" إذ " في موضع نصب عطفاً على " نعْمَتي " ، وكذلك الظُّروف التي بعده نحو : { وَإِذْ وَاعَدْنَا } [ البقرة : 51 ] ، { وَإِذْ قُلْتُمْ } [ البقرة : 55 ] . وقرئ : [ أَنْجَيْتُكُمْ ] على التوحيد .
وهذا الخطاب للموجودين في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بُدّ من حذف مضاف ، أي : أنجينا آباءكم ، نحو : { حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ }
[ الحاقة : 11 ] ؛ لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء ، وأصل الإنْجَاء والنَّجَاة : الإلقاء على نَجْوَةٍ من الأرض ، وهي المرتفع منها ليسلم من الآفات ، ثم أطلق الإنْجاء على كل فَائِزٍ وخارج من ضِيْقٍ إلى سَعَةٍ ، وإن لم يُلْقَ على نَجْوَةٍ .
و " من آل " متعلّق به ، و " من " لابتداء الغاية .
و " آل " اختلف فيه على ثلاثة أقوال : فقال " سيبويه " [ وأتباعه ] : إن أصله " أهل " فأبدلت الهاء همزة لقربها منها [ - كما قالوا : ماء ، وأصله ماه ] ، ثم أبدلت الهمزة ألفاً ، لسكونها بعد همزة مفتوحة نحو : " آمن وآدم " ولذلك إذا صُغِّرَ رجع إلى أصله [ فتقول : " أُهَيْل " .
قال أبو البقاء : وقال بعضهم : " أويل " ، فأبدلت الألف واواً ] .
ولم يرده إلى أصله ، كما لم يردوا " عُيَيْداً " إلى أصله في التصغير يعني فلم يقولوا : " عُوَيْداً " لأنه من " عَادَ يَعُود " ، قالوا : لئلا يلتبس بِعُودِ الخَشَبِ . وفي هذا نظر ؛ لأن النحاة قالوا : من اعتقد كونه من " أهل " صغره على " أُهَيْل " ، ومن اعتقد كونه من " آل يَئُول " أي : رجع صَغّره على " أُوَيل " .
وذهب " النحاس " إلى أن أصله " أَهْل " أيضاً ، إلا أنه قلب الهاء ألفاً من غير أن يقلبها أولاً همزة ، وتصغيره عنده على " أُهَيْلٍ " .
وقال الكسَائِيُّ : " أُوَيْل " وقد تقدّم ما فيه .
ومنهم من قال أصله : " أَوَلَ " مشتق من " آلَ يَئُول " ، أي : رجع ؛ لأنّ الإنسان يرجع إلى آله ، فتحركت الواو ، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ، وتصغيره على " أُوَيْل " نحو : " مَال " و " مُوَيْل " و " بَاب " و " بُوَيْب " ويعزى هذا للكسَائِيِّ .
وجمعه : " آلُون " و " آلِين " وهذا شاذٌّ ك " أَهْلِين " ؛ لأنه ليس بصفة ولا عَلَمٍ .
قال ابن كَيْسَان : إذا جمعتَ " آلاً " قُلْتَ : " آلُونَ " ، فإن جمعت " آلاً " الذي هو [ السَّراب ] قلت : " آوَال " ليس إلاّ ؛ مثل : " مَال وأَمْوَال " .
واختلف فيه فقيل : " آل " الرجل قرابته كأهله .
وقيل : من كان من شيعته ، وإن لم يكن قريباً منه ؛ قال : [ الطويل ]
471 فَلاَ تَبْكِ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أَجَنَّهُ *** عَلِيٌّ وَعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْرِ
ولهذا قيل : آل النبي من آمن به إلى آخر الدَّهْرِ ، ومن لم يؤمن به فليس بآله ، وإن كان نسيباً له ، كأبي لَهَبٍ وأبي طالب ، ونقل بعضهم أن " الرَّاغب " ذكر في " المفردات " أن " الآل " يطلق على الرَّجل نفسه .
