سورة يوسف مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة
هذه السورة ، نزلت بعد سورة هود ، في تلك الفترة الحرجة التي تحدثنا عنها في تقدسم سورة يونس وفي تقديم سورة هود . . بين عام الحزن بموت أبي طالب وخديجة سندي رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وبين بيعة العقبة الأولى ثم الثانية التي جعل الله فيهما للرسول –صلى الله عليه وسلم- وللعصبة المسلمة معه وللدعوة الإسلامية فرجا ومخرجا بالهجرة إلى المدينة . . وعلى هذا فالسورة واحدة من السور التي نزلت في تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة وفي حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- والعصبة المسلمة معه في مكة . .
والسورة مكية بجملتها ، على خلاف ما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات ( 1 ، 2 ، 3 ، 7 ) منها مدنية . ذلك أن ألايات الثلاث الأولى هذا نصها :
( ألر تلك آيات الكتاب المبين . إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وإن كنت من قبله لمن الغافلين )
وهذه الآيات هي مقدمة طبيعية لما جاء بعدها مباشرة من البدء في قصة يوسف عليه السلام . . ونص الآية التالية في السياق هو :
( إذ قال يوسف لأبيه : يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . . . )
ثم تمضي القصة بعد ذلك في طريقها إلى النهاية :
فالتقديم لهذه القصة بقول الله تعالى : ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أو حينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) يبدو هو التقديم الطبيعي المصاحب لنزول القصة . . .
وكذلك هذه الأحرف المقطعة ( الر ) وتقرير ، أنها آيات الكتابالمبين . ثم تقرير أن الله أنزل هذا الكتاب قرآنا عربيا . . هو كذلك من جو القرآن المكي ، ومواجهة المشركين في مكة بعربية القرآن الذي كانوا يدعون أن أعجميا يعلمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ! وتقرير أنه وحي من الله كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الغافلين عن اتجاهه وموضوعاته .
ثم إن هذا التقديم يتناسق مع التعقيب على القصة في نهايتها ، وهو قول الله تعالة :
( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) .
فهناك حبكة بين التقدمة للقصة والتعقيب عليها ؛ ظاهر منها نزول التقدمة مع القصة والتعقيب .
أما الآية السابعة فالسياق لا يستقيم بدونها أصلا ؛ ولا يتأتى أن تكون السورة قد نزلت في مكة وهي ليست من سياقها ثم أضيفت إليها في المدينة ! ذلك أن في الآية الثامنة ضميرا يعود على يوسف وإخوته في هذه الآية السابعة ، بحيث لا يستقيم نزول الآية الثامنة دون أن تكون معها الآية السابقة . وهذا نصها :
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين . إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلي أبينا منا ونحن عصبة ، إن أبانا لفي ضلال مبين . .
مما يقطع بأن الآيتين نزلتا معا ، في سياق السورة الموصول .
والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وفي إيحاءاتها . بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة . . ففي الوقت الذي كان رسول الله [ ص ] يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش - منذ عام الحزن - وتعاني معه الجماعة المسلمة هذه الشدة ، كان الله - سبحانه - يقص على نبيه الكريم قصة أخ له كريم - يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين - وهو يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات : محنة كيد الإخوة . ومحنة الجب والخوف والترويع فيه . ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه ، ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله . ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة ، وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة ! ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز . ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه ، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم ، وفي يديه لقمة الخبز التي تقوتهم ! ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته الذين ألقوه في الجب وكانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات كلها . . هذه المحن والابتلاءات التي صبر عليها يوسف - عليه السلام - وزاول دعوته إلى الإسلام من خلالها ، وخرج منها كلها متجردا خالصا ؛ آخر توجهاته ، وآخر اهتماماته ، في لحظة الانتصار على المحن جميعا ؛ وفي لحظة لقاء أبويه ولم شمله ؛ وفي لحظة تأويل رؤياه وتحققها كما رآها : ( إذ قال يوسف لأبيه : يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر . رأيتهم لي ساجدين ) . . آخر توجهاته وآخر اهتماماته في هذه اللحظة هي التوجه المخلص المتجرد المنيب إلى ربه ، منخلعا من هذا كله بكليته كما يصوره القرآن الكريم :
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ، وقال : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين . ورفع أبويه على العرش ، وخروا له سجدا . وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ، وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ، إن ربي لطيف لما يشاء ، إنه هو العليم الحكيم . . رب قد آتيتني من الملك ، وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السماوات والأرض . أنت ولي في الدنيا والآخرة ، توفني مسلما ، وألحقني بالصالحين . .
وهكذا كانت طلبته الأخيرة . . بعد ذلك كله وهو في غمرة السلطان والرخاء ولمة الشمل . . أن يتوفاه ربه مسلما ، وأن يلحقه بالصالحين . . وذلك بعد الابتلاء والمحنة ، والصبر الطويل والانتصار الكبير . .
فلا عجب أن تكون هذه السورة . بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم ، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك ، مما يتنزل على رسول الله [ ص ] والجماعة المسلمة معه في مكة ، في هذه الفترة بالذات ، تسلية وتسرية ، وتطمينا كذلك وتثبيتا للمطاردين المغتربين المتوحشين !
لا بل أن الخاطر ليذهب بي اللحظة إلى الإحساس بالإيحاء البعيد بالإخراج من مكة إلى دار أخرى يكونفيها النصر والتمكين ؛ مهما بدا أن الخروج كان إكراها تحت التهديد ! كما أخرج يوسف من حضن أبيه ، ليواجه هذه الابتلاءات كلها . ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين :
( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ، ولنعلمه من تأويل الأحاديث ، والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
ولقد كان ذلك وهو يضع أقدامه في مصر في قصر العزيز . . حتى وهو ما يزال فتى يباع بين الرقيق . . !
