معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة .

{ الر تلك آيات الكتاب المبين } ، أي : البين حلاله وحرامه ، وحدوده وأحكامه . قال قتادة : مبين- والله- بركته وهداه ورشده ، فهذا من بان أي : ظهر . وقال الزجاج : مبين الحق من الباطل والحلال من الحرام ، فهذا من أبان بمعنى أظهر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة يوسف مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة

هذه السورة ، نزلت بعد سورة هود ، في تلك الفترة الحرجة التي تحدثنا عنها في تقدسم سورة يونس وفي تقديم سورة هود . . بين عام الحزن بموت أبي طالب وخديجة سندي رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وبين بيعة العقبة الأولى ثم الثانية التي جعل الله فيهما للرسول –صلى الله عليه وسلم- وللعصبة المسلمة معه وللدعوة الإسلامية فرجا ومخرجا بالهجرة إلى المدينة . . وعلى هذا فالسورة واحدة من السور التي نزلت في تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة وفي حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- والعصبة المسلمة معه في مكة . .

والسورة مكية بجملتها ، على خلاف ما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات ( 1 ، 2 ، 3 ، 7 ) منها مدنية . ذلك أن ألايات الثلاث الأولى هذا نصها :

( ألر تلك آيات الكتاب المبين . إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وإن كنت من قبله لمن الغافلين )

وهذه الآيات هي مقدمة طبيعية لما جاء بعدها مباشرة من البدء في قصة يوسف عليه السلام . . ونص الآية التالية في السياق هو :

( إذ قال يوسف لأبيه : يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . . . )

ثم تمضي القصة بعد ذلك في طريقها إلى النهاية :

فالتقديم لهذه القصة بقول الله تعالى : ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أو حينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) يبدو هو التقديم الطبيعي المصاحب لنزول القصة . . .

وكذلك هذه الأحرف المقطعة ( الر ) وتقرير ، أنها آيات الكتابالمبين . ثم تقرير أن الله أنزل هذا الكتاب قرآنا عربيا . . هو كذلك من جو القرآن المكي ، ومواجهة المشركين في مكة بعربية القرآن الذي كانوا يدعون أن أعجميا يعلمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ! وتقرير أنه وحي من الله كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الغافلين عن اتجاهه وموضوعاته .

ثم إن هذا التقديم يتناسق مع التعقيب على القصة في نهايتها ، وهو قول الله تعالة :

( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) .

فهناك حبكة بين التقدمة للقصة والتعقيب عليها ؛ ظاهر منها نزول التقدمة مع القصة والتعقيب .

أما الآية السابعة فالسياق لا يستقيم بدونها أصلا ؛ ولا يتأتى أن تكون السورة قد نزلت في مكة وهي ليست من سياقها ثم أضيفت إليها في المدينة ! ذلك أن في الآية الثامنة ضميرا يعود على يوسف وإخوته في هذه الآية السابعة ، بحيث لا يستقيم نزول الآية الثامنة دون أن تكون معها الآية السابقة . وهذا نصها :

لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين . إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلي أبينا منا ونحن عصبة ، إن أبانا لفي ضلال مبين . .

مما يقطع بأن الآيتين نزلتا معا ، في سياق السورة الموصول .

والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وفي إيحاءاتها . بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة . . ففي الوقت الذي كان رسول الله [ ص ] يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش - منذ عام الحزن - وتعاني معه الجماعة المسلمة هذه الشدة ، كان الله - سبحانه - يقص على نبيه الكريم قصة أخ له كريم - يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين - وهو يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات : محنة كيد الإخوة . ومحنة الجب والخوف والترويع فيه . ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه ، ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله . ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة ، وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة ! ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز . ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه ، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم ، وفي يديه لقمة الخبز التي تقوتهم ! ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته الذين ألقوه في الجب وكانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات كلها . . هذه المحن والابتلاءات التي صبر عليها يوسف - عليه السلام - وزاول دعوته إلى الإسلام من خلالها ، وخرج منها كلها متجردا خالصا ؛ آخر توجهاته ، وآخر اهتماماته ، في لحظة الانتصار على المحن جميعا ؛ وفي لحظة لقاء أبويه ولم شمله ؛ وفي لحظة تأويل رؤياه وتحققها كما رآها : ( إذ قال يوسف لأبيه : يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر . رأيتهم لي ساجدين ) . . آخر توجهاته وآخر اهتماماته في هذه اللحظة هي التوجه المخلص المتجرد المنيب إلى ربه ، منخلعا من هذا كله بكليته كما يصوره القرآن الكريم :

فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ، وقال : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين . ورفع أبويه على العرش ، وخروا له سجدا . وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ، وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ، إن ربي لطيف لما يشاء ، إنه هو العليم الحكيم . . رب قد آتيتني من الملك ، وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السماوات والأرض . أنت ولي في الدنيا والآخرة ، توفني مسلما ، وألحقني بالصالحين . .

وهكذا كانت طلبته الأخيرة . . بعد ذلك كله وهو في غمرة السلطان والرخاء ولمة الشمل . . أن يتوفاه ربه مسلما ، وأن يلحقه بالصالحين . . وذلك بعد الابتلاء والمحنة ، والصبر الطويل والانتصار الكبير . .

فلا عجب أن تكون هذه السورة . بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم ، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك ، مما يتنزل على رسول الله [ ص ] والجماعة المسلمة معه في مكة ، في هذه الفترة بالذات ، تسلية وتسرية ، وتطمينا كذلك وتثبيتا للمطاردين المغتربين المتوحشين !

لا بل أن الخاطر ليذهب بي اللحظة إلى الإحساس بالإيحاء البعيد بالإخراج من مكة إلى دار أخرى يكونفيها النصر والتمكين ؛ مهما بدا أن الخروج كان إكراها تحت التهديد ! كما أخرج يوسف من حضن أبيه ، ليواجه هذه الابتلاءات كلها . ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين :

( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ، ولنعلمه من تأويل الأحاديث ، والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

ولقد كان ذلك وهو يضع أقدامه في مصر في قصر العزيز . . حتى وهو ما يزال فتى يباع بين الرقيق . . !