واختلف فيه النُّحَاة : هل يضاف إلى الضمير أم لا ؟
فذهب الكسائي ، وأبو بكر الزبيدي ، والنحاس إلى أن ذلك لا يجوز ، فلا يجوز اللَّهم صَلِّ على محمَّد وآله ، بل وعلى آل محمد ، وذهب جَمَاعة ، منهم ابن السِّيدِ إلى جوازه ؛ واستدلُّوا بقوله عليه الصلاة والسلام لما سئل فقيل : يا رسول الله من آلُكَ ؟ فقال : " آلِي كُلُّ تَقِيٍّ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ{[1285]} " ؛ وأنشدوا قول [ عبد المطلب ] : [ الكامل ]
472 لاَهُمَّ إنَّ العَبْدَ يَمْ *** نَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلاَلَكْ
وانْصُرْ عَلَى آل الصَّلِي *** بِ وَعَابِدِيهِ اليَوْمَ آلَكْ
473 أَنَا الفَارِسُ الحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي *** وَآلِي كَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا ]
واختلفوا أيضاً فيه : هل يُضَاف إلى غير العُقَلاَء فيقال : آل " المدينة " وآل " مكة " ؟
فمنعه الجمهور ، وقال " الأخفش " : قد سمعناه في البُلْدَان ، قالوا : أهل " المدينة " وآل " المدينة " ولا يضاف إلاّ إلى مَنْ له قَدْرٌ وخَطرٌ ، فلا يقال : آل الإسْكَاف ولا آل الحَجّام ، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة معنًى ولفظاً ، وقد عرفت ما اختص به من الأحكام دون أصله الذي هو " أهل " هذا كلّه في " آل " مراداً به الأهل ، أما " آل " الذي هو السَّراب فليس مما نحن فيه في شيء ، وتصغيره " أُوَيْل " نحو : " مَال وَمُوَيْل " وتقدم جمعه .
قوله : { فِرْعَوْنَ } خفض بالإضافة ، ولكنه لا ينصرف للعُجْمَةِ والتعريف .
واختلف فيه : هل هو علم شخص ، أو علم جنس ؛ فإنه يقال لكلّ [ من ] ملك القِبْط و " مِصْر " : فرعون ، مثل كِسْرَى لكل من ملك الفرس ، وقَيْصَر [ وهرقل ] لكل من ملك الروم ، ويقال لكل من ملك " الهند " : نهمز ، وقيل : يَعْفُور ، ويقال لمن ملك الصَّابئة : نمْرُوذ ، ولمن ملك البربر : جَالُوت ، [ ولمن ملك اليهود فيطون ، والمعروف شالخ ولمن ملك فَرْغَانَة الإخشيد ] ، ولمن ملك العرب من قبل العَجم النُّعْمَان ؛ ولمن ملك " الصين " يعفو ، وهِرَقْل لكل من ملك الروم ، والقَيْل لكل من ملك " حِمْيَر " ، والنَّجَاشي لكل من ملك " الحبشة " ، وبَطْلَيْمُوس لكل من ملك " اليونان " وتُبَّع لمن ملك " اليمن " ، وخَاقَان لمن ملك التُّرك .
وقال " الزمخشري " : وفرعون علم لمن ملك العَمَالقة كقيصر للروم ، ولعُتُوّ الفراعنة اشتقوا منه تَفَرْعَنَ فلانٌ ، إذا عَتَا وتَجَبَّرَ ؛ وفي مُلَحِ بعضهم : [ الكامل ]
474 قد جَاءَهُ الموسَى [ الكَلُومُ ] فَزَادَ في *** أَقْصَى تَفَرْعُنِهِ وَفَرْطِ عُرَامِهِ
وقال " المَسْعُودي{[1286]} " : " لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية " .
وظاهر كلام " الجوهري " أنه مشتق من معنى العتو ، فإنه قال : " والعُتَاة : الفَرَاعنة ، وقد تَفَرْعَنَ ، وهو ذو فَرْعَنَةٍ ، أي دهاء ومكر " .
وفي الحديث : " أخذنا فِرْعَون هذه الأُمّة " إلا أن [ يريد ] معنى ما قاله الزمخشري المتقدم .
واسم فرعون موسى : قَابُوس في قول أهل الكتاب ، نقله وهب بن منبه وقال ابن إسحاق وَوَهْب : " اسمه الوليد بن مصعب بن الريان{[1287]} ، ويكنى أبا مُرَّة " . وحكى ابن جريج " أن " اسمه مصعب بن رَيّان ، وهو من بني عمْلِيق بن ولاد بن إرم بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام .
وذكر ابن الخطيب أن [ ابن ] وهب قال : إن فرعون يوسف عليه الصَّلاة والسَّلام هو فرعون موسى ، لقول موسى عليه الصَّلاة والسلام . { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ } [ غافر : 34 ] وقال : هذا غير صحيح ، إذ كان بين دخول يوسف " مصر " ، وبين أن دخلها موسى أكثر من أربعمائة سنة .
وذكر النووي أن فرعون موسى عمر أكثر من أربعمائة سنة ، فمشى قول ابن وهب .
وقال محمد بن إسحاق : " هو غير فرعون يوسف وإن فرعون يوسف كان اسمه الريان بن الوليد " .
قوله : { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } هذه الجملة في محل نصب على الحال من " آل " أي : حال كونهم سَائِمِين ، ويجوز أن تكون مستأنفة لمجرد الإخبار بذلك ، وتكون حكاية حال ماضية ، قال بمعناه ابن عطية ، وليس بظاهر .
وقيل : هو خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم يسومونكم ، ولا حَاجَةَ إليه أيضاً .
و " كم " مفعول أول ، و " سوء " مفعول ثان ؛ لأن " سَامَ " يعتدّى لاثنين ك " أعْطَى " ، ومعناه أَوْلاَهُ كذا ، وألزمه إياه ؛ ومنه قول عمرو بن كُلْثُومٍ : [ الوافر ]
475 إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً *** أَبَيْنَا أن نُقِرَّ الخَسْفَ فينا
قال الزمخشري : " وأصله من سَامَ السّلعة إذا طلبها ، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ، ويزيدونكم عليه " .
وقيل أصل السَّوم : الدوام ، ومنه سَائِمَةُ الغَنَمِ لمداومتها الرعي . والمعنى : يديمون تعذيبكم .
وسوء العذاب : أشدّه وأقطعه ، وإن كان كله سيّئاً ، كأنه أقبحه بالإضافة إلى سائره .
والسوء : كل ما يعم الإنسان من أمْرٍ دنيوي وأخروي ، وهو في الأصل مصدر ، ويؤنث بالألف ، قال تعالى : { أَسَاءُواْ السُّوأى } [ الروم : 10 ] .
[ وأجاز بعضهم أن يكون " سوء " نعتاً لمصدر محذوف تقديره : يسومونكم سوماً سيئاً ، كذا قدره .
وقال أيضاً : ] " ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب " ، كأنه يريد بذلك أنه منصوب على نوع المصدر نحو : " قعد جلوساً " ؛ لأن سوء العذاب نوع من السوم .
قال أبو العباس المُقْرئ : ورد لفظ " السّوء " على خمسة عشر وجهاً :
الأول : بمعنى " الشدة " كهذه الآية ، أي : شدة العذاب .
الثاني : بمعنى " العَقْر " قال تعالى : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ } [ هود : 64 ] .
الثالث : " الزِّنا : قال تعالى : { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ } [ يوسف : 51 ] .
الرابع : " المَرَض " قال تعالى : { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } [ طه : 22 ] .
الخامس : " اللّعْنة " قال تعالى : { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ }
السادس : " العَذَاب " قال تعالى : { لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ } [ الزمر : 61 ] .
