سورة يوسف سورة مكية كلها ، وآياتها مائة وإحدى عشرة آية فقط ، وقيل : إن الآيات الثلاث الأولى مدنيات وهو رأي ضعيف ؛ لأن السورة كلها قصة واحدة ومن العجائب أن يذكر هذا الاستثناء في المصحف المطبوع في مصر ويزاد عليه الآية السابعة ، قاله السيوطي في الإتقان وهو رأي واه جدا فلا يلتفت إليه .
وحين نستعرض سورة يوسف نجد أنها سورة فريدة في نوعها من بين سور القرآن الكريم فهناك قصص متعدد مثبوت في ثنايا سور القرآن ، لكن القرآن كان يكتفي أحيانا بذكر حلقة أو حلقات محدودة من القصة ، كحلقة قصة مولد عيسى ، أو حلقة قصة نوح والطوفان ؛ لأن هذه الحلقات تفي بالمقصود منها .
أما قصة يوسف فتقتضي أن تتلى كلها متوالية حلقاتها ومشاهدها من بدئها إلى نهايتها وصدق الله العظيم : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } . ( يوسف : 3 ) .
وسورة يوسف هي قصة يوسف مطوعة في سردها وطريقة أدائها وخصائصها الفنية كلها للقضية الكبرى التي جاء القرآن ليعالجها ويوضحها ، ويثبتها في القلوب . وهي قضية العقيدة وما يقوم عليها في حياة الناس من روابط ونظم وصلات ، تسبقها في السورة مقدمة تشير إلى الوحي بهذا القرآن وبقصصه الذي هو أحسن القصص ، والذي لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم ، يعرف عنه شيئا من قبل .
وتتلوها تعقيبات شتى ، تفيد أن القصص القرآني : غيب من عند الله يثبت به الرسول ، ويعظ به المؤمنين ، قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . ( يوسف : 111 ) .
كذلك تضم السورة جناحيها على لفتات ولمسات أخرى في صفحة الكون وفي أغوار النفس ، وفي آثار الماضين ، وفي ضمير الغيب المطوي لا يدري البشر ما هو مخبوء خلف ستاره الرهيب وكل هذه العظات المبثوثة في حنايا السورة ، تتناسب مع القصة ، والقصة تتكامل معها ؛ لتحقيق القضية الكبرى التي جاء بها هذا القرآن للبشرية ، وجاءت بها رسالات الأنبياء في العصور المتلاحقة .
وقد ساق القرآن دعوة صريحة إلى العقيدة السليمة والإيمان بالله على لسان يوسف حين مكث في السجن يدعوا إلى الله ، ويأخذ بيد الضعفاء ، ويواسي المحزونين ، ويفسر الأحلام ويشرح لهم سر معرفته وإيمانه فيقول : { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَر َالنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } . ( يوسف : 37 40 ) .
وبذلك نجد السورة تربط بين رسالات السماء جميعها برباط أساسي وهدف مشترك هو الدعوة إلى توحيد الله ونبذ الشركاء والأنداد ، وبيان أن الإيمان بالله هو الطريق الواضح والدين القيم الذي يسمو بصاحبه ويعصمه من الفتنة ويمنعه من الرذيلة ويجعله يقف ثابت اليقين ، يقاوم الإغراء ، ويرد المنحرف إلى طريق الصواب . قال تعالى : { و َرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } . ( يوسف : 23 ) .
قصة يوسف أطول قصة في القرآن تجتمع حلقاتها كلها في سورة واحدة وتلحظ فيها الخصائص الفنية البحتة للقصة خصائص الموضوع ، وخصائص العرض والأداء .
فالقصة غنية بالعنصر الإنساني ، حافلة بالانفعال والحركة ، وطريقة الأداء ، تبرز هذه العناصر إبرازا قويا ، فضلا عن خصائص التعبير القرآنية الموحية المؤثرة .
