قوله { فتلقى } الآية . أصل التلقي التعرض للقاء ، ثم يوضع موضع الاستقبال للشيء الجائي ، ثم يوضع موضع القبول ، والأخذ { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم }
[ النمل : 6 ] أي تلقنه ، ثم بعض الأفعال قد يشترك فاعله ومفعوله في صلاحية وصف كل منهما بالفعل فيتعاوضان عمله فيهما . تقول : بلغني ذاك وبلغته ، وأصابني خير أو نالني وأصبته أو نلته { وتلقى آدم من ربه كلمات } أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول وتلقى آدم كلمات أي جاءته واتصلت به ، ولا يجوز أن يكون معنى التلقي من الرب ، أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لابد أن يعرف ماهية التوبة ، ويتمكن بعقله من تدارك الذنوب فضلاً عن الأنبياء فإذن المراد أنه نبهه على المعصية على وجه آل أمره إلى التوبة ، أو عرّفه وجوب التوبة وكونها مقبولة ، أو ذكره نعمته العظيمة عليه حتى صار من الدواعي القريبة إلى التوبة ، أو علمه كلمات لو حصلت التوبة معهن كمل حالها من قوله تعالى { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] الآية . وفي رواية ابن عباس أن آدم قال : يا رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى . قال : يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك ؟ قال : بلى . قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ قال : بلى . قال : ألم تسكني جنتك ؟ قال : بلى . قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال : نعم . وقال النخعي : أتيت ابن عباس فقلت : ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه ؟ قال : علم الله آدم وحوّاء أمر الحج فحجا ، فهي الكلمات التي تقال في الحج ، فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما إني قبلت توبتكما . وعن ابن مسعود : إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة " سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدك ، لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " . وقالت عائشة : لما أراد تعالى أن يتوب على آدم عليه السلام طاف بالبيت سبعاً ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فلما صلى الركعتين استقبل البيت وقال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي ، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي ، وأرضني بما قسمت لي . فأوحى الله تعالى إلى آدم : يا آدم ، قد غفرت لك ذنبك ، ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها . وفي كلام الغزالي : أن التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة : أولها علم ، وثانيها حال ، وثالثها عمل . فالعلم هو معرفة ما في الذنب من الضرر ، وكونه حجاباً بين العبد ورحمة الرب ، فإذا استحكمت هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات محبوبه ، وتأسف على الفعل الذي كان سبباً لذلك الفوات . ويسمى ذلك التأسف ندماً ، وهذه الحالة لها تعلق بالماضي وهو تلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر ، وتعلق بالحال وهو ترك الذنب الذي كان ملابساً له ، وتعلق بالمستقبل وهو العزم على أن لا يعود إليه أبداً . وكثيراً ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ، ويجعل العلم السابق كالمقدمة ، والترك اللاحق كالثمرة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " الندم توبة " وجميع هذه الأمور بتوفيق الله ولطفه إنه هو التوّاب الرحيم . والتوبة لغة الرجوع فيشترك فيه الرب والعبد ، فإذا وصف بها العبد فالمعنى راجع إلى ربه لأن العاصي هارب عن ربه ، وقد يفارق الرجل خدمة سيده فيقطع السيد معروفه عنه ، فإذا عاد إلى السيد عاد السيد عليه بإحسانه ومعروفه ، وهذا معنى قبول التوبة من الله وغفران ذنوب العباد " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " ومعنى المبالغة في الثواب أن واحداً من ملوك الدنيا إذا عصاه إنسان ثم تاب قبل توبته ، ثم إذا عاد إلى المعصية وإلى الاعتذار فربما لم يقبل عذره لأن طبعه يمنعه من قبول العذر ، والله تعالى بخلاف ذلك لأنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع إلى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضر ، بل لمحض الإحسان واللطف والرحمة والجود ، فإن فيضه لا ينقطع ولا تقصير إلا من القابل ، فكلما ارتفع المانع من قبل القابل وصل الفيض إليه لا محالة . وأيضاً يستحق المبالغة من جهة أخرى وهي كثرة عدد المذنبين المستلزمة لكثرة التائبين المستتبعة لكثرة قبول التوبة ووصفه بالرحمة . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر ، وإذا آل حال أبينا إلى هذا من خطيئة واحدة فمن أحاطت به خطاياه أحق بالبكاء " ولذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم " إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة " فنحن أحق بالاستغفار ، فإن الغين يكاد يكون بالنسبة إلينا ريناً ، وذلك أن الغين شيء يغين أي يغشى القلب ويغطيه بعض التغطية كالغيم الرقيق لا يحجب الشمس ، ولكن يمنع كمال ضوئها . والرين ما استحكم من ذلك حتى صار القلب ممتنعاً بالكلية عن قبول الحق وذلك صفة الكفار { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [ المطففين : 14 ] . قيل في تأويل الحديث : إن الله تعالى أطلع نبيه على ما سيكون في أمته من الخلاف والشقاق ، وكان إذا ذكر ذلك وجد غيناً في قلبه فاستغفر لأمته . قيل : كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فيستغفر مما كان . وقيل : الغين عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانياً عن نفسه بالكلية ، فإذا عاد إلى الصحو استغفر من ذلك الصحو ، وهذا تأويل أرباب الحقيقة . وقال أهل الظاهر : إن القلب لا ينفك عن الخطرات والشهوات وأنواع الإرادات ، فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر . وعن ثابت البناني : بلغنا أن إبليس قال : يا رب ، إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه . فقال سبحانه : جعلت صدورهم مساكن لك . فقال : رب زدني . فقال : لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة . قال : رب زدني . قال : تجري منه مجرى الدم . قال : رب زدني . قال : اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد . قال : فشكا آدم إلى ربه فقال : يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطته علي وأنا لا أطيقه إلا بك . فقال الله تعالى : لا يولد ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء . قال : رب زدني . قال : الحسنة بعشر أمثالها . قال : رب زدني . قال : لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر ، والغرغرة تردد الروح في الحلق . وسئل ذو النون عن التوبة فقال : إنها اسم جامع لمعان ستة : أولها الندم على ما مضى ، وثانيها العزم على ترك الذنوب في المستقبل ، وثالثها أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله ، والرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم ، والخامس إذابة كل لحم ودم نبت من الحرام ، والسادس إذاقة البدن مرارة الطاعات كما ذاق حلاوة المعاصي . وكان أحمد ابن الحرث يقول : يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب ، يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب ، يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب ، يا صاحب الذنوب أنت غداً بالذنوب مطلوب . وإنما اكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعاً له كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك على أنها قد ذكرت في موضع آخر { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] الآية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.