السابع : " الشِّرْك " قال تعالى : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ } [ النحل : 28 ] .
الثامن : " العِصْيَان " قال تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ }
التاسع : " الشَّتْم " قال تعالى : { وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ }
[ الممتحنة : 2 ] أي : بالشَّتم ، ومثله : { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ }
[ النساء : 148 ] أي : الشَّتْم .
العاشر : " الجُنُون " قال تعالى : { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ }
الحادي عشر : " اليأس " قال تعالى : { وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 25 ] أي : يأس الدار .
الثاني عشر : " المرض " قال تعالى : { وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [ النمل : 62 ] يعني المرض .
الثالث عشر : " الفَقْر " قال تعالى : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } [ الأعراف : 188 ] أي : الفقر .
الرابع عشر : " الهَزِيمة " قال تعالى : { فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } [ آل عمران : 174 ] أي : هزيمة .
الخامس عشر : " السوء " : الصيد ، قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوءِ } [ الأعراف : 165 ] أي : الصيد .
فصل في السوء الذي ضرب على بني إسرائيل
قال " محمد بن إسحاق " : جعلهم خولاً وخدماً له ، وصنفهم في [ أعماله ]{[1288]} فصنف يَبْنُون ، وصنف يَحْرُثُون ، وصنف يَزْرَعُون ، وصنف يخدمونه ، ومن لم يكن في فرع من أعماله ، فإنه يضع عليه جزيةً يؤديها .
وقال " السُّدي " : جعلهم في الأعمال الصَّعبة الشديدة مثل : كنس المَبْرز ، وعمل الطِّين ، ونحت الجِبَال .
قوله : { يُذَبِّحُونَ } هذه الجملة يُحْتَمَلُ أن تكون مفسّرة للجملة قبلها ، وتفسيرها لها على وجهين :
أحدهما : أن تكون مستأنفةً ، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب ، كأنه قيل : كيف كان سومهم العذاب ؟ فقيل : يذبحون .
الثاني : أن تكون بدلاً منها ؛ كقوله : [ الطويل ]
476 مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بَنَا في دِيَارِنَا *** . . . {[1289]}
{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ } [ الفرقان : 68-69 ] ، ولذلك ترك العاطف ، ويحتمل أن تكون حالاً ثانية ، لا على أنها بدل من الأول .
وذلك على رأي من يجوز تعدد الحال وقد منع " أبو البقاء " هذا الوجه محتجاً بأن الحال تشبه المفعول به ، ولا يعمل العامل في مفعولين على هذا الوصف ، وهذا بناء منه على أحد القولين ، ويحتمل أن تكون حالاً من فاعل " يسومونكم " .
وقرئ{[1290]} : " يَذْبَحُونَ " بالتخفيف ، والأولى قراءة الجماعة ؛ لأن الذبح متكرر .
فإن قيل : لِمَ لم يؤت هُنَا بواو العطف كما أُتِيَ بها في سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؟
فالجواب : أنه أريد هنا التَّفسير كما تقدَّم ، وفي سورة إبراهيم معناه : يعذِّبُونَكُم بالذَّبْح وبغير الذَّبْح .
وقيل : يجوز أن تكون " الواو " زائدةً ، فتكون كآية " البقرة " ؛ واستدلَّ هذا القائل على زيادة الواو بقوله : [ الطويل ]
477 فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحى *** . . . {[1291]}
يريد : انتحى . وقوله : [ المتقارب ]
478- إلَى المَلِكَ القَزْمِ وَابْنِ الهُمَامِ *** . . . {[1292]}
قال ابن الخطيب : المقصود من ذكر حرف العطف في سورة " إبراهيم " عليه الصلاة والسلام أنه تعالى قال قبل هذه الآية : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ }
[ إبراهيم : 5 ] والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا [ بتعداد ]{[1293]} النعم ، فوجب أن يكون المراد من قوله : { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } نوعاً من العذاب ، والمراد من قوله : { وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } نوعاً آخر ، فتحصل منهما نوعان من النعمة ، فلهذا وجب ذكر حرف العَطْف ، وأما هذه الآية لم يرد الأمر إلاَّ بتذكر جنس النعمة ، وهي قوله : { اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } ، فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذّبح أو غيره ، فإنَّ التذكر لجنس النعمة حاصل .
