معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

قوله تعالى : { وإذ نجيناكم } يعني : أسلافكم وأجدادكم فاعتدها منةً عليهم لأنهم نجوا بنجاتهم .

قوله تعالى : { من آل فرعون } . أتباعه وأهل دينه ، وفرعون هو الوليد مصعب بن الريان ، وكان من القبط العماليق وعمر أكثر من أربعمائة سنة .

قوله تعالى : { يسومونكم } . يكلفونكم ويذيقونكم .

قوله تعالى : { سوء العذاب } . أشد العذاب وأسوأه ، وقيل : يصرفونكم في العذاب مرة هكذا ، ومرة هكذا كالإبل السائمة في البرية ، وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً وخولاً وصنفهم في الأعمال فصنف يبنون ، وصنف يحرثون ويزرعون ، وصنف يخدمونه ، ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية . وقال وهب : كانوا أصنافاً في أعمال فرعون ، فذوو القوة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها ، وطائفة ينقلون الحجارة ، وطائفة يبنون له القصور ، وطائفة منهم يضربون اللبن ويطبخون الآجر ، وطائفة نجارون وحدادون ، والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم ، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته غلت يمينه إلى عنقه شهراً ، والنساء يغزلن الكتان وينسجن ، وقيل : تفسيره قوله ( يسومونكم سوء العذاب ) . ما بعده وهو :

قوله تعالى : { يذبحون أبناءكم } . فهو مذكور على وجه البدل من قوله يسومونكم سوء العذاب .

قوله تعالى : { ويستحيون نساءكم } . يتركونهن أحياء ، وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر ، وأحرقت كل قبطي فيها ، ولم تتعرض لبني إسرائيل ، فهاله ذلك وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا : يولد ولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك ، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن : لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتل ، ولا جارية إلا تركت ، ووكل بالقوابل ، فكن يفعلن ذلك حتى قيل : إنه قتل في طلب موسى عليه السلام اثنى عشر ألف صبي . وقال وهب : بلغني أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعين ألف وليد . قالوا : وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا : إن الموت قد وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة ، فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها ، وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها .

قوله تعالى : { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } . قيل : البلاء المحنة ، أي في سومهم إياكم سوء العذاب محنة عظيمة ، وقيل : البلاء النعمة . أي في إنجائي إياكم منهم نعمة عظيمة ، فالبلاء يكون بمعنى النعمة وبمعنى الشدة ، فالله تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر ، وعلى الشدة بالصبر وقال : الله تعالى : ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

40

بعدئذ يمضي يعدد آلاء الله عليهم ، وكيف استقبلوا هذه الآلاء ، وكيف جحدوا وكفروا وحادوا عن الطريق . وفي مقدمة هذه النعم كانت نجاتهم من آل فرعون ومن العذاب الأليم :

( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم . وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . .

إنه يعيد على خيالهم ويستحيي في مشاعرهم صورة الكرب الذي كانوا فيه - باعتبار أنهم أبناء هذا الأصل البعيد - ويرسم أمامهم مشهد النجاة كما رسم أمامهم مشاهد العذاب .

يقول لهم : واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون حالة ما كانوا يديمون عذابكم ، [ من سام الماشية أي جعلها سائمة ترعى دائما ] وكأن العذاب كان هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم إياه ! ! ثم يذكر لونا من هذا العذاب . هو تذبيح الذكور واستيحاء الإناث . كي يضعف ساعد بني إسرائيل وتثقل تبعاتهم !

وقبل أن يعرض مشهد النجاة يعقب بأن ذلك التعذيب كان فيه بلاء من ربهم عظيم . ليلقي في حسهم - وحس كل من يصادف شدة - أن إصابة العباد بالشدة هي امتحان وبلاء ، واختبار وفتنة . وأن الذي يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدة ، ويعتبر بالبلاء ، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ . والألم لا يذهب ضياعا إذا أدرك صاحبه أنه يمر بفترة امتحان لها ما بعدها إن أحسن الانتفاع بها . والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا التصور وحين تدخر ما في التجربة المؤلمة من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال ، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند الله ، وبالتضرع لله وبانتظار الفرج من عنده وعدم اليأس من رحمته . . ومن ثم هذا التعقيب الموحى : ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ نَجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلآءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ }

أما تأويل قوله : وإذْ نَجّيْناكُمْ فإنه عطف على قوله : يا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ فكأنه قال : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، واذكروا إنعامنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون بإنجائنا لكم منهم .