وما يذهب بي الخاطر إليه اللحظة يجعلني أتذوق مذاقا خاصا - أشير إليه ولا أملك التعبير عنه ! - ذلك التعقيب الذي أعقب القصة :

( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ، أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون ؟ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين . لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ما كان حديثا يفترى ، ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل كل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) . .

إنه الإيحاء بمجرى سنة الله عندما يستيئس الرسل - كما استيأس يوسف في محنته الطويلة - والتلميح بالمخرج المكروه الذي يليه الفرج المرغوب ! . . الإيحاء والتلميح اللذان تدركهما القلوب المؤمنة ، وهي في مثل هذه الفترة تعيش ، وفي جوها تتنفس ، فتتذوق وتستشرف وتلمح الإيحاء والتلميح . من بعيد . .

والسورة ذات طابع منفرد في احتوائها على قصة يوسف كاملة . فالقصص القرآني - غير قصة يوسف - يرد حلقات ، تناسب كل حلقة منها أو مجموعة حلقات موضوع السورة واتجاهها وجوها . وحتى القصص الذي ورد كاملا في سورة واحدة كقصص هود وصالح ولوط وشعيب ورد مختصرا مجملا . أما قصة يوسف فوردت بتمامها وبطولها في سورة واحدة . وهو طابع متفرد في السور القرآنية جميعا .

هذا الطابع الخاص يتناسب مع طبيعة القصة ؛ ويؤديها أداء كاملا . . ذلك أنها تبدأ برؤيا يوسف ، وتنتهي بتأويلها . بحيث لا يناسبها أن تكون حلقة منها أو جملة حلقات في سورة وتكون بقيتها في سورة أخرى .

وهذا الطابع كفل لها الأداء الكامل في جميع الوجوه ؛ فوق تحقيقه للهدف الأصيل الذي من أجله سيقت القصة ، والتعقيبات التي تلتها .

وسنحتاج أن نقول كلمة مفصلة - بعض الشيء - عن هذا الأداء الكامل ، تكشف عن ذلك المنهج القرآني الفريد .

. . وبالله التوفيق . .

إن قصة يوسف - كما جاءت في هذه السورة - تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة ، بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسي والعقيدي والتربوي والحركي أيضا . . ومع أن المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه ، إلا أن قصة يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء !

إن القصة تعرض شخصية يوسف - عليه السلام - وهي الشخصية الرئيسية في القصة - عرضا كاملا فيكل مجالات حياتها ، بكل جوانب هذه الحياة ، وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات . وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة ؛ وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها . . ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء . وابتلاءات الفتنة بالشهوة ، والفتنة بالسلطان . وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات . . ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيا خالصا متجردا في وقفته الأخيرة ، متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة .

وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز . وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض ، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية ، وفي أوضاع خاصة من الأضواء والظلال . . وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة . متمثلة في نماذج متنوعة : نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول . . ونموذج إخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة ، ومواجهة آثار الجريمة ، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة ، متميزا فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها . . ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية ، كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك ، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها وضوح انطباعات البيئة . . ونموذج النسوة من طبقة العلية في مصر الجاهلية ! والأضواء التي تلقيها على البيئة ، ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها ، وفي إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعا . وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها ، كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة . . ونموذج " العزيز " وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه ! . . ونموذج " الملك " في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدا عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق . . وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات ، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد ، وهذا الحشد من الحركات والمشاعر . .

ومع استيفاء القصة لكل ملامح " الواقعية " السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف وفي كل خالجة . . فإنها تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة ، ذلك الأداء الصادق ، الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة . . المنهج الذي لا يهمل خلجة بشرية واقعية واحدة ، وفي الوقت ذاته لا ينشيء مستنقعا من الوحل يسميه " الواقعية " كالمستنقع الذي أنشأته " الواقعية " الغربية الجاهلية !

وقد ألمت القصة بألوان من الضعف البشري ؛ بما فيها لحظة الضعف الجنسي ، ودون أن تزور - أي تزوير - في تصوير النفس البشرية بواقعيتها الكاملة في هذه المواقف ، ودون أن تغفل أية لمحة حقيقية من لمحات النفس أو الموقف ، فإنها لم تسف قط لتنشيء ذلك المستنقع المقزز للفطرة السليمة ، ذلك الذي يسمونه في جاهلية القرن العشرين " الواقعية " أو يسمونه أخيرا " الطبيعة ! " .

وظلت القصة صورة نظيفة للأداء الواقعي الكامل مع تنوع الشخصيات وتنوع المواقف :

إخوة يوسف . . والأحقاد الصغيرة في قلوبهم تكبر وتتضخم حتى تحجب عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها ونكارتها وضخامتها ! ثم تزين لهم " المحلل الشرعي ! " الذي يخرجون به من تلك الجريمة . . ملاحظا في هذا واقعيتهم في بيئتهم الدينية - وهم أولاد نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم صلواتالله وسلامه - وانطباعات هذه البيئة في تفكيرهم ومشاعرهم وتقاليدهم ، وحاجتهم النفسية - من ثم - إلى مبرر للجريمة ، وإلى طريقة للتحلل من نكارتها وبشاعتها :

لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين . إذ قالوا : ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا - ونحن عصبة - إن أبانا لفي ضلال مبين ! اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ، وتكونوا من بعده قوما صالحين ! قال قائل منهم : لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب ، يلتقطه بعض السيارة - إن كنتم فاعلين ! - قالوا : يا أبانا ، مالك لا تأمنا على يوسف ، وإنا له لناصحون . أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ، وإنا له لحافظون ! قال : إني ليحزنني أن تذهبوا به ، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون . قالوا : لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون . فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ، وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون . وجاءوا أباهم عشاء يبكون ، قالوا : يا أبانا ، إنا ذهبنا نستبق ، وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون . .

ونحن نجدهم - هم هم - في كل مواقف القصة بعد ذلك - كما نجد موقف أحدهم الخاص من أول القصة إلى آخرها - فما إن يذهبوا بأخي يوسف بعدما طلبه منهم وهم لا يعرفونه يحسبون أنه عزيز مصر الذي قدموا من بلادهم - كنعان - ليشتروا منه القمح في سنوات الجدب العجاف ، حيث يدبر الله ليوسف أن يأخذ أخاه منهم بحجة أنه وجد صواع الملك في رحله . . ما إن يروا هذا التدبير - وهم لا يعلمون ما وراءه - حتى ينفجر حقدهم القديم على يوسف :

( قالوا : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ! فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم . قال : أنتم شر مكانا ، والله أعلم بما تصفون ) . .

كذلك نجدهم - هم هم - بعد مواجهة أبيهم بالفجيعة الثانية في شيخوخته الحزينة ، فما إن يروا تجدد حزنه على يوسف حتى ينفجر حقدهم القديم ، دون مراعاة لشيخوخة أبيهم ونكبته الأليمة :

وتولى عنهم وقال : يا أسفا على يوسف ! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم . قالوا : تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ! . .

ومثلها عندما أرسل يوسف قميصه إلى أبيه في النهاية - بعدما كشف لهم عن شخصيته - فلما رأوا أباهم يستنشق عبير يوسف ، غاظهم هذا الاتصال الباطني الدال على عمق ما بينه وبين يوسف ، فلم يملكوا أنفسهم أن يبكتوه ويؤنبوه :

( ولما فصلت العير قال أبوهم : إني لأجد ريح يوسف ، لولا أن تفندون ! قالوا : تالله إنك لفي ضلالك القديم ! ) . .

وامرأة العزيز . . في صرع الشهوة التي تعمي عن كل شيء في اندفاعها الهائج الكاسح ، فلا تحفل حياء أنثويا ولا كبرياء ذاتيا ، كما لا تحفل مركزا اجتماعيا ولا فضيحة عائلية . . والتي تستخدم - مع ذلك - كل مكر الأنثى وكيدها ، سواء في تبرئة نفسها أو حماية من تهوى من جرائر التهمة التي ألصقتها به ، وتحديد عقوبة لا تودي بحياته ! أو رد الكيد للنسوة من ثغرة الضعف الغريزي الشهوي الذي تعرفه فيهن من معرفتها لنفسها ! أو التبجح بشهوانيتها أمام انكشاف ضعف عزيمتها وكبريائها أمام من تهوى ، ووقوف نسوتها معها على أرض واحدة ، حيث تبدو فيها الأنثى متجردة من كل تجمل المرأة وحيائها ، الأنثى التي لا تحس فيإرواء هواتفها الأنثوية أمرا يعاب أصلا ! ومع صدق التصوير والتعبير عن هذا النموذج البشري الخاص بكل واقعيته ، وعن هذه اللحظة الخاصة بكل طبيعيتها ، فإن الأداء القرآني - الذي ينبغي أن يكون هو النموذج الأعلى للأداء الفني الإسلامي - لم يتخل عن طابعه النظيف مرة واحدة - حتى وهو يصور لحظة التعري النفسي والجسدي الكامل بكل اندفاعها وحيوانيتها - لينشيء ذلك المستنقع الكريه الذي يتمرغ في وحله كتاب " القصة الواقعية " وكتاب " القصة الطبيعية " في هذه الجاهلية النكدة بحجة الكمال الفني في الأداء !

( وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا . وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ، ولنعلمه من تأويل الأحاديث ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ، وكذلك نجزي المحسنين . وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ، وغلقت الأبواب وقالت : هيت لك ! قال : معاذ الله ! إنه ربي أحسن مثواي ، إنه لا يفلح الظالمون . ولقد همت به وهم بها ، لولا أن رأى برهان ربه . كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين . واستبقا الباب ، وقدت قميصه من دبر ، وألفيا سيدها لدى الباب ، قالت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ؟ ! قال : هي راودتني عن نفسي ، وشهد شاهد من أهلها : إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين . وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين . فلما رأى قميصه قد من دبر قال : إنه من كيدكن ، إن كيدكن عظيم ! يوسف أعرض عن هذا ، واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ! . . وقال نسوة في المدينة : امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ! قد شغفها حبا ! إنا لنراها في ضلال مبين ! فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن ، وأعتدت لهن متكأ ، وآتت كل واحدة منهن سكينا ، وقالت : اخرج عليهن ! فلما رأينه أكبرنه ، وقطعن أيديهن ، وقلن : حاش لله ! ما هذا بشرا ، إن هذا إلا ملك كريم . قالت : فذلكن الذي لمتنني فيه ! ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين . قال : رب ، السجن أحب إلى مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين . فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن ، إنه هو السميع العليم . . )

" وكذلك حين نلتقي بها مرة أخرى بعدما دخل يوسف السجن بسبب كيدها وكيد النسوة ؛ وبقي هناك حتى رأى الملك رؤياه ، وتذكر الفتى الذي كان سجينا معه أن يوسف هو وحده الذي يعرف تأويل الرؤيا ، فطلب الملك أن يأتوه به ، فأبى حتى يحقق قضيته ، ويبريء ساحته ، فاستدعاها الملك مع النسوة . وإذا بها ما تزال المرأة المحبة ، مع التغير الطبيعي الواقعي الذي يحدثه الزمن والعمر والأحداث والظروف ؛ ومع تسرب الإيمان الذي تعرفه من يوسف من خلال تلك المشاعر والمؤثرات جميعا :

( وقال الملك : ائتوني به . فلما جاءه الرسول قال : ارجع إلى ربك فاسأله : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ؟ إن ربي بكيدهن عليم . قال : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ قلن : حاش لله ! ما علمنا عليه من سوء . قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين . ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين . وما أبريء نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم . . )

ويوسف . . العبد الصالح - الإنسان - لم يزور الأداء القرآني في شخصيته الإنسانية لمحة واحدة ؛ وهو يواجه الفتنة بكل بشريته - مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه - وبشريته مع نشأته وتربيته ودينه تمثل بمجموعها واقعيته بكل جوانبها . . لقد ضعف حين همت به حتى هم بها ؛ ولكن الخيط الآخر شده وأنقذهمن السقوط فعلا . ولقد شعر بضعفه إزاء كيد النسوة . ومنطق البيئة ، وجو القصور ، ونسوة القصور أيضا ! ولكنه تمسك بالعروة الوثقى . . ليست هنالك لمحة واحدة مزورة في واقعية الشخصية وطبيعتها ؛ وليس هنالك رائحة من مستنقعات الجاهلية ووحلها الفني ! ذلك أن هذا هو الواقع السليم بكل جوانبه . .

