قوله تعالى : { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } قال قتادة : لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلون بها ، فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله وقال ابن جريج : معناه : لو شاء الله لأراهم أمراً من أمره ، لا يعمل أحد منهم بعده معصية . وقوله عز وجل : { خاضعين } ولم يقل خاضعة وهي صفة الأعناق ، وفيه أقاويل : أحدها : أراد أصحاب الأعناق ، فحذف الأصحاب وأقام الأعناق مقامهم ، لأن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون ، جعل الفعل أولاً للأعناق ، ثم جعل خاضعين للرجال . وقال الأخفش : رد الخضوع على المضمر الذي أضاف الأعناق إليه . وقال قوم : ذكر الصفة لمجاورتها المذكر ، وهو قوله هم على عادة العرب في تذكير المؤنث إذا أضافوه إلى مذكر ، وتأنيث المذكر إذا أضافوه إلى مؤنث . وقيل : أراد فظلوا خاضعين فعبر بالعنق عن جميع البدن ، كقوله : { ذلك بما قدمت يداك }- و{ ألزمناه طائره في عنقه } . وقال مجاهد : أراد بالأعناق الرؤساء والكبراء ، أي : فظلت كبراؤهم خاضعين . وقيل : أراد بالأعناق الجماعات ، يقال : جاء القوم عنقاً عنقاً ، أي : جماعات وطوائف . وقيل :إنما قال خاضعين على وفاق رؤوس الآي ليكون على نسق واحد .
فربه يرأف به ، وينهنهه عن هذا الهم القاتل ، ويهون عليه الأمر ، ويقول له : إن إيمانهم ليس مما كلفت ؛ ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم ، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالا ، ولا إنصرافا عن الإيمان . ويصور خضوعهم لهذه الأية صورة حسية : ( فظلت أعناقهم لها خاضعين )ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم ، فهم عليها مقيمون !
ولكنه - سبحانه - لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة . لقد جعل آيتها القرآن . منهاج حياة كاملة . معجزا في كل ناحية :
معجزا في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني ، باستقامته على خصائص واحدة ، في مستوى واحد ، لا يختلف ولا يتفاوت ، ولا تتخلف خصائصه ؛ كما هي الحال في أعمال البشر . إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد ، المتغير الحالات . بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد ، ومستوى واحد ، ثابت لا يتخلف ، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال .
معجزا في بنائه الفكري ، وتناسق أجزائه وتكاملها ، فلا فلتة فيه ولا مصادفة . كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل ؛ وتحيط بالحياة البشرية ، وتستوعبها ، وتلبيها وتدفعها ، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى ؛ ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها . . وكلها مشدودة إلى محور واحد ، وإلى عروة واحدة ، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة . ولا بد أن تكون هناك خبرة مطلقة ، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان . هي التي أحاطت به هذه الإحاطة ، ونظمته هذا التنظيم .
معجزا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس ، ولمس مفاتيحها ، وفتح مغاليقها ، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها ؛ وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين ؛ وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات ، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة .
لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة - ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم - ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها ، وللأجيال كلها . وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان . فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب . لكل أمة ولكل جيل . والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها ؛ ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى ، لا واقعا يشهد . . فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا كتاب مفتوح ومنهج مرسوم ، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم - لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم - ويلبي حاجاتهم كاملة ؛ ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل ، وأفق أعلى ، ومصير أمثل . وسيجد فيه من بعدنا كثيرا مما لم نجده نحن ؛ ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته ؛ ويبقى رصيده لا ينفد ، بل يتجدد . ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى . فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حينا بعد حين :
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن نّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السّمَآءِ آيَةً فَظَلّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ . . . الاَية ، فقال بعضهم : معناه : فظلّ القوم الذين أنزل عليهم من السماء آية خاضعة أعناقهم لها من الذَلّة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد في قوله : فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعينَ قال : فظلوا خاضعة أعناقهم لها .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله خاضِعِينَ قال : لو شاء الله لنزّل عليه آية يذلون بها ، فلا يَلْوِي أحد عنقه إلى معصية الله .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج أنْ لا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إنْ نَشأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السّماءِ آيَةً قال : لو شاء الله لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده بمعصية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعِينَ قال : ملقين أعناقهم .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعِينَ قال : الخاضع : الذليل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فظلت سادتهم وكبراؤهم للاَية خاضعين ، ويقول : الأعناق : هم الكبراء من الناس .