وما يذهب بي الخاطر إليه اللحظة يجعلني أتذوق مذاقا خاصا - أشير إليه ولا أملك التعبير عنه ! - ذلك التعقيب الذي أعقب القصة :
( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ، أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون ؟ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين . لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ما كان حديثا يفترى ، ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل كل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) . .
إنه الإيحاء بمجرى سنة الله عندما يستيئس الرسل - كما استيأس يوسف في محنته الطويلة - والتلميح بالمخرج المكروه الذي يليه الفرج المرغوب ! . . الإيحاء والتلميح اللذان تدركهما القلوب المؤمنة ، وهي في مثل هذه الفترة تعيش ، وفي جوها تتنفس ، فتتذوق وتستشرف وتلمح الإيحاء والتلميح . من بعيد . .
والسورة ذات طابع منفرد في احتوائها على قصة يوسف كاملة . فالقصص القرآني - غير قصة يوسف - يرد حلقات ، تناسب كل حلقة منها أو مجموعة حلقات موضوع السورة واتجاهها وجوها . وحتى القصص الذي ورد كاملا في سورة واحدة كقصص هود وصالح ولوط وشعيب ورد مختصرا مجملا . أما قصة يوسف فوردت بتمامها وبطولها في سورة واحدة . وهو طابع متفرد في السور القرآنية جميعا .
هذا الطابع الخاص يتناسب مع طبيعة القصة ؛ ويؤديها أداء كاملا . . ذلك أنها تبدأ برؤيا يوسف ، وتنتهي بتأويلها . بحيث لا يناسبها أن تكون حلقة منها أو جملة حلقات في سورة وتكون بقيتها في سورة أخرى .
وهذا الطابع كفل لها الأداء الكامل في جميع الوجوه ؛ فوق تحقيقه للهدف الأصيل الذي من أجله سيقت القصة ، والتعقيبات التي تلتها .
وسنحتاج أن نقول كلمة مفصلة - بعض الشيء - عن هذا الأداء الكامل ، تكشف عن ذلك المنهج القرآني الفريد .
إن قصة يوسف - كما جاءت في هذه السورة - تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة ، بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسي والعقيدي والتربوي والحركي أيضا . . ومع أن المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه ، إلا أن قصة يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء !
إن القصة تعرض شخصية يوسف - عليه السلام - وهي الشخصية الرئيسية في القصة - عرضا كاملا فيكل مجالات حياتها ، بكل جوانب هذه الحياة ، وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات . وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة ؛ وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها . . ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء . وابتلاءات الفتنة بالشهوة ، والفتنة بالسلطان . وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات . . ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيا خالصا متجردا في وقفته الأخيرة ، متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة .
وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز . وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض ، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية ، وفي أوضاع خاصة من الأضواء والظلال . . وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة . متمثلة في نماذج متنوعة : نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول . . ونموذج إخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة ، ومواجهة آثار الجريمة ، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة ، متميزا فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها . . ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية ، كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك ، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها وضوح انطباعات البيئة . . ونموذج النسوة من طبقة العلية في مصر الجاهلية ! والأضواء التي تلقيها على البيئة ، ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها ، وفي إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعا . وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها ، كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة . . ونموذج " العزيز " وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه ! . . ونموذج " الملك " في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدا عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق . . وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات ، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد ، وهذا الحشد من الحركات والمشاعر . .
ومع استيفاء القصة لكل ملامح " الواقعية " السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف وفي كل خالجة . . فإنها تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة ، ذلك الأداء الصادق ، الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة . . المنهج الذي لا يهمل خلجة بشرية واقعية واحدة ، وفي الوقت ذاته لا ينشيء مستنقعا من الوحل يسميه " الواقعية " كالمستنقع الذي أنشأته " الواقعية " الغربية الجاهلية !
وقد ألمت القصة بألوان من الضعف البشري ؛ بما فيها لحظة الضعف الجنسي ، ودون أن تزور - أي تزوير - في تصوير النفس البشرية بواقعيتها الكاملة في هذه المواقف ، ودون أن تغفل أية لمحة حقيقية من لمحات النفس أو الموقف ، فإنها لم تسف قط لتنشيء ذلك المستنقع المقزز للفطرة السليمة ، ذلك الذي يسمونه في جاهلية القرن العشرين " الواقعية " أو يسمونه أخيرا " الطبيعة ! " .
وظلت القصة صورة نظيفة للأداء الواقعي الكامل مع تنوع الشخصيات وتنوع المواقف :
إخوة يوسف . . والأحقاد الصغيرة في قلوبهم تكبر وتتضخم حتى تحجب عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها ونكارتها وضخامتها ! ثم تزين لهم " المحلل الشرعي ! " الذي يخرجون به من تلك الجريمة . . ملاحظا في هذا واقعيتهم في بيئتهم الدينية - وهم أولاد نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم صلواتالله وسلامه - وانطباعات هذه البيئة في تفكيرهم ومشاعرهم وتقاليدهم ، وحاجتهم النفسية - من ثم - إلى مبرر للجريمة ، وإلى طريقة للتحلل من نكارتها وبشاعتها :
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين . إذ قالوا : ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا - ونحن عصبة - إن أبانا لفي ضلال مبين ! اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ، وتكونوا من بعده قوما صالحين ! قال قائل منهم : لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب ، يلتقطه بعض السيارة - إن كنتم فاعلين ! - قالوا : يا أبانا ، مالك لا تأمنا على يوسف ، وإنا له لناصحون . أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ، وإنا له لحافظون ! قال : إني ليحزنني أن تذهبوا به ، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون . قالوا : لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون . فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ، وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون . وجاءوا أباهم عشاء يبكون ، قالوا : يا أبانا ، إنا ذهبنا نستبق ، وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون . .
ونحن نجدهم - هم هم - في كل مواقف القصة بعد ذلك - كما نجد موقف أحدهم الخاص من أول القصة إلى آخرها - فما إن يذهبوا بأخي يوسف بعدما طلبه منهم وهم لا يعرفونه يحسبون أنه عزيز مصر الذي قدموا من بلادهم - كنعان - ليشتروا منه القمح في سنوات الجدب العجاف ، حيث يدبر الله ليوسف أن يأخذ أخاه منهم بحجة أنه وجد صواع الملك في رحله . . ما إن يروا هذا التدبير - وهم لا يعلمون ما وراءه - حتى ينفجر حقدهم القديم على يوسف :
( قالوا : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ! فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم . قال : أنتم شر مكانا ، والله أعلم بما تصفون ) . .
كذلك نجدهم - هم هم - بعد مواجهة أبيهم بالفجيعة الثانية في شيخوخته الحزينة ، فما إن يروا تجدد حزنه على يوسف حتى ينفجر حقدهم القديم ، دون مراعاة لشيخوخة أبيهم ونكبته الأليمة :
وتولى عنهم وقال : يا أسفا على يوسف ! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم . قالوا : تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ! . .
ومثلها عندما أرسل يوسف قميصه إلى أبيه في النهاية - بعدما كشف لهم عن شخصيته - فلما رأوا أباهم يستنشق عبير يوسف ، غاظهم هذا الاتصال الباطني الدال على عمق ما بينه وبين يوسف ، فلم يملكوا أنفسهم أن يبكتوه ويؤنبوه :
( ولما فصلت العير قال أبوهم : إني لأجد ريح يوسف ، لولا أن تفندون ! قالوا : تالله إنك لفي ضلالك القديم ! ) . .
وامرأة العزيز . . في صرع الشهوة التي تعمي عن كل شيء في اندفاعها الهائج الكاسح ، فلا تحفل حياء أنثويا ولا كبرياء ذاتيا ، كما لا تحفل مركزا اجتماعيا ولا فضيحة عائلية . . والتي تستخدم - مع ذلك - كل مكر الأنثى وكيدها ، سواء في تبرئة نفسها أو حماية من تهوى من جرائر التهمة التي ألصقتها به ، وتحديد عقوبة لا تودي بحياته ! أو رد الكيد للنسوة من ثغرة الضعف الغريزي الشهوي الذي تعرفه فيهن من معرفتها لنفسها ! أو التبجح بشهوانيتها أمام انكشاف ضعف عزيمتها وكبريائها أمام من تهوى ، ووقوف نسوتها معها على أرض واحدة ، حيث تبدو فيها الأنثى متجردة من كل تجمل المرأة وحيائها ، الأنثى التي لا تحس فيإرواء هواتفها الأنثوية أمرا يعاب أصلا ! ومع صدق التصوير والتعبير عن هذا النموذج البشري الخاص بكل واقعيته ، وعن هذه اللحظة الخاصة بكل طبيعيتها ، فإن الأداء القرآني - الذي ينبغي أن يكون هو النموذج الأعلى للأداء الفني الإسلامي - لم يتخل عن طابعه النظيف مرة واحدة - حتى وهو يصور لحظة التعري النفسي والجسدي الكامل بكل اندفاعها وحيوانيتها - لينشيء ذلك المستنقع الكريه الذي يتمرغ في وحله كتاب " القصة الواقعية " وكتاب " القصة الطبيعية " في هذه الجاهلية النكدة بحجة الكمال الفني في الأداء !
( وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا . وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ، ولنعلمه من تأويل الأحاديث ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ، وكذلك نجزي المحسنين . وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ، وغلقت الأبواب وقالت : هيت لك ! قال : معاذ الله ! إنه ربي أحسن مثواي ، إنه لا يفلح الظالمون . ولقد همت به وهم بها ، لولا أن رأى برهان ربه . كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين . واستبقا الباب ، وقدت قميصه من دبر ، وألفيا سيدها لدى الباب ، قالت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ؟ ! قال : هي راودتني عن نفسي ، وشهد شاهد من أهلها : إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين . وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين . فلما رأى قميصه قد من دبر قال : إنه من كيدكن ، إن كيدكن عظيم ! يوسف أعرض عن هذا ، واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ! . . وقال نسوة في المدينة : امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ! قد شغفها حبا ! إنا لنراها في ضلال مبين ! فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن ، وأعتدت لهن متكأ ، وآتت كل واحدة منهن سكينا ، وقالت : اخرج عليهن ! فلما رأينه أكبرنه ، وقطعن أيديهن ، وقلن : حاش لله ! ما هذا بشرا ، إن هذا إلا ملك كريم . قالت : فذلكن الذي لمتنني فيه ! ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين . قال : رب ، السجن أحب إلى مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين . فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن ، إنه هو السميع العليم . . )
" وكذلك حين نلتقي بها مرة أخرى بعدما دخل يوسف السجن بسبب كيدها وكيد النسوة ؛ وبقي هناك حتى رأى الملك رؤياه ، وتذكر الفتى الذي كان سجينا معه أن يوسف هو وحده الذي يعرف تأويل الرؤيا ، فطلب الملك أن يأتوه به ، فأبى حتى يحقق قضيته ، ويبريء ساحته ، فاستدعاها الملك مع النسوة . وإذا بها ما تزال المرأة المحبة ، مع التغير الطبيعي الواقعي الذي يحدثه الزمن والعمر والأحداث والظروف ؛ ومع تسرب الإيمان الذي تعرفه من يوسف من خلال تلك المشاعر والمؤثرات جميعا :
( وقال الملك : ائتوني به . فلما جاءه الرسول قال : ارجع إلى ربك فاسأله : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ؟ إن ربي بكيدهن عليم . قال : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ قلن : حاش لله ! ما علمنا عليه من سوء . قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين . ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين . وما أبريء نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم . . )
ويوسف . . العبد الصالح - الإنسان - لم يزور الأداء القرآني في شخصيته الإنسانية لمحة واحدة ؛ وهو يواجه الفتنة بكل بشريته - مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه - وبشريته مع نشأته وتربيته ودينه تمثل بمجموعها واقعيته بكل جوانبها . . لقد ضعف حين همت به حتى هم بها ؛ ولكن الخيط الآخر شده وأنقذهمن السقوط فعلا . ولقد شعر بضعفه إزاء كيد النسوة . ومنطق البيئة ، وجو القصور ، ونسوة القصور أيضا ! ولكنه تمسك بالعروة الوثقى . . ليست هنالك لمحة واحدة مزورة في واقعية الشخصية وطبيعتها ؛ وليس هنالك رائحة من مستنقعات الجاهلية ووحلها الفني ! ذلك أن هذا هو الواقع السليم بكل جوانبه . .