في القصة يتجلى عنصر الحب الأبوي في صور ودرجات منوعة واضحة الخطوط والمعالم ، في حب يعقوب ليوسف وأخيه وحبه لبقية أبنائه ، وفي استجاباته للأحداث حول يوسف من أول القصة إلى آخرها .
وعنصر الغيرة والتحاسد بين الإخوة من أمهات مختلفات ، بحسب ما يرون من تنوع صور الحب الأبوي .
وعنصر التفاوت في الاستجابات المختلفة للغيرة والحسد في نفوس الإخوة ؛ فبعضهم يقوده هذا الشعور إلى إضمار جريمة القتل ، وبعضهم يشير فقط بطرح يوسف في الجب تلتقطه بعض القوافل السيارة ، وفي قصة يوسف نجد عنصر المكر والخداع في صور شتى من مكر إخوة يوسف به إلى مكر امرأة العزيز بيوسف وبزوجها وبالنسوة .
وعنصر الشهوة ونزواتها والاستجابة لها بالاندفاع أو بالإحجام ، وبالإعجاب والتمني ، والاعتصام والتأبي .
وعنصر الندم في بعض ألوانه ، والعفو في أوانه ، والفرح بتجمع المتقاربين ، وذلك إلى بعض صور المجتمع المتحضر في البيت والسجن والسوق والديوان في مصر يومذاك ، والمجتمع العبراني ، وما يسود العصر من الرؤى والتنبؤات .
وقد بدأت القصة بالرؤيا يقصها يوسف على أبيه ، فينبئه بأن سيكون له شأن عظيم ، وينصحه بألا يقصها على إخوته ؛ كي لا يثير حسدهم فيغريهم الشيطان به فيكيدون له ، ثم تسير القصة بعد ذلك ، وكأنما هي تأويل للرؤيا ولما توقعه يعقوب من ورائها حتى إذا اكتمل تأويل الرؤيا في النهاية أنهى السياق القصة ، ولم يسر فيها كما سار كتاب ( العهد القديم ) بعد هذا الختام الفني الدقيق الوافي بالغرض كل الوفاء .
وما يسمى : بالعقدة الفنية في القصة الحديثة واضح في قصة يوسف ، فهي تبدأ بالرؤيا ، ويظل تأويلها مجهولا ، ينكشف قليلا قليلا حتى تجيء الخاتمة فتحل العقدة حلا فنيا طبيعيا ، يرضى الذوق الفني الخالص ، ويرضى الوجدان الديني ، ويفي بدوره للقضية الكبرى التي سيقت القصة لها من الأساس .
والقصة مقسمة إلى حلقات كل حلقة تحتوي على جملة من مشاهد ، والسياق يترك فجوات بين المشهد والمشهد بحيث يترك بين كل مشهدين أو حلقتين فجوة يملؤها الخيال ، ويكمل فيها ما حذف من حركات وأقوال ، ويستمتع بإقامة الصلات بين المشهد السابق والمشهد اللاحق ، فيمنح القصة بعض خصائص التمثيلية ، ويملؤها بالحركة والحيوية وهذه الطريقة متبعة في جميع القصص القرآني على وجه التقريب وهي شديدة الوضوح في القصص الكبيرة ، وخاصة قصة يوسف الصديق .
أكرم الله نبيه يوسف بأصل كريم ؛ فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وقد رزق يعقوب اثني عشر ابنا هم الأسباط ، كان يوسف وبنيامين من أم تسمى : راحيل ، وبقية الأسباط من أمهات أخرى .
وقد ماتت راحيل أم يوسف وتركته في الثامنة عشرة من عمره أشد ما يكون حاجة إلى قلب الأم وعطفها ؛ ولهذا آثر يعقوب يوسف وبنيامين بالحب والحنان ، فسرى داء الحسد بين بقية الإخوة وقال قائل منهم : ألا ترون أن يوسف أحب إلى أبينا منا وأقرب منا جميعا .