واختلف أهل العربية في وجه تذكير خاضعين ، وهو خبر عن الأعناق ، فقال بعض نحويّي البصرة : يزعمون أن قوله أعْناقُهُمْ على الجماعات ، نحو : هذا عنق من الناس كثير ، أو ذُكّركما يذكّر بعض المؤنث ، كما قال الشاعر :
تَمَزّزْتها والدّيكُ يَدْعُو صَباحَهُ *** إذا ما بنو نَعْشٍ دَنَوْا فَتَصَوّبُوا
فجماعات هذا أعناق ، أو يكون ذكره لإضافته إلى المذكر كما يؤنث لإضافته إلى المؤنث ، كما قال الأعشى :
ونَشْرَقُ بالقَوْل الّذي قَدْ أذَعْتَه *** كمَا شَرقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدّم
*** لَمّا رأى مَتْنَ السّماء أبْعَدَتْ ***
إذَا الْقُنْبُضَات السّود طَوّفْنَ بالضحى *** رَقَدْنَ عَلَيْهِنّ الحِجالُ المَسَجّفُ
وَإنّ امْرَأً أهْدَى إلَيْكِ وَدُونَهُ *** مِنَ الأرْضِ يَهْماءٌ وَبَيْدَاءُ خَيْفَقُ
لَمَحْقُوقَةٌ أن تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ *** وأنْ تَعْلَمِي أنّ المُعانَ المُوَفّقُ
قال : ويقولون : بنات نعش وبنو نعش ، ويقال : بنات عِرس ، وبنو عِرس وقالت امرأة : أنا امرؤ لا أخبر السرّ ، قال : وذكر لرؤبة رجل فقال : هو كان أحد بنات مساجد الله ، يعني الحَصَى . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : هذا بمنزلة قول الشاعر :
تَرَى أرْماحَهُمْ مُتَقَلدِيها *** إذَا صَدِىءَ الحَدِيدُ على الكُماةِ
فمعناه عنده : فظلت أعناقهم خاضعيها هم ، كما يقال : يدك باسطها ، بمعنى : يدك باسطها أنت ، فاكتفى بما ابتدأ به من الاسم أن يكون ، فصار الفعل كأنه للأوّل وهو للثاني ، وكذلك قوله : لمحقوقة أن تستجيبي لصوته إنما هو لمحقوقة أنت ، والمحقوقة : الناقة ، إلا أنه عطفه على المرء لما عاد بالذكر . وكان آخر منهم يقول : الأعناق : الطوائف ، كما يقال : رأيت الناس إلى فلان عنقا واحدة ، فيجعل الأعناق الطوائف والعُصَب ويقول : يحتمل أيضا أن تكون الأعناق هم السادة والرجال الكبراء ، فيكون كأنه قيل : فظلت رؤوس القوم وكبراؤهم لها خاضعين ، وقال : أحبّ إليّ من هذين الوجهين في العربية أن يقال : إن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون ، فجعلْت الفعل أوّلاً للأعناق ، ثم جَعَلْتَ خاضعين للرجال ، كما قال الشاعر :
عَلى قَبْضَة مَرْجُوّة ظَهْرُ كَفّهِ *** فَلا المَرْءُ مُسْتَحْيٍ وَلا هُوَ طاعِمُ
فأنث فعل الظهر ، لأن الكفّ تجمع الظهر ، وتكفي منه ، كما أنك تكتفي بأن تقول : خضعت لك ، من أن تقول : خَضَعَتْ لك رقبتي ، وقال : ألا ترى أن العرب تقول : كل ذي عين ناظر وناظرة إليك ، لأن قولك : نظرتْ إليك عيني ، ونظرتُ إليك بمعنى واحد بترك كل ، وله الفعل وبرده إلى العين ، فلو قلت : فظلت أعناقهم لها خاضعة ، كان صوابا .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال ، وأن يكون معنى الكلام : فظلت أعناقهم ذليلة ، للاَية التي ينزلها الله عليهم من السماء ، وأن يكون قوله «خاضعين » مذكرا ، لأنه خبر عن الهاء والميم في الأعناق ، فيكون ذلك نظير قول جرير :
أرَى مَرّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنّي *** كمَا أخَذَ السّرَارُ مِنَ الهِلالِ
وذلك أن قوله : مرّ ، لو أسقط من الكلام ، لأدى ما بقي من الكلام عنه ولم يفسد سقوطه معنى الكلام عما كان به قبل سقوطه ، وكذلك لو أسقطت الأعناق من قوله : فظلت أعناقهم ، لأدى ما بقي من الكلام عنها ، وذلك أن الرجال إذا ذلّوا ، فقد ذلت رقابهم ، وإذا ذلت رقابهم فقد ذلوا .