والعزيز . . وشخصيته بطبيعتها الخاصة ، وبطبيعة سمت الإمارة ؛ ثم بضعف النخوة ، وغلبة الرياء الاجتماعي وستر الظواهر وإنقاذها ! وفيه تتمثل كل خصائص بيئته :
( فلما رأى قميصه قد من دبر ، قال : إنه من كيدكن ، إن كيدكن عظيم . يوسف أعرض عن هذا ، واستغفري لذنبك ، إنك كنت من الخاطئين ! ) . .
والنسوة . . نسوة هذا المجتمع بكل ملامحه . . اللغط بسيرة امرأة العزيز وفتاها الذي راودته عن نفسه ، بعدما شغفها حبا ! والاستنكار الذي تبدو فيه غيرة النسوة من امرأة العزيز أكثر مما يبدو فيه استنكار الفعلة ! ثم وهلتهن أمام طلعة يوسف . قم إقرارهن الأنثوي العميق بموقف المرأة التي كن يلغطن بقصتها ويستنكرن موقفها ؛ وإحساس هذه المرأة بهذا الإقرار الذي يشجعها على الاعتراف الكامل ، وهي آمنة في ظل استسلامهن لأنوثتهن كما تصنعها بيئتهن الخاصة وتوجهها . ثم ميلهن كلهن على يوسف بالإغراء والإغواء ، رغم ما أنطقتهن به الوهلة الأولى من نظافته وطهارته البادية من قولهن : ( حاش لله ! ما هذا بشرا ، إن هذا إلا ملك كريم ) . . نأخذ ذلك من قولة يوسف عليه السلام :
( قال : رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ) . .
فلم تعد امرأة العزيز وحدها تراوده ؛ ولكن عادت نسوة تلك الطبقة بجملتها تطارده !
والبيئة . . التي تتجلى سماتها من خلال ذلك كله . ثم من خلال ذلك التصرف في أمر يوسف ، على الرغم مما بدا من براءته . ذلك التصرف المقصود به مواراة الفضيحة ودفن معالمها ؛ ولا يهم أن يذهب بريء كيوسف ضحيتها :
( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) . .
فإذا تابعنا شخصية يوسف - عليه السلام - فإننا لا نفتقد في موقف واحد من مواقف القصة ملامح هذه الشخصية ، المنبثقة من مقوماتها الذاتية البيئية الواقعية ، المتمثلة في كونه " العبد الصالح - الإنسان - بكل بشريته ، مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه " . .
فهو في السجن وظلماته - مع الظلم وظلماته ! - لا يغفل عن الدعوة لدينه ، في كياسة وتلطف - مع الحزم والفصل - وفي إدراك لطبيعة البيئة ومداخل النفوس فيها . . كما أنه لا يغفل عن حسن تمثيله بشخصه وأدبه وسلوكه لدينه هذا الذي يدعو إليه في سجنه :
( ودخل معه السجن فتيان . قال أحدهما : إني أراني أعصر خمرا ، وقال الآخر : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه . نبئنا بتأويله ، إنا نراك من المحسنين . قال : لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ، ذلكما مما علمني ربي ، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون . يا صاحبي السجن ، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن الحكم إلا لله ، )أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . يا صاحبي السجن ، أما أحدكما فيسقي ربه خمرا ، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه ، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) . .
وهو - مع هذا كله - بشر ، فيه ضعف البشر . فهو يتطلب الخلاص من سجنه ، بمحاولة إيصال خبره إلى الملك ، لعله يكشف المؤامرة الظالمة التي جاءت به إلى السجن المظلم . وإن كان الله - سبحانه - شاء أن يعلمه أن يقطع الرجاء إلا منه وحده :
( وقال للذي ظن أنه ناج منهما : اذكرني عند ربك . فأنساه الشيطان ذكر ربه . فلبث في السجن بضع سنين . . . ) .
ثم تطالعنا ملامح هذه الشخصية كذلك بعد بضع سنين ، وقد رأى الملك رؤياه ، فحار في تأويلها الكهنة والسدنة ؛ حتى تذكر صاحب السجن يوسف - بعدما تمت التربية الربانية للعبد الصالح ، فاطمأن إلى قدر الله به واطمأن إلى مصيره - حتى إذا ما طلب الملك - بعد تأويله لرؤياه - أن يأتوه به ، أجاب في هدوء المطمئن الواثق ؛ وتمنع عن مغادرة سجنه إلا بعد تحقيق تهمته وتبرئة سمعته :
( وقال الملك : إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات . يا أيها الملأ أفتوني في رؤيايي ، إن كنتم للرؤيا تعبرون . قالوا : أضغاث أحلام ، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين . وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة : أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون . يوسف أيها الصديق ، أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون . قال : تزرعون سبع سنين دأبا ، فما حصدتم فذروه في سنبله ، إلا قليلا مما تأكلون . ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن . إلا قليلا مما تحصنون . ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون . . وقال الملك : ائتوني به . . فلما جاءه الرسول قال : ارجع إلى ربك فاسأله : ما بال النسوة اللآتي قطعن أيديهن ؟ إن ربي بكيدهن عليم . قال : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ قلن : حاش لله ! ما علمنا عليه من سوء . قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين . ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنيين . وما أبريء نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء ، إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم . . وقال الملك : ائتوني به أستخلصه لنفسي ، فلما كلمه قال : إنك اليوم لدينا مكين أمين . قال : اجعلني على خزائن الأرض ، إني حفيظ عليم . . )
ومنذ هذه اللحظة التي تجلت فيها شخصية يوسف مكتملة ناضجة واعية ، مطمئنة ساكنة واثقة ، نجد هذه الشخصية تتفرد على مسرح الأحداث ، وتتوارى تماما شخصيات الملك والعزيز والنسوة والبيئة . ويمهد السياق القرآني لهذا التحول في القصة وفي الواقع بقوله :
( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ، نصيب برحمتنا من نشاء . ولا نضيع أجر المحسنين ، ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ) . .
