحو : تكبر .

والتوقُّع نحو : تخوّف .

والطَّلب نحو : تنجّز حاجته .

والتكثير نحو : تغطَّيت بالثياب .

والتلبُّس بالمُسَمَّى المُشْتَقّ منه نحو : تقمّص ، أو العمل فيه نحو : تسحّر .

والختل : نحو : تغفلته .

وزعم بعضهم أن أصل " تَلَقَّى " : " تَلَقَّنَ " بالنون فأبدلت النون ألفاً ، وهذا غلط ؛ لأن ذلك إنما ورد في المضعّف نحو " قَصَّيْتُ أظَافري " و " تَظَنَّيْتُ " و " أمليت الكتاب " في " قَصَصْتُ " و " تَظَنَّنْتُ " ، و " أمْلَلْتُ " فأحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا .

قال القَفَّال : أصل التلقِّي هو التعرُّض للقاء ، ثم وضع في موضع الاستقبال للمتلقِّي ، ثم يوضع القبول والأخذ ، قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل :6 ] ويقال : خرجنا نتلقى [ الحاجَّ ]{[1198]} ، أي : نستقبلهم ، وكان - عليه الصَّلاة والسَّلام - يتلقّى الوحي ، أي : يستقبله ويأخذه .

وإذا كان هذا أصل الكلمة ، وكان من تلقى رجلاً فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه ، فأضيف الاجتماع إليهما معاً صلح أن يشتركا في الوَصْفِ بذلك ، فجاز أن يقال : تلقَّى آدمَ بالنَّصب على معنى جاءته عن الله - تعالى - كلمات ، و " من ربه " متعلّق ب " تلقى " ، و " من " لابتداء الغاية مجازاً .

وأجاز أبو البَقَاءِ أن يكون في الأصل صفة ل " كلمات " فلما قدم انتصب حالاً ، فيتعلّق بمحذوف ، و " كلمات " مفعول به .

وقرأ{[1199]} " ابن كثير " بنصب " آدم " ، ورفع " كلمات " ، وذلك أن مَنْ تلقَّاك فقد تلقيته ، فتصبح نسبة الفعل إلى كلّ واحد .

وقيل : لما كانت الكلمات سبباً في توبته جعلت فاعلة ، ولم يؤنث الفعل على هذه القراءة وإن كان الفاعل مؤنثاً ؛ لأنه غير حقيقي ، وللفصل أيضاً ، وهذا سبيل كل فعلٍ فصل بينه وبين فاعله المؤنّث بشيء ، أو كان الفاعل مؤنثاً مجازياً .

فصل في الكلمات التي دعا بها آدم ربه

اختلفوا في تلك الكلمات ما هي ؟

فروى " سعيد بن جبير " رضي الله عنه أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال : يا ربّ ألم تخلقني بِيَدِكَ بلا وَاسِطَةٍ ؟ قال : بلى ، قال : يا رب أَلَمْ تنفخ فِيَّ من رُوحِكَ ؟ قال : بلى . قال : ألم تُسْكني جنتك ؟ قال : بلى . قال : يا ربّ ألم تسبق رحمتك غَضَبَك ؟ قال : بلى . قال يا رب إن تُبْتُ وأصلحت تردّني إلى الجنة ؟ قال : بلى . فهو قوله : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ }{[1200]} .

وزاد السّدى فيه : يا ربّ هل كنت كتبت علي ذنباً ؟ قال : نعم{[1201]} .

وقال النَّخعي : أتيت ابن عباس فقلت : ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه ؟ قال : علّم الله آدم وحواء أمر الحجّ فحجا ، وهي الكلمات التي تقال في الحَجّ ، فلما فرغا من الحجّ أوحى الله - تعالى – إليهما إني{[1202]} قبلت توبتكما .

وروي عن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، ومجاهد ، وقتادة في قوله تعالى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }{[1203]} [ الأعراف : 23 ] ، وعن مجاهد أيضاً : " سبحانك اللَّهم لا إله إلاَّ أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم " {[1204]} .

وقالت طائفة : رأى مكتوباً على ساق العرش : محمد رسول الله ، فتشفّع بذلك{[1205]} .

وعن ابن عباس ، ووهب بن منبّه أن الكلمات سبحانك اللَّهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت عملت سُوءاً ، وظلمت نفسي [ فاغفر لي إنك خير الغافرين ، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سُوءاً ، وظلمت نفسي ]{[1206]} فتب عليّ إنك أنت التَّوَّاب الرحيم{[1207]} .