والعزيز . . وشخصيته بطبيعتها الخاصة ، وبطبيعة سمت الإمارة ؛ ثم بضعف النخوة ، وغلبة الرياء الاجتماعي وستر الظواهر وإنقاذها ! وفيه تتمثل كل خصائص بيئته :

( فلما رأى قميصه قد من دبر ، قال : إنه من كيدكن ، إن كيدكن عظيم . يوسف أعرض عن هذا ، واستغفري لذنبك ، إنك كنت من الخاطئين ! ) . .

والنسوة . . نسوة هذا المجتمع بكل ملامحه . . اللغط بسيرة امرأة العزيز وفتاها الذي راودته عن نفسه ، بعدما شغفها حبا ! والاستنكار الذي تبدو فيه غيرة النسوة من امرأة العزيز أكثر مما يبدو فيه استنكار الفعلة ! ثم وهلتهن أمام طلعة يوسف . قم إقرارهن الأنثوي العميق بموقف المرأة التي كن يلغطن بقصتها ويستنكرن موقفها ؛ وإحساس هذه المرأة بهذا الإقرار الذي يشجعها على الاعتراف الكامل ، وهي آمنة في ظل استسلامهن لأنوثتهن كما تصنعها بيئتهن الخاصة وتوجهها . ثم ميلهن كلهن على يوسف بالإغراء والإغواء ، رغم ما أنطقتهن به الوهلة الأولى من نظافته وطهارته البادية من قولهن : ( حاش لله ! ما هذا بشرا ، إن هذا إلا ملك كريم ) . . نأخذ ذلك من قولة يوسف عليه السلام :

( قال : رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ) . .

فلم تعد امرأة العزيز وحدها تراوده ؛ ولكن عادت نسوة تلك الطبقة بجملتها تطارده !

والبيئة . . التي تتجلى سماتها من خلال ذلك كله . ثم من خلال ذلك التصرف في أمر يوسف ، على الرغم مما بدا من براءته . ذلك التصرف المقصود به مواراة الفضيحة ودفن معالمها ؛ ولا يهم أن يذهب بريء كيوسف ضحيتها :

( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) . .

فإذا تابعنا شخصية يوسف - عليه السلام - فإننا لا نفتقد في موقف واحد من مواقف القصة ملامح هذه الشخصية ، المنبثقة من مقوماتها الذاتية البيئية الواقعية ، المتمثلة في كونه " العبد الصالح - الإنسان - بكل بشريته ، مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه " . .

فهو في السجن وظلماته - مع الظلم وظلماته ! - لا يغفل عن الدعوة لدينه ، في كياسة وتلطف - مع الحزم والفصل - وفي إدراك لطبيعة البيئة ومداخل النفوس فيها . . كما أنه لا يغفل عن حسن تمثيله بشخصه وأدبه وسلوكه لدينه هذا الذي يدعو إليه في سجنه :

( ودخل معه السجن فتيان . قال أحدهما : إني أراني أعصر خمرا ، وقال الآخر : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه . نبئنا بتأويله ، إنا نراك من المحسنين . قال : لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ، ذلكما مما علمني ربي ، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون . يا صاحبي السجن ، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن الحكم إلا لله ، )أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . يا صاحبي السجن ، أما أحدكما فيسقي ربه خمرا ، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه ، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) . .

وهو - مع هذا كله - بشر ، فيه ضعف البشر . فهو يتطلب الخلاص من سجنه ، بمحاولة إيصال خبره إلى الملك ، لعله يكشف المؤامرة الظالمة التي جاءت به إلى السجن المظلم . وإن كان الله - سبحانه - شاء أن يعلمه أن يقطع الرجاء إلا منه وحده :

( وقال للذي ظن أنه ناج منهما : اذكرني عند ربك . فأنساه الشيطان ذكر ربه . فلبث في السجن بضع سنين . . . ) .

ثم تطالعنا ملامح هذه الشخصية كذلك بعد بضع سنين ، وقد رأى الملك رؤياه ، فحار في تأويلها الكهنة والسدنة ؛ حتى تذكر صاحب السجن يوسف - بعدما تمت التربية الربانية للعبد الصالح ، فاطمأن إلى قدر الله به واطمأن إلى مصيره - حتى إذا ما طلب الملك - بعد تأويله لرؤياه - أن يأتوه به ، أجاب في هدوء المطمئن الواثق ؛ وتمنع عن مغادرة سجنه إلا بعد تحقيق تهمته وتبرئة سمعته :

( وقال الملك : إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات . يا أيها الملأ أفتوني في رؤيايي ، إن كنتم للرؤيا تعبرون . قالوا : أضغاث أحلام ، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين . وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة : أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون . يوسف أيها الصديق ، أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون . قال : تزرعون سبع سنين دأبا ، فما حصدتم فذروه في سنبله ، إلا قليلا مما تأكلون . ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن . إلا قليلا مما تحصنون . ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون . . وقال الملك : ائتوني به . . فلما جاءه الرسول قال : ارجع إلى ربك فاسأله : ما بال النسوة اللآتي قطعن أيديهن ؟ إن ربي بكيدهن عليم . قال : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ قلن : حاش لله ! ما علمنا عليه من سوء . قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين . ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنيين . وما أبريء نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء ، إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم . . وقال الملك : ائتوني به أستخلصه لنفسي ، فلما كلمه قال : إنك اليوم لدينا مكين أمين . قال : اجعلني على خزائن الأرض ، إني حفيظ عليم . . )

ومنذ هذه اللحظة التي تجلت فيها شخصية يوسف مكتملة ناضجة واعية ، مطمئنة ساكنة واثقة ، نجد هذه الشخصية تتفرد على مسرح الأحداث ، وتتوارى تماما شخصيات الملك والعزيز والنسوة والبيئة . ويمهد السياق القرآني لهذا التحول في القصة وفي الواقع بقوله :

( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ، نصيب برحمتنا من نشاء . ولا نضيع أجر المحسنين ، ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ) . .