ومنذ هذه اللحظة نجد هذه الشخصية تواجه ألوانا أخرى من الابتلاءات ، تختلف في طبيعتها عن الألوان الأولى ؛ وتواجهها بذلك الاكتمال الناضج الواعي ، وبتلك الطمأنينة الساكنة الواثقة .
نجد يوسف وهو يواجه - للمرة الأولى - إخوته بعدما فعلوا به تلك الفعلة القديمة ؛ وهو في الموقف الأعلى بالقياس إليهم والأقوى . . ولكننا نجد سمة الضبط واضحة في انفعالاته وتصرفاته :
( وجاء أخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون . ولما جهزهم بجهازهم قال : ائتوني بأخ لكم من أبيكم ، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ؟ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون . قالوا : سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون . وقال لفتيانه : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ) . .
ونجده وهو يدبر - بتدبير الله له - كيف يأخذ أخاه . فنلمح الشخصية الناضجة الواعية الحكيمة المطمئنة ، الضابطة الصابرة :
( ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه : قال : إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون . فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ؛ ثم أذن مؤذن : أيتها العير إنكم لسارقون . قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون ؟ قالوا : نفقد صواع الملك ، ولمن جاء به حمل بعير ، وأنا به زعيم . قالوا : تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ، وما كنا سارقين . قالوا : فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ؟ قالوا : جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ، كذلك نجزي الظالمين . فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، ثم استخرجها من وعاء أخيه . . كذلك كدنا ليوسف ، ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ، إلا أن يشاء الله ، نرفع درجات من نشاء ، وفوق كل ذي علم عليم . قالوا : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ! فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ، قال : أنتم شر مكانا ، والله أعلم بما تصفون . قالوا : يا أيها العزيز ، إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه ، إنا نراك من المحسنين . قال : معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ، إنا إذا لظالمون . . )
ثم نلتقي به وقد استوفت المحنة بيعقوب أجلها ، وقدر الله أن تنقضي الابتلاءات التي نزلت به وببيته ، وحن يوسف إلى أبويه وأهله ، ورق لأخوته والضر باد بهم ، فكشف لهم عن نفسه ، في عتاب رقيق ، وفي عفو كريم ، يجيء في أوانه ، وكل الملابسات توحي به ، وتتوقعه من هذه الشخصية بسماتها تلك :
( فلما دخلوا عليه قالوا : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ، وجئنا ببضاعة مزجاة . فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ، إن الله يجزي المتصدقين . قال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ؟ قالوا : أئنك لأنت يوسف ؟ قال : أنا يوسف ، وهذا أخي ، قد من الله علينا ، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين . قالوا : تالله لقد آثرك الله علينا ، وإن كنا لخاطئين . قال : لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم ، وهو أرحم الراحمين . اذهبوا بقميصي هذه فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ، وأتوني بأهلكم أجمعين . . )
وفي النهاية يجيء ذلك الموقف الجليل الرائع . . موقف اللقاء الجامع ويوسف في أوج سلطانه وأوج تأويل رؤياه وتحقق أحلامه . . وإذا به ينسلخ من هذا كله وينتحي جانبا ينفرد بربه ، ويناجيه خالصا له ، وذلك كله مطروح وراءه :
( رب قد آتيتني من الملك ، وعلمتني من تأويل الأحاديث . فاطر السماوات والأرض . أنت ولي في الدنيا والآخرة . توفني مسلما وألحقني بالصالحين . . )
إنها شخصية موحدة متكاملة ، بكل واقعيتها الممثلة لمقوماتها الواقعية في نشأتها وبيئتها .
ويعقوب . . الوالد المحب الملهوف ، والنبي المطمئن الموصول ، وهو يواجه بالاستبشار والخوف معا تلك الرؤيا الواعدة التي رآها يوسف ؛ وهو يرى فيها بشائر مستقبل مرموق ، بينما هو يتوجس خيفة من الشيطان وفعله في نفوس بنيه . فتتجلى شخصيته بواقعيتها الكاملة في كل جوانبها :
( إذ قال يوسف لأبيه : يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . قال : )( يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا . إن الشيطان للإنسان عدو مبين . وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق ، إن ربك عليم حكيم ) .
ثم نجد هذه الشخصية كذلك بكل واقعيتها البشرية النبوية ، وبنوه يراودونه عن يوسف ثم وهم يفاجئونه بالفجيعة :
( قالوا : يا أبانا ، مالك لا تأمنا على يوسف ، وإنا له لناصحون . أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ، وإنا له لحافظون . قال : إني ليحزنني أن تذهبوا به ، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون . قالوا : لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون . فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ، وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون . وجاءوا أباهم عشاء يبكون ، قالوا : يا أبانا ، إنا ذهبنا نستبق ، وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ؛ فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون . . )
ثم نلتقي بهذه الشخصية - بكل واقعيتها تلك - وبنوه يراودونه مرة أخرى على السلوة الباقية له . . أخي يوسف . . وقد طلبه منهم عزيز مصر - يوسف - الذي لا يعرفونه ! في مقابل أن يعطيهم كيلا يقتاتون به في السنوات العجاف !
( فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا : يا أبانا منع منا الكيل ، فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون : قال : هلى آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ؟ فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين . ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ، قالوا : يا أبانا ما نبغي ، هذه بضاعتنا ردت إلينا ، ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ، ونزداد كيل بعير ، ذلك كيل يسير . قال : لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله : لتأتنني به إلا أن يحاط بكم . فلما آتوه موثقهم قال : الله على ما نقول وكيل . . وقال : يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ، وما أغنى عنكم من الله من شيء ، إن الحكم إلا لله ، عليه توكلت ، وعليه ففليتوكل المتوكلون . ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء ، إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها ، وإنه لذو علم لما علمناه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . . )
ثم نلتقي به في فجيعته الثانية . . والدا ملهوفا ونبيا موصولا . . ذلك بعد أن دبر الله ليوسف كيف يأخذ أخاه . فيتخلف أحد أبناء يعقوب - صاحب الشخصية الخاصة فيهم ، متوافيا مع سماته التي صاحبت مواقفه كلها في القصة ، مشفقا أن يقابل أباه بعد الموثق الذي آتاه إياه . إلا أن يأذن له أبوه أو يحكم له الله - :
( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ، قال كبيرهم : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ، ومن قبل ما فرطتم في يوسف ؟ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين . ارجعوا إلى أبيكم فقولوا : يا أبانا إن ابنك سرق ! وما شهدنا إلا بما علمنا ، وما كنا للغيب حافظين . واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ، وإنا لصادقون . قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم . وتولى عنهم وقال : يا أسفا على يوسف ! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم . قالوا : تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ! قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون . يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . . )
وفي آخر مواقف المحنة الطويلة للشيخ المبتلي نجد ذات الملامح وذات الواقعية . وهو يشم ريح يوسف في قميصه ، ويواجه غيظ بنيه وتبكيتهم فلا يشك في صدق ظنه بربه :
( ولما فصلت العير قال أبوهم : إني لأجد ريح يوسف ، لولا أن تفندون . قالوا : تالله إنك لفي ضلالك القديم . فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا . قال : ألم أقل لكم : إني أعلم من الله ما لا تعلمون ؟ قالوا : يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين . قال : سوف استغفر لكم ربي ، إنه هو الغفور الرحيم )
إنها الشخصية الموحدة الخصائص والملامح ، الواقعية المشاعر والتصرفات ، الممثلة لكل واقعية ذاتها وظروفها وبيئتها بلا تزوير ولا نقص ولا تحريف !
والواقعية الصادقة الأمنية النظيفة السليمة في الوقت نفسه ، لا تقف عند واقعية الشخصيات الإنسانية التي تحفل بها القصة في هذا المجال الواسع ، على هذا المستوى الرائع . ولكنها تتجلى كذلك في واقعية الأحداث والسرد والعرض وصدقها وطبيعيتها في مكانها وزمانها ، وفي بيئتها وملابساتها . . فكل حركة وكل خالجة وكل كلمة تجيء في أوانها ؛ وتجيء في الصورة المتوقعة لها ؛ وتجيء في مكانها من مسرح العرض ؛ متراوحة بين منطقة الظل ومنطقة الضوء بحسب أهميتها ودورها وطبيعة جريان الحياة بها . . الأمر الملحوظ في الشخصيات أيضا كما قررنا من قبل هذا . .
حتى لحظات الجنس في القصة ومواقفه أخذت مساحتها كاملة - في حدود المنهج النظيف اللائق " بالإنسان " في غير تزوير ولا نقص ولا تحريف للواقعية البشرية في شمولها وصدقها وتكاملها - ولكن استيفاء تلك اللحظات لمساحتها المتناسقة مع بقية الأحداث والمواقف لم يكن معناه الوقوف أمامها كما لو كانت هي كل واقعية الكائن البشري ؛ وكما لو كانت هي محور حياته كلها ، وهي كل أهداف حياته التي تستغرقها ! كما تحاول الجاهلية أن تفهمنا أن هذا وحده هو الفن الصادق !
إن الجاهلية إنما تمسخ الكائن البشري باسم الصدق الفني ! وهي تقف أمام لحظة الجنس كما لو كانت هي كل وجهة الحياة البشرية بجملتها ؛ فتنشيء منها مستنقعا واسعا عميقا ، مزينا في الوقت ذاته بالأزهار الشيطانية !
وهي لا تفعل هذا لأن هذا هو الواقع ، ولا لأنها هي مخلصة في تصوير هذا الواقع ! إنما تفعله لأن " بروتوكولات صهيون " تريد هذا ! تريد تجريد " الإنسان " إلا من حيوانيته حتى لا يوصم اليهود وحدهم بأنهم هم الذين يتجردون من كل القيم غير المادية ! وتريد أن تغرق البشرية كلها في وحل المستنقع كي تنحصر فيه كل اهتماماتها ، وتستغرق فيه كل طاقاتها ؛ فهذه هي أضمن سبيل لتدمير البشرية حتى تجثو على ركبتيها خاضعة لملك صهيون المرتقب الملعون ! ثم تتخذ من الفن وسيلة إلى هذا الشر كله ، إلى جانب ما تتخذه من نشر المذاهب " العلمية ! " المؤدية إلى ذات الهدف . تارة باسم " الداروينية " وتارة باسم " الفرويدية " وتارة باسم " الماركسية " أو " الاشتراكية العلمية " . . وكلها سواء في تحقيق المخططات الصهيونية الرهيبة !
والقصة بعد ذلك تتجاوز الشخصيات والأحداث لترسم ظلال الفترة التاريخية التي تجري فيها أحداث القصة ، وتتحرك فيها شخصياتها الكثيرة ، وتسجل سماتها العامة ، فترسم مسرح الأحداث بأبعاده العالمية في تلك الفترة التاريخية . . ونكتفي ببعض اللمحات والسهام التي ترسم تلك الأبعاد :
إن مصر في هذه الفترة لم يكن يحكمها الفراعنة من الأسر المصرية ؛ إنما كان يحكمها " الرعاة " الذين عاش إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قريبا منهم ، فعرفوا شيئا عن دين الله منهم . نأخذ هذا من ذكر القرآن للملك بلقب " الملك " في حين يسمى الملك الذي جاء على عهد موسى - عليه السلام - من بعد بلقبه المعروف . " فرعون " . . ومن هذا يتحدد زمن وجود يوسف - عليه السلام - في مصر . فهو كان ما بين عهد الأسرة الثالثة عشرة والأسرة السابعة عشرة ؛ وهي أسر " الرعاة " الذين سماهم المصريون " الهكسوس " ! كراهية لهم ؛ إذ يقال : إن معنى الكلمة في اللغة المصرية القديمة : " الخنازير " أو " رعاة الخنازير " ! وهي فترة تستغرق نحو قرن ونصف قرن .
إن رسالة يوسف عليه السلام كانت في هذه الفترة . وهو كان قد بدأ الدعوة إلى الإسلام . . ديانة التوحيد الخالص . . وهو في السجن ؛ وقرر أنها دين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ وقررها في صورة واضحة كاملة دقيقة شاملة ، فيما حكاه القرآن الكريم من قوله :
( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ، وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون . يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن الحكم إلا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
وهي صورة للإسلام واضحة كاملة ودقيقة وشاملة - كما جاء به رسل الله جميعا - من ناحية أصول العقيدة . تحتوي ، الإيمان بالله ، والإيمان بالآخرة ، وتوحيد الله وعدم الشرك به أصلا ، ومعرفة الله سبحانه بصفاته . . الواحد ، القهار . . والحكم بعدم وجود حقيقة ولا سلطان لغيره أصلا ؛ ومن ثم نفى الأرباب التي تتحكم في رقاب العباد ، وإعلان السلطان والحكم لله وحده ، ما دام أن الله أمر ألا يعبد الناس غيره . ومزاولة السلطان والحكم والربوبية هي تعبيد للناس مخالف للأمر بعبادة الله وحده . وتحديد معنى " العبادة " بأنها الخضوع للسلطان والحكم والإذعان للربوبية ، وتعريف الدين القيم بأنه إفراد الله سبحانه بالعبادة - أي إفراده بالحكم - فهما مترادفان أو متلازمان : ( إن الحكم إلا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم ) . . وهذه هي أوضح صورة للإسلام وأكملها وأدقها وأشملها . .
وواضح أن يوسف - عليه السلام - عندما سيطر على مقاليد الأمور في مصر ، استمر في دعوته للإسلام على هذا النحو الواضح الكامل الدقيق الشامل . . ولا بد أن الإسلام انتشر في مصر على يديه - وهو يقبض على أقوات الناس وأزوادهم لا على مجرد مقاليد الحكم بينهم - وانتشر كذلك في البقاع المجاورة ممن كانت وفودها تجيء لتقتات مما تم ادخاره بحكمته وتدبيره - وقد رأينا إخوة يوسف يجيئون من أرض كنعان المجاورة في الأردن ضمن غيرهم من القوافل ليمتاروا من مصر ويتزودوا ، مما يصور حالة الجدب التي حلت بالمنطقة كلها في هذه الفترة .
والقصة تشير إلى آثار باهتة للعقيدة الإسلامية التي عرف الرعاة شيئا عنها في أول القصة ، كما تشير إلى انتشار هذه العقيدة ووضوحها بعد دعوة يوسف بها .
والإشارة الأولى وردت في حكاية قول النسوة حين طلع عليهن يوسف :
( فلما رأينه أكبرنه ، وقطعن أيديهن وقلن : حاش لله ! ما هذا بشرا . إن هذا إلا ملك كريم ) . .
( يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك ؛ إنك كنت من الخاطئين ) . .
أما الإشارة الثانية الواضحة فقد جاءت على لسان امرأة العزيز التي يتجلى أنها آمنت بعقيدة يوسف وأسلمت في النهاية ، فيما حكاه عنها السياق القرآني :
قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين ، ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين . وما ابريء نفسي . إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم . .
وإذا اتضح أن ديانة التوحيد - على هذا المستوى - كانت قد عرفت قبل تولي يوسف مقاليد الحكم في مصر ؛ فلا بد أن تكون قد انتشرت بعد ذلك واستقرت على نطاق واسع في أثناء توليه الحكم ، ثم من بعد ذلك في عهد أسر الرعاة . فلما استرد الفراعنة زمام الأمور في الأسرة الثامنة عشرة أخذوا يقاومون ديانة التوحيد ممثلة في ذرية يعقوب التي تكاثرت في مصر ، لإعادة الوثنية التي تقوم عليها الفرعونية ! . . .
وهذا يكشف لنا سببا أصيلا من أسباب اضطهاد الفراعنة بعد ذلك لبني إسرائيل - أي يعقوب - إلى جانب السبب السياسي ، وهو أنهم جاءوا واستوطنوا وحكموا واستقروا في عهد ملوك الرعاة الوافدين . فلما طرد المصريون ملوك الرعاة طاردوا حلفاءهم من بني إسرائيل أيضا . . وإن كان اختلاف العقيدتين ينبغي أن يكون هو التفسير الأقوى لذلك الاضطهاد الفظيع . ذلك أن انتشار عقيدة التوحيد الصحيحة يحطم القاعدة التي يقوم عليها ملك الفراعين ! فهي العدو الأصيل للطواغيت وحكم الطواغيت وربوبية الطواغيت !
ولقد وردت إشارة إلى هذا الذي نقرره في حكاية القرآن الكريم لقول مؤمن آل فرعون في سورة غافر ؛ في دفاعه الإسلامي المجيد عن موسى عليه السلام ، في وجه فرعون وملئه عندما هم فرعون بقتل موسى ، ليقتل معه الخطر الذي يتهدد ملكه كله من عقيدة التوحيد التي جاء بها موسى :
( وقال فرعون : ذروني أقتل موسى وليدع ربه ، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد . وقال موسى : إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب . وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلا أن يقول : ربي الله ؟ وقد جاءكم بالبينات من ربكم ، وإن يك كاذبا فعليه كذبه ، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب . يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض . فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ؟ قال فرعون : ما أريكم إلا ما أرى . وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . وقال الذي آمن : يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب . مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، وما الله يريد ظلما للعباد ، ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد . يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ، ومن يضلل الله فما له من هاد . . ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به ، حتى إذا هلك قلتم : لن يبعث الله من بعده رسولا ، كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب . الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم . كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا ! كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر . . ) الخ . .
فقد كان الصراع الحقيقي بين عقيدة التوحيد التي تفرد الله سبحانه بالربوبية ، فتفرده بالعبادة - أي بالدينونة والخضوع والاتباع لحاكميته وحده - وبين الفرعونية التي تقوم على أساس العقيدة الوثنية ، ولا تقوم إلا بها .
ولعل التوحيد الناقص المشوه الذي عرف به " أخناتون " لم يكن إلا أثرا من الآثار المضطربة التي بقيتمن التوحيد الذي نشره يوسف عليه السلام في مصر كما أسلفنا ؛ وبخاصة إذا صح ما يقال في التاريخ من أن أم أخناتون كانت آسيوية ولم تكن فرعونية !
وبعد هذا الاستطراد نعود إلى اللمحات الدالة على طبيعة الفترة التاريخية التي وقعت فيها أحداث القصة وتحركت فيها أشخاصها . فنجدها تتجاوز حدود الرقعة المصرية ، وتسجل طابع العصر كله . فواضح تماما انطباع هذه الفترة الزمنية بالرؤى والتنبؤات التي لا تقتصر على أرض واحدة ، ولا على قوم بأعيانهم . . ونحن نرى هذه الظاهرة واضحة في رؤيا يوسف وتعبيرها وتأويلها في النهاية . وفي رؤيا الفتيين صاحبي السجن . وفي رؤيا الملك في النهاية . . وكلها تتلقى بالاهتمام سواء ممن يرونها أو ممن يسمعونها مما يشي بطابع العصر كله !
وعلى وجه الإجمال فإن القصة غنية بالعناصر الفنية . غنية كذلك بالعنصر الإنساني ،
هذا الدرس هو المقدمة ، ثم الحلقة الأولى من القصة ، وتتألف من ستة مشاهد ، وتبدأ من رؤيا يوسف إلى نهاية مؤامرة إخوته عليه ، ووصوله إلى مصر . . وسنواجه النصوص الواردة فيه مباشرة ، بعد ذلك التقديم السابق للسورة ، وفيه غناء :
( ألر . تلك آيات الكتاب المبين . إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) . .
ألف . لام . را . . تلك آيات الكتاب المبين . .
هذه الأحرف وما من جنسها وهي قريبة للناس متداولة بينهم . هي هي بعينها تلك الآيات البعيدة المتسامية على الطاقة البشرية . آيات الكتاب المبين .
{ الَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } .
قال أبو جعفر محمد بن جرير : قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، والقول الذي نختاره في تأويل ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا .
وأما قوله : { تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : تلك آيات الكتاب المبين : بين حلاله وحرامه ، ورشده وهداه . ذكر من قال ذلك :
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة الفلسطيني ، قال : أخبرني عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه ، في قول الله تعالى : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، قال : بين حلاله وحرامه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، أي : والله لمبين تركيبه هداه ورشده .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، قال : بين الله رشده وهداه .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة ، قال : حدثنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ ، أنه قال في قول الله عزّ وجلّ : { الكِتابِ المُبِينِ } ، قال بين الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم ؛ وهي : ستة أحرف .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : معناه : هذه آيات الكتاب المبين ، لمن تلاه وتدبر ما فيه من حلاله وحرامه ونهيه وسائر ما حواه من صنوف معانيه ، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه مبين ، ولم يخصّ إبانته عن بعض ما فيه دون جميعه ، فذلك على جميعه ، إذ كان جميعه مبينا عما فيه .
{ آلر تلك آيات الكتاب المبين } { تلك } إشارة إلى آيات السورة وهي المراد ب { الكتاب } ، أي تلك الآيات آيات السورة الظاهرة أمرها في الإعجاز أو الواضحة معانيها ، أو المبينة لمن تدبرها أنها من عند الله ، أو لليهود ما سألوا إذ روي أن علماءهم قالوا لكبراء المشركين سلوا محمدا لم أنتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف عليه السلام فنزلت .
بسم الله الرحمن الرحيم سورة يوسف . هذه السورة مكية{[1]} ويروى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة بسبب ذلك ، ويروى أن اليهود أمروا كفار مكة أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت السورة . وقيل سبب نزولها تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يفعله به قومه بما فعل إخوة يوسف بيوسف . وسورة يوسف لم يتكرر من معناها في القرآن شيء كما تكررت قصص الأنبياء{[2]} ففيها حجة على من اعترض بأن الفصاحة تمكنت بترداد القول ، وفي تلك القصص حجة على من قال في هذه لو كررت لفترت فصاحتها .
تقدم القول في فواتح السور ، و { الكتاب } القرآن ، ووصفه ب { المبين } قيل : من جهة أحكامه وحلاله وحرامه ، وقيل : من جهة مواعظه وهداه ونوره ، وقيل : من جهة بيان اللسان العربي وجودته إذ فيه ستة أحرف لم تجتمع في لسان{[6551]} - روي هذا القول عن معاذ بن جبل - ويحتمل أن يكون مبيناً لنبوة محمد بإعجازه .