وقال الثاني : إن حب يوسف قد تمكن من قلب يعقوب ولا شفاء ليعقوب من هذا المرض إلا بإبعاد يوسف عنه ، فيجب أن نقتل يوسف أو نتركه في أرض نائية مقطوعة حتى يموت .
وقال يهوذا : إن القتل لا يقره العقل ولا الدين فلا تقتلوا يوسف وإنما ألقوه في البئر العميق بجوار بيت المقدس ، فهذا البئر ملتقى الغادي والرائح وسيأخذه بعض القوافل ويبعدون به عنكم ، فوافقوا جميعا على رأي يهوذا ، وبيتوا أمرهم عليه .
أصبح يوسف فأخبر أباه : أنه رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدين له ، فعلم الأب أن ابنه سيكون له شأن عظيم ، وأن أسرته ستأتي له خاضعة معترفة بفضله فيسجد بين يديه يعقوب أبوه ، وخالته ليا وهي بمنزلة أمه ، وإخوته الأحد عشر ، ولكن يعقوب خشي على يوسف من حسد إخوته ؛ فأمره أن يكتم هذه الرؤيا وألا يخبر بها أحدا ، ولأمر ما تسرب خبر هذه الرؤيا إلى الإخوة ؛ فأشعل نار الغيرة بينهم واستأذنوا أباهم في مصاحبة يوسف يوما إلى المرعى حيث الهواء الطلق والمنظر الجميل ؛ فأذن لهم بعد تردد ، وأخذوا يوسف وألقوه في ظلام البئر بعد أن استغاث بهم فلم يغيثوه ، وألقى الله على يوسف السكينة ؛ فاطمأن لمصيره ، وجاءت قافلة تريد الماء وألقت بدلوها إلى البئر فتعلق يوسف بالدلو وفرحت القافلة بمنظر الغلام الجميل ، وقدموا به إلى أرض مصر فباعوه إلى عزيز مصر ووزيرها الأكبر بثمن بخس زهيد ، ولمح العزيز في يوسف كرم الأصل وشرف العنصر وجمال الخلق وطيب المنبت ، فقال العزيز لامرأته : أكرمي مثوى هذا الغلام ، وأحسني معاملته ، حاشاك أن تزجريه زجر الخدم أو تضربيه ضرب العبيد ؛ فإني لأرجو إذا اكتمل عوده ونضجت سنه أن ينفعنا أو نتخذه ولدا !
وانصرف يوسف إلى العمل ببيت العزيز في جد وأمان ، فمكن الله له في الأرض وأودع محبته في قلوب الجميع . فلما وصل إلى سن الرشد والقوة ، وهو يقع عادة بين العشرين والثلاثين ؛ آتاه الله حكما وعلما ، وصوابا في الحكم على الأمور ، ومعرفة بمصائر الأحاديث وتأويل الرؤيا .
وهكذا أراد إخوة به أمرا وأراد الله له أمرا ، ولكن أمر الله غالب ، ومشيئته نافذة ، فقد زادت ثقة العزيز في يوسف وظهر له مكنون حزمه وعقله ، وأمانته ونزاهته ؛ فأدخله فيما بين نفسه وأهله ، وبوأه مكان الأشراف الأحرار ووضعه من قلبه موضع الأبناء الأبرار .
نما يوسف وترعرع وبلغت سنه خمسا وعشرين سنة ، وصار أمينا في بيت العزيز ، وكانت امرأة العزيز في سن الأربعين ، ولها سلطان الملك وقدرة الأمر والنهي ، وسيطرة النفوذ والجاه ، ولكن سلطان الحب قد ملك قلبها وسيطر فؤادها ، وحاولت إغراء يوسف مستغلة كل فنون الإغراء ، قال تعالى : { وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك } . ( يوسف : 23 ) .