ومنذ هذه اللحظة نجد هذه الشخصية تواجه ألوانا أخرى من الابتلاءات ، تختلف في طبيعتها عن الألوان الأولى ؛ وتواجهها بذلك الاكتمال الناضج الواعي ، وبتلك الطمأنينة الساكنة الواثقة .

نجد يوسف وهو يواجه - للمرة الأولى - إخوته بعدما فعلوا به تلك الفعلة القديمة ؛ وهو في الموقف الأعلى بالقياس إليهم والأقوى . . ولكننا نجد سمة الضبط واضحة في انفعالاته وتصرفاته :

( وجاء أخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون . ولما جهزهم بجهازهم قال : ائتوني بأخ لكم من أبيكم ، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ؟ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون . قالوا : سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون . وقال لفتيانه : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ) . .

ونجده وهو يدبر - بتدبير الله له - كيف يأخذ أخاه . فنلمح الشخصية الناضجة الواعية الحكيمة المطمئنة ، الضابطة الصابرة :

( ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه : قال : إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون . فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ؛ ثم أذن مؤذن : أيتها العير إنكم لسارقون . قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون ؟ قالوا : نفقد صواع الملك ، ولمن جاء به حمل بعير ، وأنا به زعيم . قالوا : تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ، وما كنا سارقين . قالوا : فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ؟ قالوا : جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ، كذلك نجزي الظالمين . فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، ثم استخرجها من وعاء أخيه . . كذلك كدنا ليوسف ، ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ، إلا أن يشاء الله ، نرفع درجات من نشاء ، وفوق كل ذي علم عليم . قالوا : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ! فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ، قال : أنتم شر مكانا ، والله أعلم بما تصفون . قالوا : يا أيها العزيز ، إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه ، إنا نراك من المحسنين . قال : معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ، إنا إذا لظالمون . . )

ثم نلتقي به وقد استوفت المحنة بيعقوب أجلها ، وقدر الله أن تنقضي الابتلاءات التي نزلت به وببيته ، وحن يوسف إلى أبويه وأهله ، ورق لأخوته والضر باد بهم ، فكشف لهم عن نفسه ، في عتاب رقيق ، وفي عفو كريم ، يجيء في أوانه ، وكل الملابسات توحي به ، وتتوقعه من هذه الشخصية بسماتها تلك :

( فلما دخلوا عليه قالوا : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ، وجئنا ببضاعة مزجاة . فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ، إن الله يجزي المتصدقين . قال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ؟ قالوا : أئنك لأنت يوسف ؟ قال : أنا يوسف ، وهذا أخي ، قد من الله علينا ، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين . قالوا : تالله لقد آثرك الله علينا ، وإن كنا لخاطئين . قال : لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم ، وهو أرحم الراحمين . اذهبوا بقميصي هذه فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ، وأتوني بأهلكم أجمعين . . )

وفي النهاية يجيء ذلك الموقف الجليل الرائع . . موقف اللقاء الجامع ويوسف في أوج سلطانه وأوج تأويل رؤياه وتحقق أحلامه . . وإذا به ينسلخ من هذا كله وينتحي جانبا ينفرد بربه ، ويناجيه خالصا له ، وذلك كله مطروح وراءه :

( رب قد آتيتني من الملك ، وعلمتني من تأويل الأحاديث . فاطر السماوات والأرض . أنت ولي في الدنيا والآخرة . توفني مسلما وألحقني بالصالحين . . )

إنها شخصية موحدة متكاملة ، بكل واقعيتها الممثلة لمقوماتها الواقعية في نشأتها وبيئتها .

ويعقوب . . الوالد المحب الملهوف ، والنبي المطمئن الموصول ، وهو يواجه بالاستبشار والخوف معا تلك الرؤيا الواعدة التي رآها يوسف ؛ وهو يرى فيها بشائر مستقبل مرموق ، بينما هو يتوجس خيفة من الشيطان وفعله في نفوس بنيه . فتتجلى شخصيته بواقعيتها الكاملة في كل جوانبها :

( إذ قال يوسف لأبيه : يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . قال : )( يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا . إن الشيطان للإنسان عدو مبين . وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق ، إن ربك عليم حكيم ) .

ثم نجد هذه الشخصية كذلك بكل واقعيتها البشرية النبوية ، وبنوه يراودونه عن يوسف ثم وهم يفاجئونه بالفجيعة :

( قالوا : يا أبانا ، مالك لا تأمنا على يوسف ، وإنا له لناصحون . أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ، وإنا له لحافظون . قال : إني ليحزنني أن تذهبوا به ، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون . قالوا : لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون . فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ، وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون . وجاءوا أباهم عشاء يبكون ، قالوا : يا أبانا ، إنا ذهبنا نستبق ، وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ؛ فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون . . )

ثم نلتقي بهذه الشخصية - بكل واقعيتها تلك - وبنوه يراودونه مرة أخرى على السلوة الباقية له . . أخي يوسف . . وقد طلبه منهم عزيز مصر - يوسف - الذي لا يعرفونه ! في مقابل أن يعطيهم كيلا يقتاتون به في السنوات العجاف !

( فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا : يا أبانا منع منا الكيل ، فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون : قال : هلى آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ؟ فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين . ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ، قالوا : يا أبانا ما نبغي ، هذه بضاعتنا ردت إلينا ، ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ، ونزداد كيل بعير ، ذلك كيل يسير . قال : لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله : لتأتنني به إلا أن يحاط بكم . فلما آتوه موثقهم قال : الله على ما نقول وكيل . . وقال : يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ، وما أغنى عنكم من الله من شيء ، إن الحكم إلا لله ، عليه توكلت ، وعليه ففليتوكل المتوكلون . ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء ، إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها ، وإنه لذو علم لما علمناه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . . )

ثم نلتقي به في فجيعته الثانية . . والدا ملهوفا ونبيا موصولا . . ذلك بعد أن دبر الله ليوسف كيف يأخذ أخاه . فيتخلف أحد أبناء يعقوب - صاحب الشخصية الخاصة فيهم ، متوافيا مع سماته التي صاحبت مواقفه كلها في القصة ، مشفقا أن يقابل أباه بعد الموثق الذي آتاه إياه . إلا أن يأذن له أبوه أو يحكم له الله - :

( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ، قال كبيرهم : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ، ومن قبل ما فرطتم في يوسف ؟ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين . ارجعوا إلى أبيكم فقولوا : يا أبانا إن ابنك سرق ! وما شهدنا إلا بما علمنا ، وما كنا للغيب حافظين . واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ، وإنا لصادقون . قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم . وتولى عنهم وقال : يا أسفا على يوسف ! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم . قالوا : تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ! قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون . يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . . )

وفي آخر مواقف المحنة الطويلة للشيخ المبتلي نجد ذات الملامح وذات الواقعية . وهو يشم ريح يوسف في قميصه ، ويواجه غيظ بنيه وتبكيتهم فلا يشك في صدق ظنه بربه :

( ولما فصلت العير قال أبوهم : إني لأجد ريح يوسف ، لولا أن تفندون . قالوا : تالله إنك لفي ضلالك القديم . فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا . قال : ألم أقل لكم : إني أعلم من الله ما لا تعلمون ؟ قالوا : يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين . قال : سوف استغفر لكم ربي ، إنه هو الغفور الرحيم )

إنها الشخصية الموحدة الخصائص والملامح ، الواقعية المشاعر والتصرفات ، الممثلة لكل واقعية ذاتها وظروفها وبيئتها بلا تزوير ولا نقص ولا تحريف !

والواقعية الصادقة الأمنية النظيفة السليمة في الوقت نفسه ، لا تقف عند واقعية الشخصيات الإنسانية التي تحفل بها القصة في هذا المجال الواسع ، على هذا المستوى الرائع . ولكنها تتجلى كذلك في واقعية الأحداث والسرد والعرض وصدقها وطبيعيتها في مكانها وزمانها ، وفي بيئتها وملابساتها . . فكل حركة وكل خالجة وكل كلمة تجيء في أوانها ؛ وتجيء في الصورة المتوقعة لها ؛ وتجيء في مكانها من مسرح العرض ؛ متراوحة بين منطقة الظل ومنطقة الضوء بحسب أهميتها ودورها وطبيعة جريان الحياة بها . . الأمر الملحوظ في الشخصيات أيضا كما قررنا من قبل هذا . .

حتى لحظات الجنس في القصة ومواقفه أخذت مساحتها كاملة - في حدود المنهج النظيف اللائق " بالإنسان " في غير تزوير ولا نقص ولا تحريف للواقعية البشرية في شمولها وصدقها وتكاملها - ولكن استيفاء تلك اللحظات لمساحتها المتناسقة مع بقية الأحداث والمواقف لم يكن معناه الوقوف أمامها كما لو كانت هي كل واقعية الكائن البشري ؛ وكما لو كانت هي محور حياته كلها ، وهي كل أهداف حياته التي تستغرقها ! كما تحاول الجاهلية أن تفهمنا أن هذا وحده هو الفن الصادق !

إن الجاهلية إنما تمسخ الكائن البشري باسم الصدق الفني ! وهي تقف أمام لحظة الجنس كما لو كانت هي كل وجهة الحياة البشرية بجملتها ؛ فتنشيء منها مستنقعا واسعا عميقا ، مزينا في الوقت ذاته بالأزهار الشيطانية !

وهي لا تفعل هذا لأن هذا هو الواقع ، ولا لأنها هي مخلصة في تصوير هذا الواقع ! إنما تفعله لأن " بروتوكولات صهيون " تريد هذا ! تريد تجريد " الإنسان " إلا من حيوانيته حتى لا يوصم اليهود وحدهم بأنهم هم الذين يتجردون من كل القيم غير المادية ! وتريد أن تغرق البشرية كلها في وحل المستنقع كي تنحصر فيه كل اهتماماتها ، وتستغرق فيه كل طاقاتها ؛ فهذه هي أضمن سبيل لتدمير البشرية حتى تجثو على ركبتيها خاضعة لملك صهيون المرتقب الملعون ! ثم تتخذ من الفن وسيلة إلى هذا الشر كله ، إلى جانب ما تتخذه من نشر المذاهب " العلمية ! " المؤدية إلى ذات الهدف . تارة باسم " الداروينية " وتارة باسم " الفرويدية " وتارة باسم " الماركسية " أو " الاشتراكية العلمية " . . وكلها سواء في تحقيق المخططات الصهيونية الرهيبة !