قالت عائشة رضي الله عنها : لما أراد الله أن يَتُوبَ على آدم ، وطاف بالبيت سبعاً - والبيت حينئذ ربوة حمراء - فلما صلّى ركعتين استقبل البيت ، وقال : " اللَّهم إنك تعلم سرِّي وعلانيتي ، فأقبل مَعْذِرَتِي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي ، اللَّهُمّ إني أسألك إيماناً يُبَاشِرُ قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلاَّ ما كتبت لي ورضّني بما قسمت لي " فأوحى الله - تعالى - إلىَ آدم يا آدم قد غفرت لك ذنوبك ، ولن يأتي أحد من ذريّتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني إلاَّ غفرت ذنبه ، وكشفت هُمُومه وغمومه ، ونزعت الفَقْرَ من عينيه ، وجاءته الدُّنيا وهو لا يريدها{[1208]} .

قوله : { فَتَابَ عَلَيْهِ } عطف على ما قبله ، ولا بُدَّ من تقدير جملة قبلها أي : فقالها . و " الكلمات " جمع " كلمة " وهي : اللَّفظ الدَّالّ على معنى مفرد ، وتطلق على الجمل المفيدة مجازاً تسمية للكلّ باسم الجزء كقوله تعالى : { إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ } ثم فسرها بقوله : { أَلاَّ نَعْبُدَ }

[ آل عمران : 64 ] إلى آخر الآية ، وقال : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ } [ المؤمنون : 100 ] يريد قوله : { رَبِّ ارْجِعُونِ } إلى آخره ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَصْدَقُ كلمةٍ قالها شَاعِرٌ كلمة لَبِيد " {[1209]} وهو قوله : [ الطويل ]

أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ *** وَكُلُّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ{[1210]}

فسمى هذا البيت كلمةً ، والتوبة : الرجوع ، ومعنى وصف الله - تعالى - بذلك أنه عبارةٌ عن العَطْفِ على عباده ، وإنقاذهم من العذاب .

وقيل : قبول توبته .

وقيل : خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسمى ، وآخر الطَّاعات على جَوَارحه ، ووصف العَبْدِ بها ظاهر ؛ لأنه يرجع عن المعصية إلى الطاعة .

و " التوّاب الرحيم " صفتا مُبَالغة ، ولا يختصَّان بالباري تعالى .

قال تعالى : { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } [ البقرة : 222 ] ، ولا يطلق عليه " تائب " ، وإن صرح بفعله مسند إليه تعالى . وقدم " التواب " على " الرحيم " لمناسبة " فتاب عليه " ، ولأنه مناسب لختم الفواصل بالرحيم .

وقوله : { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } نظير قوله تعالى : { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ البقرة : 32 ] .

وأدغم أبو عمرو هاء " إنَّه " في هاء " هُو " ، واعترض على هذا بأنّ بين المثلين ما يمنع من الإدغام وهو " الواو " ؛ وأجيب : بأن " الواو " وُصْلَةٌ زائدةٌ لا يعتدّ بها ؛ بدليل سقوطها في قوله : [ الوافر ]

لَهُ زَجلٌ كَأَنَّهُ صَوْتُ حَادٍ *** إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أَوْ زَمِيرُ{[1211]}

وقوله : [ البسيط ]

أوْ مُعْبَرُ الظَّهْرِ يُنْبِي عَنْ وَلِيَّتِهِ *** مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا وَلاَ اعْتَمَرَا{[1212]}

والمشهور قراءة " إنه " بكسر " إن " ، وقرئ{[1213]} بفتحها على تقدير لام العلّة ، وقرأ{[1214]} الأعمش : " آدَم مِّنْ رَبِّهِ " مدغماً .

فصل في نظم الآية

قوله : " فتاب عليه " أي : قبل توبته ، أو وفقه للتوبة ، وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم الجُمُعة .

فإن قيل : لم قال " عليه " ولم يقل : " عليهما " ، وحواء مُشَاركة له في الذنب .

فالجواب : أنها كانت تبعاً له كما طوى حكم النِّسَاء في القرآن والسُّنة .