فكلمة : راودته من راد ، يراود بالإبل ؛ إذا ذهب بها وجاء ، وهي تشير إلى فنون الأنثى مقبلة إلى فن مدبرة عن فن من فنون الإغراء الصامتة التي تحاول أن تثير يوسف ، فلما يئست من الصمت { غلقت الأبواب } بتشديد اللام ، كأنها أرادت أن تجعل الأبواب حيطانا ، ثم عرضت نفسها على يوسف ، { وقالت هيت لك } ، قد تهيأت لك راغبة فيك ، وهنا وقد خلعت المرأة ثياب الملك والعظمة والسيادة ، ولبست ثوب الإغراء والتوله والرغبة ، وقف يوسف في عزة وإباء وإيمان يقول : { مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } . ( يوسف : 23 ) .
فالمرأة في كل العصور أكثر عاطفة من الرجل ، وأكثر تدينا وإيمانا ، وأكثر مراعاة لحرمة الزوجية ، وأكثر نفورا من الظلم ولهذا عمد يوسف إلى عاطفة الإيمان بالله فقال : { معاذ الله } . أستعيذ بالله من الفحشاء والمنكر ، إن زوجك أكرمني وجعلني أمينا على بيته وعرضه فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ! { إنه ربي أحسن مثواي } . وهناك عين الله التي ترى وتعلم السر وأخفى ، وهذا ظلم وعدوان وإنه { لا يفلح الظالمون } .
ولكن المرأة كانت قد صمت أذنيها عن سماع كل موعظة وأغضت عينيها عن رؤية الحق ، ولم يبق في ذهنها إلا فكرة واحدة في مكان . . في رجل . . فهمت به صائلة عليه ؛ لتنتقم لنفسها وكرامتها ، أو لترغمه على طاعتها ، وهم بها ليضربها أو يقتلها ؛ دفاعا عن الفضيلة والشرف ، ولكن الله ألهمه أن الفرار خير من القتال ، والمسالمة خير من المواثبة ، وفتحت الأبواب أمامه فأسرع هاربا منها ولكنها عدت وراءه ؛ طمعا في تنفيذ رغبتها ، أو خوفا من افتضاح أمرها ، { واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر } . ( يوسف : 25 ) ؛ نتيجة جذبها له لترده عن الباب ، وعند الباب وقعت مفاجأة ، فقد كان العزيز يمر في تلك اللحظة فرأى يوسف واقفا وقميصه ممزقا ، وكان موقفا يبعث على الريبة ويثير الاتهام ، فاتهمت المرأة يوسف بأنه راودها عن نفسها وهجم عليها في مخدعها ولابد من سجنه أو إذاقته مر العذاب ! ! !
لم يجد يوسف بدا من الاعتراف بالواقع ، فقال : هي التي راودتني عن نفسي وجذبتني من ثوبي ، وهذا قميصي شاهد على صدقي ، وأمام تضارب الأقوال ؛ استدعى الملك ابن عمها وكبير أسرتها ، وكان فطنا لبيبا ، فسمع القضية من أطرافها ، وفطن لما وراء قصتها فقال : إن كان قميصه قد من الأمام ؛ فذلك إذن من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها ؛ فهي صادقة وهو من الكاذبين . وإن كان قميصه قد من الخلف ؛ فهو إذن من أثر هروبه منها ومطاردتها له حتى الباب ؛ فهي كاذبة وهو من الصادقين .
فلما رأى الملك بعينه أن القميص قد مزق من الخلف ؛ وضح الحق وظهرت براءة يوسف أمامه ، والتفت العزيز إلى امرأته وقال : إن هذا من كيد النساء ومكرهن ؛ فاستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ، وأنت يا يوسف أمسك لسانك عن الخوض في هذا الحديث ، واكتم أمره عن الناس أجمعين .
تعرض يوسف لحلقات متتابعة من الإغراء والوعد والوعيد ، وتوالت عليه حملات زليخا ، ونساء من وجوه المدينة ، فدعا يوسف ربه : أن ينجيه من كيدهن ومكرهن ، وقال : { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } . ( يوسف : 33 ) .