وأما آل فرعون فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه . وأصل «آل » أهل ، أبدلت الهاء همزة ، كما قالوا ماه ، فأبدلوا الهاء همزة ، فإذا صغروه قالوا مُوَيه ، فردّوا الهاء في التصغير وأخرجوه على أصله . وكذلك إذا صغروا آل ، قالوا : أهيل . وقد حُكي سماعا من العرب في تصغير آل : أويل . وقد يقال : فلان من آل النساء ، يراد به أنه منهن خلق ، ويقال ذلك أيضا بمعنى أنه يريدهنّ ويهواهن ، كما قال الشاعر :

فإنّكَ مِنْ آلِ النّساءِ وَإِنّمَا *** يَكُنّ لأدْنى لا وِصَالَ لِغَائِبِ

وأحسن أماكن «آل » أن ينطق به مع الأسماء المشهورة ، مثل قولهم : آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآل عليّ ، وآل عباس ، وآل عقيل . وغير مستحسن استعماله مع المجهول ، وفي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك غير حسن عند أهل العلم بلسان العرب أن يقال : رأيت آل الرجل ، ورآني آل المرأة ، ولا رأيت آل البصرة ، وآل الكوفة . وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول : رأيت آل مكة وآل المدينة ، وليس ذلك في كلامهم بالمستعمل الفاشي . وأما فرعون فإنه يقال : إنه اسم كانت ملوك العمالقة بمصر تسمّى به ، كما كانت ملوك الروم يُسمّي بعضهم قيصر وبعضهم هرقل ، وكما كانت ملوك فارس تُسمى الأكاسرة واحدهم كسرى ، وملوك اليمن تسمى التبابعة واحدهم تبع . وأما فرعون موسى الذي أخبر الله تعالى عن بني إسرائيل أنه نجاهم منه فإنه يقال : إن اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ، وكذلك ذكر محمد بن إسحاق أنه بلغه عن اسمه .

حدثنا بذلك محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : أن اسمه الوليد بن مصعب بن الريان .

وإنما جاز أن يقال : وَإِذْ نَجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجين منه ، لأن المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجاهم من فرعون وقومه ، فأضاف ما كان من نعمه على آبائهم إليهم ، وكذلك ما كان من كفران آبائهم على وجه الإضافة ، كما يقول القائل لاَخر : فعلنا بكم كذا ، وفعلنا بكم كذا ، وقتلناكم وسبيناكم ، والمخبر إما أن يكون يعني قومه وعشيرته بذلك أو أهل بلده ووطنه كان المقول له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لم يدركه ، كما قال الأخطل يهاجي جرير بن عطية :

وَلَقَدْ سَمَا لَكُمْ الهُذَيْلُ فنالَكُم *** ْبإرَابَ حَيْثُ يُقْسَمّمُ الأنْفالا

في فَيْلَقٍ يَدْعو الأرَاقمَ لمْ تكُنْ *** فرْسَانُهُ عُزْلاً وَلا أكْفَالا

ولم يلق جرير هذيلاً ولا أدركه ، ولا أدرك إراب ولا شهده . ولكنه لما كان يوما من أيام قوم الأخطل على قوم جرير ، أضاف الخطاب إليه وإلى قومه ، فكذلك خطاب الله عزّ وجلّ من خاطبه بقوله : وَإِذْ نَجّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بالآية وآبائهم ، أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبائهم إلى المخاطبين بالآية وقومهم .

القول في تأويل قوله تعالى : يَسُومُونُكُمْ سُوءَ العَذَاب .

وفي قوله : يَسُومُونَكُمْ وجهان من التأويل ، أحدهما : أن يكون خبرا مستأنفا عن فعل فرعون ببني إسرائيل ، فيكون معناه حينئذٍ : واذكروا نعمتي عليكم إذ نجّيتكم من آل فرعون ، وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب . وإذا كان ذلك تأويله كان موضع «يسومونكم » رفعا . والوجه الثاني : أن يكون «يسومونكم » حالاً ، فيكون تأويله حينئذٍ : وإذْ نجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب ، فيكون حالاً من آل فرعون .

وأما تأويل قوله : يَسُومُونَكُمْ فإنه يوردونكم ، ويذيقونكم ، ويُولونكم ، يقال منه : سامه خطة ضيم : إذا أولاه ذلك وأذاقه ، كما قال الشاعر :

إنْ سِيمَ خَسْفا وَجْهُهُ تَرَبّدَا

فأما تأويل قوله : سُوءَ العَذَابِ فإنه يعني : ما ساءهم من العذاب . وقد قال بعضهم : أشدّ العذاب ولو كان ذلك معناه لقيل : أسوأ العذاب .