فإن قيل في الكلام : فظلوا لها خاضعين ، كان الكلام غير فاسد ، لسقوط الأعناق ، ولا متغير معناه عما كان عليه قبل سقوطها ، فصرف الخبر بالخضوع إلى أصحاب الأعناق ، وإن كان قد ابتدأ بذكر الأعناق لما قد جرى به استعمال العرب في كلامهم ، إذا كان الاسم المبتدأ به ، وما أضيف إليه يؤدّي الخبر كلّ واحد منهما عن الاَخر .
{ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية } دلالة ملجئة إلى الإيمان أوبلية قاسرة عليه . { فظلت أعناقهم لها خاضعين } منقادين وأصله فظلوا لها خاضعين فأقحمت العناق لبيان موضع الخضوع وترك الخبر على أصله . وقيل لما وصفت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم . وقيل المراد بها الرؤساء أو الجماعات من قولهم : جاءنا عنق من الناس لفوج منهم ، وقرىء { خاضعة } و{ ظلت } عطف على { ننزل } عطف وأكن على فأصدق لأنه لو قيل أنزلنا بدله لصح .
وقوله تعالى : { إن شاء } شرط وما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا ، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار وإنما جعل الله تعالى آية الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ليهتدي من سبق في علمه هداه ويضل من سبق ضلاله وليكون للنظر تكسب به يتعلق الثواب والعقاب ، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا أن لو كانت ، وقرأ «تنَزّل » بفتح النون وشد الزاي أبو جعفر ونافع وشيبة والأعرج وعاصم والحسن ، وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة بسكون النون وتخفيف الزاي ، وروى هارون عن أبي عمرو «يشأ ينزل » بالياء فيهما والخضوع للآية المنزلة كان يترتب بأحد وجهين إما بخوف هلاك في مخالفة الأمر المقترن بها كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإما أن تكون من الوضوح وبهر العقول ، بحيث يقع الإذعان لها وانقياد النفوس ، وكل هذين لم يأت به نبي ، ووجه ذلك ما ذكرناه ، وهو توجيه منصوص للعلماء . وقرأ طلحة «فتظل أعناقهم » وهو المراد في قراءة الجمهور وجعل الماضي موضع المستقبل إشارة إلى تقوية وقوع الفعل{[8901]} ، وقوله تعالى : { أعناقهم } يحتمل تأويلين أحدهما : وهو قول مجاهد وأبي زيد الأخفش ، أي يريد جماعاتهم ، يقال جاءني عنق من الناس أي جماعة ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
إن العراق وأهله . . . عنق إليك فهيت هيتا{[8902]}
واكتم السر فيه ضرب العنق{[8903]} . . . ولهذا قيل عتق رقبة ولم يقل عتق عنق فراراً من الاشتراك قاله الزهراوي ، فعلى هذا التأويل ليس في قوله { خاضعين } موضع قول ، والتأويل الآخر أن يريد الأعناق الجارحة المعلمة وذلك أن خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم . . . خضع الرقاب نواكس الأبصار{[8904]}
فعلى هذا التأويل يتكلم على قوله { خاضعين } كيف جمعه جمع من يعقل ، وذلك متخرج على نحوين من كلام العرب : أحدهما أن الإضافة إلى من يعقل أفادت حكم من يعقل كما تفيد الإضافة إلى المؤنث تأنيث علامة المذكر ، ومنه قول الأعشى :
«كما شرقت صدر القناة من الدم »{[8905]} . . . وهذا كثير ، والنحو الآخر أن الأعناق لما وصفت بفعل لا يكون إلا مقصوداً للبشر وهو الخضوع ، إذ هو فعل يتبع أمراً في النفس ، جمعها فيه جمع من يعقل وهذا نظير قوله تعالى : { أتينا طائعين }{[8906]} [ فصلت : 11 ] . وقوله : { رأيتهم لي ساجدين }{[8907]} [ يوسف : 4 ] . وقرأ ابن أبي عبلة «لها خاضعة »