" والذّبح " أصله الشَّقّ ، ومنه المَذَابح لأَخَادِيد السُّيول في الأرض .
والذِّبْح : المذبوح " والذُّبَاح " : تشقق في [ أصول ]{[1294]} الأصابع . والمَذَابح أيضاً : المحاريب .
وأما " أبناء " جمع " ابن " ، رجع به إلى أصله ، فَرُدَّت لامه ، إما الواو أو الياء حسبما تقدم .
والأصل : " أبناو " أو " أبناي " ، فأبدل حرف العلة همزة لتطرفه بعد ألف زائدة ، والمراد بهم : الأطفال عند أكثر المفسرين .
وقيل : الرجال ، وعبر عنهم بالأبناء باعتبار ما كانوا ؛ لأنه ذكرهم في مُقَابلة النساء .
و " النِّسَاء " : أسم للبَالِغَات ، فكذا المُرَاد من الأبناء الرِّجَال البالغون .
قالوا : إنه كان يأمر بقَتْلِ الرجال الذين يخافون منهم الخُرُوج عليهم والتجمُّع لإفساد أمره .
والأول أولى لحمل لفظ الأبناء على ظاهره ، ولأنه كان متعذّر قتل جميع الرِّجَال على كثرتهم ، وأيضاً فكانوا مُحْتَاجين إليهم في استعمالهم في الأعمال الشَّاقة ، ولو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى عليه الصلاة والسلام في التَّابوت حال صغره معنى .
وأما قولهم : لأنه ذكرهم في مقابلة النساء ففيه جوابان :
الأول : أن الأبناء لما قتلوا حَالَ الطفولة لم يصيروا رجالاً ، لم يجز إطلاق اسم الرجال عليهم .
أما البنات لما لم يُقْتَلْنَ ، بل وصلن إلى حَدّ النساء جاز الإطلاق اسم النساء عليهن اعتباراً بالمآل .
الثاني : قال بعضهم : المراد بقوله : { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } أي يُفَتِّشُون حياء المرأة أي : فَرْجَهَا هل بها حمل أم لا ؟
فصل في السبب الباعث على تقتيل الأبناء
ذكروا في سبب قَتْلِ الأبناء وجوهاً :
أحدها : قال ابن عباس : وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد به إبراهيم أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكاً فخافوا ذلك ، واتفقت كلمتهم على إعداد رِجَالٍ يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذَبَحُوهُ فلما رأوا أكابرهم يموتون ، وصغارهم يذبحون خافوا الفَنَاءَ فلا يجدون من يُبَاشر الأعمال الشّاقة ، فصاروا يقتلون عاماً دون عام{[1295]} .
وثانيها : قال السُّدي : إن فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المَقْدِسِ حتى اشتملت على بيوت " مصر " ، فأحرقت القبط ، وتركت بني إسرائيل فدعا فرعون الكَهَنَةَ ، وسألهم عن ذلك ؟ فقالوا : يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القِبْطِ على يديه .
وثالثها : أن المنجّمين أخبروا فرعون بذلك .
قال ابن الخطيب{[1296]} : والأقرب هو الأول ؛ لأن الذي يُسْتَفَاد من علم التعبير ، وعلم النجوم لا يكون أمراً مفصلاً ، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغَيْبِ معجزاً ، بل يكون أمراً مجملاً ، والظاهر من حال العاقل ألاَّ يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه .
فإن قيل : إنَّ فرعون كان كافراً بالله فبأن يكون كافراً بالرسل أولى ، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقدم على هذا الأمر العظيم بسبب إخبار إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلاة والسلام عنه ؟
فالجواب : لعلّ فرعون كان عارفاً بالله ، وبصدق الأنبياء إلاَّ أنه كان كافراً كفر عِنَادٍ أو يقال : إنه كان شاكّاً متحيراً في دينه ، وكان يجوِّز صدق إبراهيم عليه الصلاة والسلام فأقدم على ذلك الفعل احتياطاً .
قوله : " وَيَسْتَحْيُونَ " عطف على ما قبله ، وأصله : " يَسْتَحييُون " ، فأعلّ بحذف الياء بعد حذف حركتها ، وقد تقدم بيانه فوزنه : " يَسْتَفعُون " .
والمراد بالنِّسَاء : الأطفال ، وإنما عبر عنهم بالنساء ، لمآلهن إلى ذلك .
وقيل : المراد غير الأطفال كما قيل في الأبناء . ولام " النساء " الظاهر أنها من واو لظهورها في مرادفه وهو : نِسْوَان ونِسْوَة .
وهل " نساء " جمع " نسوة " أو جمع " امرأة " من حيث المعنى ؟ قولان ، ويحتمل أن تكون ياءً اشتقاقاً من النّسْيَان .
قوله : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } الجار والمجرور خبر مقدم ، و " بَلاَء " مبتدأ . ولامه واو لظهورها في الفعل نحو : بَلَوْتُه { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ }
[ البقرة : 155 ] ، فأبدلت همزة . والبلاء يكون في الخير والشر ، قال تعالى :
{ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ؛ لأن الابتلاء امتحان ، فيمتحن الله عباده بالخير ليشكروا ، وبالشر ليصبروا .
وقال ابن كيسان : " أَبْلاَه وبَلاَه في الخير والشر " ؛ وأَنْشَدَ : [ الطويل ]
479 جَزَى اللَّهُ بِالخَيْرَاتِ ما فعلاَ بِكُمْ *** وَأَبْلاَهُمَا خَيْرَ البَلاَءِ الَّذِي يَبْلُو{[1297]}
وقيل : الأكثر في الخير أَبْلَيْتُهُ ، وفي الشر بَلَوْتُهُ ، وفي الاختبار ابْتَلَيْتُهُ وبَلَوْتُهُ .
قال النحاس : فاسم الإشارة من قوله : " وفي ذلكم " يجوز أن يكون إشارة إلى الإنْجَاءِ وهو خير محبوب ، ويجوز أن يكون إشارة إلى الذّبح ، وهو شر مكروه .
وقال الزمخشري : والبلاء : المِحْنة إن أشير ب " ذلكم " إلى صنيع فِرْعَونَ ، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، وهو حسن .
وقال ابن عطية : " ذلكم " إشارة إلى جملة الأمر ، إذ هو خير فهو كفرد حاضر ، كأنه يريد أن يشير به إلى مجموع الأمرين من الإنْجَاءِ ، والذبح ، ولهذا قال بعده : " ويكون البلاء في الخير والشر " ، وهذا غير بعيد ؛ ومثله : [ الرمل ]
480 إنَّ لِلْخَيْرِ ولِلشَّرِّ مَدًى *** . . . {[1298]}
وقيل : و " من ربكم " متعلّق ب " بلاء " ، و " من " لابتداء الغاية مجازاً .
وقال أبو البقاء : هو في موضع رفع صفة ل " بلاء " ، فيتعلّق بمحذوف . وفي هذا نظر ، من حيث إنه إذا اجتمع صفتان ، إحْدَاهما صريحة ، والأخرى مؤولة ، قُدِّمت الصريحة ، حتى إن بعض الناس يجعل ما سواه ضرورةً ، و " عظيم " صفة ل " بلاء " وقد تقدم معناه مستوفى [ في أول السورة ]{[1299]} .