والقصة بعد ذلك تتجاوز الشخصيات والأحداث لترسم ظلال الفترة التاريخية التي تجري فيها أحداث القصة ، وتتحرك فيها شخصياتها الكثيرة ، وتسجل سماتها العامة ، فترسم مسرح الأحداث بأبعاده العالمية في تلك الفترة التاريخية . . ونكتفي ببعض اللمحات والسهام التي ترسم تلك الأبعاد :

إن مصر في هذه الفترة لم يكن يحكمها الفراعنة من الأسر المصرية ؛ إنما كان يحكمها " الرعاة " الذين عاش إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قريبا منهم ، فعرفوا شيئا عن دين الله منهم . نأخذ هذا من ذكر القرآن للملك بلقب " الملك " في حين يسمى الملك الذي جاء على عهد موسى - عليه السلام - من بعد بلقبه المعروف . " فرعون " . . ومن هذا يتحدد زمن وجود يوسف - عليه السلام - في مصر . فهو كان ما بين عهد الأسرة الثالثة عشرة والأسرة السابعة عشرة ؛ وهي أسر " الرعاة " الذين سماهم المصريون " الهكسوس " ! كراهية لهم ؛ إذ يقال : إن معنى الكلمة في اللغة المصرية القديمة : " الخنازير " أو " رعاة الخنازير " ! وهي فترة تستغرق نحو قرن ونصف قرن .

إن رسالة يوسف عليه السلام كانت في هذه الفترة . وهو كان قد بدأ الدعوة إلى الإسلام . . ديانة التوحيد الخالص . . وهو في السجن ؛ وقرر أنها دين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ وقررها في صورة واضحة كاملة دقيقة شاملة ، فيما حكاه القرآن الكريم من قوله :

( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ، وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون . يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن الحكم إلا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

وهي صورة للإسلام واضحة كاملة ودقيقة وشاملة - كما جاء به رسل الله جميعا - من ناحية أصول العقيدة . تحتوي ، الإيمان بالله ، والإيمان بالآخرة ، وتوحيد الله وعدم الشرك به أصلا ، ومعرفة الله سبحانه بصفاته . . الواحد ، القهار . . والحكم بعدم وجود حقيقة ولا سلطان لغيره أصلا ؛ ومن ثم نفى الأرباب التي تتحكم في رقاب العباد ، وإعلان السلطان والحكم لله وحده ، ما دام أن الله أمر ألا يعبد الناس غيره . ومزاولة السلطان والحكم والربوبية هي تعبيد للناس مخالف للأمر بعبادة الله وحده . وتحديد معنى " العبادة " بأنها الخضوع للسلطان والحكم والإذعان للربوبية ، وتعريف الدين القيم بأنه إفراد الله سبحانه بالعبادة - أي إفراده بالحكم - فهما مترادفان أو متلازمان : ( إن الحكم إلا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم ) . . وهذه هي أوضح صورة للإسلام وأكملها وأدقها وأشملها . .

وواضح أن يوسف - عليه السلام - عندما سيطر على مقاليد الأمور في مصر ، استمر في دعوته للإسلام على هذا النحو الواضح الكامل الدقيق الشامل . . ولا بد أن الإسلام انتشر في مصر على يديه - وهو يقبض على أقوات الناس وأزوادهم لا على مجرد مقاليد الحكم بينهم - وانتشر كذلك في البقاع المجاورة ممن كانت وفودها تجيء لتقتات مما تم ادخاره بحكمته وتدبيره - وقد رأينا إخوة يوسف يجيئون من أرض كنعان المجاورة في الأردن ضمن غيرهم من القوافل ليمتاروا من مصر ويتزودوا ، مما يصور حالة الجدب التي حلت بالمنطقة كلها في هذه الفترة .

والقصة تشير إلى آثار باهتة للعقيدة الإسلامية التي عرف الرعاة شيئا عنها في أول القصة ، كما تشير إلى انتشار هذه العقيدة ووضوحها بعد دعوة يوسف بها .

والإشارة الأولى وردت في حكاية قول النسوة حين طلع عليهن يوسف :

( فلما رأينه أكبرنه ، وقطعن أيديهن وقلن : حاش لله ! ما هذا بشرا . إن هذا إلا ملك كريم ) . .

ووردت في قول العزيز لامرأته :

( يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك ؛ إنك كنت من الخاطئين ) . .

أما الإشارة الثانية الواضحة فقد جاءت على لسان امرأة العزيز التي يتجلى أنها آمنت بعقيدة يوسف وأسلمت في النهاية ، فيما حكاه عنها السياق القرآني :

قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين ، ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين . وما ابريء نفسي . إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم . .

وإذا اتضح أن ديانة التوحيد - على هذا المستوى - كانت قد عرفت قبل تولي يوسف مقاليد الحكم في مصر ؛ فلا بد أن تكون قد انتشرت بعد ذلك واستقرت على نطاق واسع في أثناء توليه الحكم ، ثم من بعد ذلك في عهد أسر الرعاة . فلما استرد الفراعنة زمام الأمور في الأسرة الثامنة عشرة أخذوا يقاومون ديانة التوحيد ممثلة في ذرية يعقوب التي تكاثرت في مصر ، لإعادة الوثنية التي تقوم عليها الفرعونية ! . . .

وهذا يكشف لنا سببا أصيلا من أسباب اضطهاد الفراعنة بعد ذلك لبني إسرائيل - أي يعقوب - إلى جانب السبب السياسي ، وهو أنهم جاءوا واستوطنوا وحكموا واستقروا في عهد ملوك الرعاة الوافدين . فلما طرد المصريون ملوك الرعاة طاردوا حلفاءهم من بني إسرائيل أيضا . . وإن كان اختلاف العقيدتين ينبغي أن يكون هو التفسير الأقوى لذلك الاضطهاد الفظيع . ذلك أن انتشار عقيدة التوحيد الصحيحة يحطم القاعدة التي يقوم عليها ملك الفراعين ! فهي العدو الأصيل للطواغيت وحكم الطواغيت وربوبية الطواغيت !