وقيل : لأنه خصّه بالذكر في أوّل القصّة بقوله : { اسْكُنْ } [ البقرة : 35 ] ، فكذلك خصّه بالذكر في التلقّي .

وقيل : لأن المرأة حرمة ومستورةٌ ، فأراد الله السّتر بها ، ولذلك لم يذكرها في القصّة في قوله : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [ طه : 121 ] .


[1198]:- في ب: الحجاج.
[1199]:- انظر حجة القراءات: 94، والحجة للقراء السبعة: 2/23، وإعراب القراءات: 1/82، والعنوان: 69، وشرح الطيبة: 4/19، وشرح شعلة: 261، وإتحاف: 1/388.
[1200]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/543) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/116) وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في "التوبة" وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.
[1201]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/544).
[1202]:- في ب: بأني.
[1203]:- أخرجه الطبري (1/543) في تفسيره عن أبي العالية. وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في "الشعب" عن قتادة كما في "الدر المنثور" (1/117). وأخرجه الثعلبي من طريق عكرمة عن ابن عباس. وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" (1/117). وأخرجه الطبري (1/545) عن مجاهد وزاد السيوطي نسبته في "الدر المنثور" (1/118) لوكيع وعبد بن حميد وابن أبي حاتم. وأخرجه هناد في الزهد عن سعيد بن جبير كما في "الدر المنثور" (1/118). وأخرجه عبد بن حميد عن الحسن والضحاك كما في "الدر المنثور" (1/118).
[1204]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/545) وذكره ابن كثير في تفسيره (1/147).
[1205]:- روي هذا مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/615) وقال: صحيح الإسناد. ورده الذهبي بقوله: بل موضوع. وأورده ابن كثير في تاريخه (2/323) وأقر كلام الذهبي. وأخرجه الطبراني في "الصغير" (207). وقال الهيثمي في "المجمع" (8/353): رواه الطبراني في "الأوسط والصغير" وفيه من لم أعرفهم.
[1206]:- سقط في ب.
[1207]:- ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/118) وعزاه لعبد بن حميد عن عبد الله بن زيد والبيهقي في "الشعب" وابن عساكر عن أنس.
[1208]:- أخرجه الجندي وابن عساكر في "فضائل مكة" والطبراني عن عائشة كما ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/117).
[1209]:- أخرجه البخاري في الصحيح (5/128) كتاب المناقب باب أيام الجاهلية حديث رقم (3841) عن أبي هريرة. وابن ماجه في السنن (2/236) كتاب الأدب باب الشعر حديث رقم (3757) - وأحمد في المسند (2/339)، (3/248، 393، 458) - والبخاري في التاريخ الكبير (7/249) وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح حديث رقم 4786.
[1210]:- ينظر في ديوانه: 256، جواهر الأدب: 382، خزانة الأدب: 2/255 و257، الدرر: 1/71، ديوان المعاني: 1/118، وسمط اللآلي: 253، شرح الأشموني: 1/11، شرح التصريح: 1/29، شرح شذور الذهب: 339، شرح شواهد المغني: 1/150 و153 و154 و392، شرح المفصل: 2/78، العقد الفريد: 5/273، لسان العرب (رجز)، المقاصد النحوية: 1/5 و7 و291، أوضح المسالك: 2/289، رصف المباني: 269، شرح قطر الندى: 248، والدر المصون: 1/196.
[1211]:- البيت للشماخ في ديوانه: ص 155 وينظر شرح أبيات سيبويه: 1/437، والكتاب: 1/30، لسان العرب (ها)، والدرر: 1/181، الخصائص: 1/371، الإنصاف: 2/516، الأشباه والنظائر: 2/379، خزانة الأدب: 2/388، 5/270، 271، والمقتضب: 1/267، همع الهوامع: 1/59، الدر المصون: 1/196.
[1212]:- البيت لرجل من باهلة ينظر شرح أبيات سيبويه: 1/422، الكتاب: 1/30، الإنصاف: 2/516، خزانة الأدب: 5/269، لسان العرب (عبر)، والمقتضب: 1/38، المقرب: 2/204، الدر المصون: 1/196.
[1213]:- قرأ بها أبو توفل بن أبي عقرب. انظر البحر المحيط: 1/319، والدر المصون: 1/196، والقرطبي: 1/223.
[1214]:- ونسبت إلى أبي عمرو، ويعقوب. انظر إتحاف فضلاء البشر: 1/389.