ورأى العزيز أن يضحى بهذا البريء النزيه حتى تسكت الألسنة وتخف عن زوجته التهمة ، فأدخل يوسف السجن ، وكان يوسف في السجن مثالا كريما في الدعوة إلى الإيمان وتفسير الأحلام وإرشاد الناس إلى الحق ، ثم رأى الملك في منامه سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف ، وفسر يوسف هذه الرؤيا : بأن البلد مقبلة على سبع سنين مخصبة يجود فيها النيل بالماء ، ثم تأتي بعدها سبع سنين مجدبة يجف فيها ماء النيل ، ويعقب ذلك عام طيب مثمر ، فأمر الملك بالعفو عن يوسف ، ولكنه أبى أن يخرج من السجن إلا بعد التثبت من براءته ونزاهته ، فاعترفت النسوة بنزاهته وقلن : { حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } . ( يوسف : 51 ) .
فخرج يوسف من السجن بريئا نزيها ، ثم نال إعجاب الملك والحظوة عنده ، وعلم يوسف أن مصر قادمة على مجاعة ، فالنيل سيجود بالماء سبع سنين ثم يمتنع عن الفيضان سبع سنين أخرى ، ورأى يوسف ثقة الملك فيه وإعجابه بنزاهته وأمانته فقال يوسف : { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } . ( يوسف : 55 ) .
واستطاع يوسف بحكمته أن ينجي مصر من المجاعة ، وأن يدخر القمح في سنابله ، والذرة في كيزانها ، وأن يدبر التموين والأموال ، وأن يحفظ لمصر مكانتها وفضلها ، فاستطاعت أن تساعد نفسها وأن تمد يد العون لما حولها من البلاد ووصل خبر يوسف إلى البلاد المجاورة ، وإلى أرض كنعان حيث يقيم نبي الله يعقوب وأبناؤه الأسباط .
فقال يعقوب لبنيه : يا بني ، إن الجدب عمنا والقحط يكاد يأتي علينا ، فاقصدوا هذا العزيز وأحضروا من عنده القمح والطعام واتركوا عندي أخاكم بنيامين أتعزى ببقائه عن فراقكم ، فرحل أبناء يعقوب إلى مصر ؛ قاصدين مقابلة العزيز .
واستأذن الحاجب على يوسف ، فقال : إن بالباب عشرة رجال تتشابه وجوههم وكأنهم غرباء عن هذه الديار يستأذنون في الدخول عليك ؛ فأذن يوسف لإخوته وعرفهم ولكنهم لم يعرفوه ، فقد تركوه في الجب ذليلا فريدا ، فأين منه هذا الأمير العزيز الذي يأمر فيطاع ، ويقول فيمتثل الجميع أمره . وأكرم يوسف وفادتهم ، وترك نقودهم داخل التموين الذي أمدهم به ، وطلب منهم أن يحضروا بنيامين معهم في المرة الثانية ، ولما حضر بنيامين مع إخوته استطاع يوسف أن يستبقيه معه بحيلة دبرها ، ثم ذهب الإخوة إلى أبيهم ، فاشتد حزنه لفراق يوسف وبعده بنيامين وجلس حزينا في محرابه يبكي أشد البكاء ويقول : { يا أسفي على يوسف } . ( يوسف : 74 ) .
ثم قال الأب لأبنائه : إني أحس في قرارة نفسي بوجود يوسف على قيد الحياة ؛ فاذهبوا إلى مصر وتحسسوا من يوسف وأخيه ، ولا تيأسوا من فضل الله ورحمته ، ودخل الإخوة على يوسف وقد اشتد بهم الضر والحاجة ، فطلبوا من يوسف أن يرفق بهم وأن يتصدق عليهم ، وهنا فاض قلب يوسف حنانا وعطفا على إخوته ، وسألهم عما فعلوه بيوسف في زمان جهلهم ، فقالوا : إنك لأنت يوسف ؟ قال : أنا يوسف وهذا أخي بنيامين ، { قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } . ( يوسف : 90 ) .