فإن قال لنا قائل : وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوءهم ؟ قيل : هو ما وصفه الله تعالى في كتابه فقال : يُذَبّحُونَ أبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ . وقد قال محمد بن إسحاق في ذلك ما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : أخبرنا ابن إسحاق ، قال : كان فرعون يعذّب بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخولاً ، وصنّفهم في أعماله ، فصنفٌ يبنون ، وصنف يزرعون له ، فهم في أعماله ، ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله فعليه الجزية ، فسامهم كما قال الله عزّ وجل : سُوءَ العَذَابِ .

وقال السدي : جعلهم في الأعمال القذرة ، وجعل يقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي .

القول في تأويل قوله تعالى : يُذَبّحُونَ أبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ .

قال أبو جعفر : وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل من سَوْمهم إياهم سوء العذاب وذبحهم أبناءهم واستحيائهم نساءهم دون فرعون ، وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوّة فرعون وعن أمره ، لمباشرتهم ذلك بأنفسهم . فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حيّ بنفسه وإن كان عن أمر غيره ، ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه ، وإن كان الاَمر قاهرا الفاعل المأمور بذلك ، سلطانا كان الاَمر أو لصّا خاربا أو متغلبا فاجرا ، كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم إلى آل فرعون دون فرعون ، وإن كانوا بقوّة فرعون وأمره إياهم بذلك فعلوا ما فعلوا مع غلبته إياهم وقهره لهم . فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما فهو المقتول عندنا به قصاصا ، وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله .

وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل ، واستحيائهم نساءهم ، فإنه كان فيما ذكر لنا عن ابن عباس وغيره كالذي :

حدثنا به العباس بن الوليد الاَملي وتميم بن المنتصر الواسطي ، قالا : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، قال : حدثنا القاسم بن أيوب ، قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكا وائتمروا ، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشّفارَ ، يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ، ففعلوا . فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، وأن الصغار يذبحون ، قال : توشكون أن تُفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقلّ أبناؤهم ودعوا عاما . فحملت أمّ موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية أمه ، حتى إذا كان القابل حملت بموسى .

وقد حدثنا عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قالت الكهنة لفرعون : إنه يولد في هذه العام مولود يذهب بملكك . قال : فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل ، وعلى كل مائة عشرة ، وعلى كل عشرة رجلاً فقال : انظروا كل امرأة حامل في المدينة ، فإذا وضعت حملها فانظروا إليه ، فإن كان ذكرا فاذبحوه ، وإن كان أنثى فخلّوا عنها . وذلك قوله : يُذَبّحُونَ أبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ .

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وَإِذْ نَجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونُكُمْ سُوءَ العَذَابِ قال : إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة ، فقالت الكهنة : إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه . فبعث في أهل مصر نساء قوابل ، فإذا ولدت امرأة غلاما أتى به فرعون فقتله ويستحيي الجواري .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : وَإِذْ نَجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الآية ، قال : إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة ، وإنه أتاه آت ، فقال : إنه سينشأ في مصر غلام من بني إسرائيل فيظهر عليك ويكون هلاكك على يديه . فبعث في مصر نساء . فذكر نحو حديث آدم .

وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر عن السدي ، قال : كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر ، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل وأخربت بيوت مصر ، فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والحازَة ، فسألهم عن رؤياه ، فقالوا له : يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه يعنون بيت المقدس رجل يكون على وجهه هلاك مصر . فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه ، ولا تولد لهم جارية إلا تركت . وقال للقبط : انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم ، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة . فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم ، وأدخلوا غلمانهم فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى : إِنّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ يقول : تجبر في الأرض : وجعل أهلها شِيَعا ، يعني بني إسرائيل ، حين جعلهم في الأعمال القذرة ، يستضعفُ طائِفَةً منهم يُذَبّحُ أبْنَاءَهُمْ . فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح فلا يكبر الصغير . وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت ، فأسرع فيهم . فدخل رءوس القبط على فرعون ، فكلموه ، فقالوا : إن هؤلاء قد وقع فيهم الموت ، فيوشك أن يقع العمل على غلماننا بذبح أبنائهم فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار ، فلو أنك كنت تبقي من أولادهم فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة . فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون ، فترك فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحُزَاتُه إليه ، فقالوا له : تعلّم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه ، يسلبك ملكك ويغلبك على سلطانك ، ويخرجك من أرضك ، ويبدّل دينك . فلما قالوا له ذلك ، أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان ، وأمر بالنساء يستحيين . فجمع القوابل من نساء مملكته ، فقال لهن : لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتُنّه . فكنّ يفعلن ذلك ، وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان ، ويأمر بالحبالى فيعذّبن حتى يطرحن ما في بطونهن .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : لقد ذكر أنه كان ليأمر بالقصب فيشقّ حتى يجعل أمثال الشّفار ، ثم يصف بعضه إلى بعض ، ثم يؤتي بالحبالى من بني إسرائيل ، فيوقفن عليه فيحزّ أقدامهن ، حتى إن المرأة منهن لتمصَعُ بولدها فيقع من بين رجليها ، فتظلّ تطؤه تتقي به حدّ القصب عن رجلها لما بلغ من جهدها . حتى أسرف في ذلك وكاد يفنيهم ، فقيل له : أفنيت الناس وقطعت النسل ، وإنهم خَوَلُك وعمالك . فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما . فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان ، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون .

قال أبو جعفر : والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم ، فتأويل قوله إذا على ما تأوّله الذين ذكرنا قولهم : ويستحيون نساءكم : يستبقونهن فلا يقتلونهن .

وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس وأبي العالية والربيع بن أنس والسدي في تأويل قوله : ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ : أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن أن يكون جائزا أن تسمى الطفلة من الإناث في حال صباها وبعد ولادها امرأة ، والصبايا الصغار وهن أطفال : نساء ، لأنهم تأوّلوا قول الله جل وعزّ : وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ : يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن .

وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج ، فقال بما :

حدثنا به القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ قال : يسترقّون نساءكم .

فحاد ابن جريج بقوله هذا عما قاله من ذكرنا قوله في قوله : وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ إنه استحياء الصبايا الأطفال ، قال : إذ لم نجدهن يلزمهن اسم نساء . ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله «ويستحيون » يسترقّون ، وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا عجمية ، وذلك أن الاستحياء إنما هو استفعالٌ من الحياة نظير الاستبقاء من البقاء والاستسقاء من السقي ، وهو معنى من الاسترقاق بمعزل .

وقد قال آخرون : قوله يُذَبّحونَ أبْناءَكُمْ بمعنى يذبحون رجالكم آباء أبنائكم . وأنكروا أن يكون المذبوحون الأطفال ، وقد قرن بهم النساء . فقالوا : في إخبار الله جل ثناؤه إن المستحين هم النساء الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان ، لأن المذبحين لو كانوا هم الأطفال لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا . قالوا : وفي إخبار الله عزّ وجل أنهم النساء ما يبين أن المذبحين هم الرجال . وقد أغفل قائلوا هذه المقالة مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين موضع الصواب ، وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أمّ موسى أنه أمرها أن ترضع موسى ، فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت ثم تلقيه في اليم . فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما يقتلون الرجال ويتركون النساء لم يكن بأمّ موسى حاجة إلى إلقاء موسى في اليمّ ، أو لو أن موسى كان رجلاً لم تجعله أمه في التابوت ولكن ذلك عندنا على ما تأوّله ابن عباس ومن حكينا قوله قبل من ذبح آل فرعون الصبيان وتركهم من القتل الصبايا .

وإنما قيل : وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن ، وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء ، لأنهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن ، فقيل : وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يعني بذلك الوالدات والمولودات كما يقال : قد أقبل الرجال وإن كان فيهم صبيان ، فكذلك قوله : وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ . وأما من الذكور فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودون قيل : يذبحون أبناءكم ، ولم يقل يذبحون رجالكم .

القول في تأويل قوله تعالى : وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ منْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ .

أما قوله : وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ فإنه يعني : وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم على ما وصفت بلاء لكم من ربكم عظيم . ويعني بقوله بلاء : نعمة . كما :

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ قال : نعمة .

وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : وفي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ أما البلاء : فالنعمة .

وحدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ قال : نعمة من ربكم عظيمة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثل حديث سفيان .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاح ، عن ابن جريج : وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ قال : نعمة عظيمة .

وأصل البلاء في كلام العرب : الاختبار والامتحان ، ثم يستعمل في الخير والشرّ ، لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشرّ ، كما قال الله جل ثناؤه : وَبَلَوْناهُمْ بالحَسَناتِ وَالسّيّئات لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول : اختبرناهم ، وكما قال جل ذكره : وَنَبْلُوكُمْ بالشّرّ والخَيْرِ فِتْنَةً . ثم تسمي العرب الخير بلاء والشرّ بلاء ، غير أن الأكثر في الشرّ أن يقال : بلوته أبلوه بلاء ، وفي الخير : أبليته أبليه إبلاءً وبلاءً ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى :

جَزَى اللّهُ بالإحْسانِ ما فَعَلا بكُمْ *** وأبلاهُما خَيْرَ البَلاءِ الّذِي يَبْلُو

فجمع بين اللغتين لأنه أراد : فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده .