قوله تعالى : { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً } أي : ظننتم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون ، { وزين ذلك في قلوبكم } زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم ، { وظننتم ظن السوء } وذلك أنهم قالوا : إن محمداً وأصحابه أكلة رأس ، فلا يرجعون ، فأين تذهبون معه ، انتظروا ما يكون من أمرهم . { وكنتم قوماً بوراً } هلكى لا تصلحون لخير .
( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا ، وزين ذلك في قلوبكم ، وظننتم ظن السوء ، وكنتم قوما بورا ) . .
وهكذا يقفهم عرايا مكشوفين ، وجها لوجه أمام ما أضمروا من نية ، وما ستروا من تقدير ، وما ظنوا بالله من السوء . وقد ظنوا أن الرسول ومن معه من المؤمنين ذاهبون إلى حتفهم ، فلا يرجعون إلى أهليهم بالمدينة ؛ وقالوا : يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة ، وقتلوا أصحابه فيقاتلهم ! - يشيرون إلى أحد والأحزاب - ولم يحسبوا حسابا لرعاية الله وحمايته للصادقين المتجردين من عباده . كما أنهم - بطبيعة تصورهم للأمور وخلو قلوبهم من حرارة العقيدة - لم يقدروا أن الواجب هو الواجب ، بغض النظر عن تكاليفه كائنة ما كانت ؛ وأن طاعة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يجب أن تكون بدون النظر إلى الربح الظاهري والخسارة الشكلية ، فهي واجب مفروض يؤدى دون نظر إلى عاقبة أخرى وراءه .
لقد ظنوا ظنهم ، وزين هذا الظن في قلوبهم ، حتى لم يروا غيره ، ولم يفكروا في سواه . وكان هذا هو ظن السوء بالله ، الناشئ من أن قلوبهم بور . وهو تعبير عجيب موح . فالأرض البور ميتة جرداء . وكذلك قلوبهم . وكذلك هم بكل كيانهم . بور . لا حياة ولا خصب ولا إثمار . وما يكون القلب إذ يخلو من حسن الظن بالله ? لأنه انقطع عن الإتصال بروح الله ? يكون بورا . ميتا أجرد نهايته إلى البوار والدمار .
وكذلك يظن الناس بالجماعة المؤمنة . الناس من أمثال أولئك الأعراب المنقطعين عن الله . البور الخالية قلوبهم من الروح والحياة . هكذا يظنون دائما بالجماعة المؤمنة عندما يبدو أن كفة الباطل هي الراجحة ، وأن قوى الأرض الظاهرة في جانب أهل الشر والضلال ؛ وأن المؤمنين قلة في العدد ، أو قلة في العدة ، أو قلة في المكان والجاه والمال . هكذا يظن الأعراب وأشباههم في كل زمان أن المؤمنين لا ينقلبون إلى أهليهم أبدا إذا هم واجهوا الباطل المنتفش بقوته الظاهرة . ومن ثم يتجنبون المؤمنين حبا للسلامة ؛ ويتوقعون في كل لحظة أن يستأصلوا وأن تنتهي دعوتهم فيأخذون هم بالأحوط ويبعدون عن طريقهم المحفوف بالمهالك ! ولكن الله يخيب ظن السوء هذا ؛ ويبدل المواقف والأحوال بمعرفته هو ، وبتدبيره هو ، وحسب ميزان القوى الحقيقية . الميزان الذي يمسكه الله بيده القوية ، فيخفض به قوما ويرفع به آخرين ، من حيث لا يعلم المنافقون الظانون بالله ظن السوء في كل مكان وفي كل حين !
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لّن يَنقَلِبَ الرّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىَ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنّ السّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الأعراب المعتذرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند منصرَفه من سفره إليهم بقولهم : شَغَلَتْنا أمْوَالُنا وأهْلُونا ما تخلفتم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شخص عنكم ، وقعدتم عن صحبته من أجل شغلكم بأموالكم وأهليكم ، بل تخلفتم بعده في منازلكم ، ظنا منكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه سيهلكون ، فلا يرجعون إليكم أبدا باستئصال العدوّ إياهم وزيّن ذلك في قلوبكم ، وحسّن الشيطان ذلك في قلوبكم ، وصححه عندكم حتى حسُن عندكم التخلف عنه ، فقعدتم عن صحبته وَظَنَنْتُمْ ظَنّ السّوْءِ يقول : وظننتم أن الله لن ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين على أعدائهم ، وأن العدوّ سيقهرونهم ويغلبونهم فيقتلونهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : سَيَقُولُ لَكَ المُخَلّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ . . . إلى قوله : وكُنْتُمْ قَوْما بُورا قال : ظنوا بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم ذلك ، وأنهم سيهلكون ، فذلك الذي خلفهم عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : وكُنْتُمْ قَوْما بُورا يقول : وكنتم قوما هَلْكى لا يصلحون لشيء من الخبر . وقيل : إن البور في لغة أذرعات : الفاسد فأما عند العرب فإنه لا شيء . ومنه قول أبي الدرداء : فأصبح ما جمعوا بُورا أي ذاهبا قد صار باطلاً لا شيء منه ومنه قول حسّان بن ثابت :
لا يَنْفَعُ الطّولُ مِن نُوك القُلوب وقدْ *** يَهْدِي الإلَهُ سَبِيلَ المَعْشَرِ البُورِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكُنْتُمْ قَوْما بُورا قال : فاسدين .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وكُنْتُمْ قَوْما بُورا قال : البور الذي ليس فيه من الخير شيء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وكُنْتُمْ قَوْما بُورا قال : هالكين .
ثم فسر لهم العلة التي تخلفوا من أجلها بقوله : { بل ظننتم } الآية ، وفي قراءة عبد الله : «إلى أهلهم » بغير ياء . و : { بوراً } معناه : فاسدين هلكى بسبب فسادهم . والبوار : الهلاك . وبارت السلعة ، مأخوذ من هذا . وبور : يوصف به الجمع والإفراد ، ومنه قول ابن الزبعرى : [ الخفيف ]
يا رسول المليك إن لساني . . . راتق ما فتقت إذ أنا بور{[10413]}
والبور في لغة أزد عمان : الفاسد ، ومنه قول أبي الدرداء : فأصبح ما جمعوا بوراً ، أي فاسداً ذاهباً ، ومنه قول حسان بن ثابت :
لا ينفع الطول من نوك القلوب وقد . . . يهدي الإله سبيل المعشر البور{[10414]}
وقال الطبري في قوله تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } يعني به قولهم : { فاستغفر لنا } لأنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم ، قال وقوله تعالى : { قل فمن يملك } الآية ، معناه : وما ينفعكم استغفاري ، وهل أملك لكم شيئاً والله قد أراد ضركم بسبب معصيتكم كما لا أملك إن أراد بكم النفع في أموالكم وأهليكم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.