لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

السورة التي يذكر فيها يوسف عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الاسم من وسم ؛ فمن وسم ظاهره بالعبودية ، وسرائره بمشاهدة الربوبية فقد سمت همته إلى المراتب العلية ، وأزلفت رتبته من المنازل السنية .

أو أن الاسم مشتق من السمة أو من السمو .

وقدم الله – سبحانه – اسم الله في هذا المحل على اسميه الرحمن والرحيم على وجه البيان والحكم ، فبرحمته الدنيوية وصل العبد إلى معرفته الإلهية .

والإشارة من الباء – التي هي حرف التضمين والإلصاق – إلى أن " به " عرف من عرف ، " وبه " وقف من وقف ؛ فالواصل إليه محمول بإحسانه ، والواقف دونه مربوط بخذلانه .

قوله جل ذكره : { آلر تلك ءايات الكتاب المبين } [ يوسف : 1 ] .

التخاطُب بالحروف المتفرقة غير المنظومة سُنَّةُ الأحباب في سَتْر المحابِّ ؛ فالقرآنُ - وإنْ كان المقصودُ منه الإيضاحَ والبيانَ - ففيه تلويح وتصريح ، ومُفَصَّلٌ ومُجْمَلٌ ، قال قائلهم :

أبكي إلى الشرق إنْ كانت منازلُكم *** مما يلي الغربَ خوفَ القيل والقالِ

ويقال وقفت فهُومُ الخَلْق عن الوقوف على أسراره فيما خاطب به حبيبه - صلى الله عليه وسلم - ، فهم تعبدوا به وآمنوا به على الجملة أفرد الحبيبَ بفهمه ، فهو سِرُّ الحبيب عليه السلام بحيث لا يطلع عليه الرقيب ، يقول قائلهم :

بين المحيين سِرُّ ليس يُفْشيه *** قولٌ ، ولا قلم للخْلق يحكيه

وفي إنزال هذه الحروف المقطعة إشارة : وهي أنَّ منْ كان بالعقل والصحو استنبط من اللفظ اليسير كثيراً من المعاني ، ومن كان بالغيبة والمحو يسمع الكثير فلا يفهم منه اليسير ؛ ذاك لكمال عقله وهذا لتمام وَصْلِه ؛ فأنزل اللَّهُ هذه الحروف التي لا سبيلَ إلى الوقوف على معانيها ، ليكون للأحباب فُرْجَةٌ حينما لا يقفون على معانيها بِعَدَم السبيل إليها فلا تتوجه عليهم مُطَالَبةٌ بالفهم ، وكان ذلك لائقاً بأحوالهم إذا كانوا مستغرِقين في عين الجَمْع ، ولذا قيل : استراح من العقل له .

وقوله تعالى : { تِلْكَ } يحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا خَبَرُ الوعد الذي وعدناك .

وقيل هذا تعريفنا : إليك بالتخصيص ، وأفرادُنا لك بالتقريب- قد حقَّقْناه لكَ ؛ فهذه الحروف بيانٌ للإنجاز ولتحقيق الموعود .

والإشارة من { الْكِتَابِ الْمُبِينِ } ها هنا إلى حُكْمِه السابق له بأَنْ يُرَقِّيَه إلى الرتبة التي لا يبلغها غيرُه ، وقد قال تعالى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } [ القصص : 46 ] أي حين كلَّمنا موسى عليه السلام ، وأخبرناه بعلوِّ قَدْرِك ، ولم تكن حاضراً ، وأخبرناه بأننا نُبَلِّغُك هذا المقامَ الذي أنت فيه الآن . وكذلك كلُّ مَنْ أوحينا إليه ذَكَرْنَا له قِصَتَكَ ، وشَرَحْنَا له خِلقَتك ، فالآنَ وقتُ تحقيق ما أخبرنا به ، وفي معناه أنشدوا :

سُقْياً لمعهدِكَ الذي لو لم يكن *** ما كان قلبي للصبابة معهدا

قال الله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الْزَّبُورِ مِن بَعْدِ الْذِّكْرِ } [ الأنبياء :105 ] يعني بعد التوراة { أَنَّ اَلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبادِىَ الْصَّالِحُونَ } يعني أمة محمد .