لقد اتقى يوسف ربه وصبر عن الفحشاء وتحمل السجن في طاعة الله فلم يضع أجره ، وجعله الله على خزائن الأرض عزيزا كريما ، فالله يتولى الصالحين . وصفح يوسف عن إخوته وقال لهم : { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين } . ( يوسف : 93 ) .
وعاد الإخوة إلى أبيهم فأحس برائحة القميص من مسافة بعيدة ، ولما وضع القميص على وجهه ؛ عاد بصيرا ، ورحل يعقوب مع أسرته قادمين إلى مصر ودخلوا على يوسف وخروا له جميعا ساجدين ، الأب والأم والإخوة ، فقال يوسف : { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا } . ( يوسف : 100 ) .
وشكر يوسف ربه ؛ إذ أخرجه من السجن ، وجاء بإخوته من البادية ، وجمع شمل الأسرة ، ثم مكن الله ليوسف في الأرض ، وآتاه الملك والحكمة ؛ ليكون في قصته دليلا للعاملين ونبراسا للمخلصين ، وكأن الله يمهد الأسباب والمقدمات بلطفه وحكمته ؛ لتكون العاقبة للمتقين ، ومد يوسف يده لله طالبا منه حسن الخاتمة والسير في موكب الصالحين فقال : { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين } . ( يوسف : 101 ) .
{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ 1إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 2 نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ 3 } .
الر : هذه الأحرف التي تبدأ بها السور ، قيل : إنها أسرار علوية ، وقيل : إنها أقسام الله تعالى . أي : أقسم الله بهذه الأحرف التي ينطق بها الناس ، ويتكون منها القرآن الكريم .
وقيل : هي أسماء الله تعالى ، أو صفات .
وقيل : هي إشارات لابتداء كلام وانتهاء كلام .
وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز ، وبيان : أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل هذا القرآن مع أنه مكون من حروف عربية هي : الألف واللام والراء ، وهم ينطقون بها ويؤلفون منها كلامهم .
وقال بعضهم بجواز اشتمال هذه الأحرف على جميع المعاني التي ذكرها العلماء في تفسيرها ، فهي أسماء للسورة ، وهي رموز لأسماء الله تعالى أو صفاته ، وهي مما استأثر الله تعالى بعلمه ،
وهي حروف للتحدي والإعجاز . . . الخ .
هذه الأحرف قيل : هي مما استأثر الله بعلمه ، وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز ، وبيان : أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، مع أنه مكون من حروف عربية ينطقون بها ويكونون منها كلامهم .
وقد اشتملت هذه الفواتح في أوائل السور على ( 14حرفا ) بعد حذف المكرر منها ، واشتملت هذه الفواتح على نصف صفات الحروف ؛ ففيها نصف الحروف الرخوة ، وفيها نصف حروف الاستفال ، ونصف حروف القلقلة ، وكأن الله تعالى يقول للمكذبين : جعلت من نصف هذه الحروف فواتح للسور ، وتركت لكم النصف ؛ لتصنعوا من قرآنا إن استطعتم !
والسور المبدوءة بهذه الحروف 29 سورة هي : البقرة ، آل عمران ، الأعراف ، يونس ، يوسف ، الرعد ، إبراهيم ، الحجر ، مريم ، طه ، الشعراء ، النمل ، القصص ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة ، يس ، ص ، غافر ، فصلت ، الشورى ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف ، ق ، القلم .
{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } .
تلك الآيات الواردة في هذه السورة : آيات من الكتاب الواضح الظاهر في معانية وأغراضه ، المبين لحقائق الدين الحق ، ومصالح الدنيا والآخرة .