ولقد وردت إشارة إلى هذا الذي نقرره في حكاية القرآن الكريم لقول مؤمن آل فرعون في سورة غافر ؛ في دفاعه الإسلامي المجيد عن موسى عليه السلام ، في وجه فرعون وملئه عندما هم فرعون بقتل موسى ، ليقتل معه الخطر الذي يتهدد ملكه كله من عقيدة التوحيد التي جاء بها موسى :

( وقال فرعون : ذروني أقتل موسى وليدع ربه ، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد . وقال موسى : إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب . وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلا أن يقول : ربي الله ؟ وقد جاءكم بالبينات من ربكم ، وإن يك كاذبا فعليه كذبه ، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب . يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض . فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ؟ قال فرعون : ما أريكم إلا ما أرى . وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . وقال الذي آمن : يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب . مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، وما الله يريد ظلما للعباد ، ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد . يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ، ومن يضلل الله فما له من هاد . . ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به ، حتى إذا هلك قلتم : لن يبعث الله من بعده رسولا ، كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب . الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم . كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا ! كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر . . ) الخ . .

فقد كان الصراع الحقيقي بين عقيدة التوحيد التي تفرد الله سبحانه بالربوبية ، فتفرده بالعبادة - أي بالدينونة والخضوع والاتباع لحاكميته وحده - وبين الفرعونية التي تقوم على أساس العقيدة الوثنية ، ولا تقوم إلا بها .

ولعل التوحيد الناقص المشوه الذي عرف به " أخناتون " لم يكن إلا أثرا من الآثار المضطربة التي بقيتمن التوحيد الذي نشره يوسف عليه السلام في مصر كما أسلفنا ؛ وبخاصة إذا صح ما يقال في التاريخ من أن أم أخناتون كانت آسيوية ولم تكن فرعونية !

وبعد هذا الاستطراد نعود إلى اللمحات الدالة على طبيعة الفترة التاريخية التي وقعت فيها أحداث القصة وتحركت فيها أشخاصها . فنجدها تتجاوز حدود الرقعة المصرية ، وتسجل طابع العصر كله . فواضح تماما انطباع هذه الفترة الزمنية بالرؤى والتنبؤات التي لا تقتصر على أرض واحدة ، ولا على قوم بأعيانهم . . ونحن نرى هذه الظاهرة واضحة في رؤيا يوسف وتعبيرها وتأويلها في النهاية . وفي رؤيا الفتيين صاحبي السجن . وفي رؤيا الملك في النهاية . . وكلها تتلقى بالاهتمام سواء ممن يرونها أو ممن يسمعونها مما يشي بطابع العصر كله !

وعلى وجه الإجمال فإن القصة غنية بالعناصر الفنية . غنية كذلك بالعنصر الإنساني ،

هذا الدرس هو المقدمة ، ثم الحلقة الأولى من القصة ، وتتألف من ستة مشاهد ، وتبدأ من رؤيا يوسف إلى نهاية مؤامرة إخوته عليه ، ووصوله إلى مصر . . وسنواجه النصوص الواردة فيه مباشرة ، بعد ذلك التقديم السابق للسورة ، وفيه غناء :

( ألر . تلك آيات الكتاب المبين . إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) . .

ألف . لام . را . . تلك آيات الكتاب المبين . .

هذه الأحرف وما من جنسها وهي قريبة للناس متداولة بينهم . هي هي بعينها تلك الآيات البعيدة المتسامية على الطاقة البشرية . آيات الكتاب المبين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

القول في تفسير السورة التي يذكر فيها يوسف :

بسم الله الرحمَن الرحيم

{ الَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } .

قال أبو جعفر محمد بن جرير : قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، والقول الذي نختاره في تأويل ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا .

وأما قوله : { تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : تلك آيات الكتاب المبين : بين حلاله وحرامه ، ورشده وهداه . ذكر من قال ذلك :

حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة الفلسطيني ، قال : أخبرني عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه ، في قول الله تعالى : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، قال : بين حلاله وحرامه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، أي : والله لمبين تركيبه هداه ورشده .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، قال : بين الله رشده وهداه .

وقال آخرون في ذلك بما :

حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة ، قال : حدثنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ ، أنه قال في قول الله عزّ وجلّ : { الكِتابِ المُبِينِ } ، قال بين الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم ؛ وهي : ستة أحرف .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : معناه : هذه آيات الكتاب المبين ، لمن تلاه وتدبر ما فيه من حلاله وحرامه ونهيه وسائر ما حواه من صنوف معانيه ، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه مبين ، ولم يخصّ إبانته عن بعض ما فيه دون جميعه ، فذلك على جميعه ، إذ كان جميعه مبينا عما فيه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة يوسف مكية وآيها مائة وإحدى عشرة آية .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ آلر تلك آيات الكتاب المبين } { تلك } إشارة إلى آيات السورة وهي المراد ب { الكتاب } ، أي تلك الآيات آيات السورة الظاهرة أمرها في الإعجاز أو الواضحة معانيها ، أو المبينة لمن تدبرها أنها من عند الله ، أو لليهود ما سألوا إذ روي أن علماءهم قالوا لكبراء المشركين سلوا محمدا لم أنتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف عليه السلام فنزلت .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة يوسف . هذه السورة مكية{[1]} ويروى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة بسبب ذلك ، ويروى أن اليهود أمروا كفار مكة أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت السورة . وقيل سبب نزولها تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يفعله به قومه بما فعل إخوة يوسف بيوسف . وسورة يوسف لم يتكرر من معناها في القرآن شيء كما تكررت قصص الأنبياء{[2]} ففيها حجة على من اعترض بأن الفصاحة تمكنت بترداد القول ، وفي تلك القصص حجة على من قال في هذه لو كررت لفترت فصاحتها .

تقدم القول في فواتح السور ، و { الكتاب } القرآن ، ووصفه ب { المبين } قيل : من جهة أحكامه وحلاله وحرامه ، وقيل : من جهة مواعظه وهداه ونوره ، وقيل : من جهة بيان اللسان العربي وجودته إذ فيه ستة أحرف لم تجتمع في لسان{[6551]} - روي هذا القول عن معاذ بن جبل - ويحتمل أن يكون مبيناً لنبوة محمد بإعجازه .

والصواب أنه «مبين » بجميع هذه الوجوه .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[6551]:هي: "الصاد والضاد والطاء والظاء والعين والحاء". ولاحظ قوله: "لم تجمع" فإنه هو المقصود.