نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

ولما وصف ذلك اليوم بأنه لا ينفع{[2312]} فيه حيلة لذي ملكة المتردي{[2313]} بالكبرياء المتجلل بالعظمة ذكرهم بما أنعم عليهم من إنجائه لهم بموسى وهارون عليهما السلام حيث شفعا عند الملك الذي كان استعبدهم وسامهم سوء العذاب ، فلما لم يشفّعهما فيهم قاهراه فانتصرا عليه بأيد مليكهم واستنقذاهم{[2314]} منه بسطوة معبودهم . وقال الحرالي : ولما استوفى خطاب النداء لهم وجهي التذكير بأصل فضيلة النفس الباطنة بالوفاء وغرض النفس الظاهر في النعمة والرئاسة جاء ما بعد ذلك من تفاصيل النعم عطفاً من غير تجديد نداء إلى منتهى خاتمة الخطاب معهم حيث ثنى لهم{[2315]} الخطاب الأدنى بالتذكير بالنعمة ختماً لمتسق خطابه بما تضمنه تذكيرهم بتكرار قوله : وإذ وإذ ، واحدة بعد أخرى إلى جملة منها ، ولما ذكرهم بالنعمة الظاهرة فانتبه من تداركته الهداية{[2316]} وتمادى من استحق العقوبة ذكر{[2317]} أهل الاستحقاق بما عوقبوا به بما يستلزمه معنى النجاة وبما فسره مما أخذوا به على ذنوب تشاكل ما هم عليه في معاندتهم القرآن ، فحين لم ينفع فيهم التذكيران بالعهد والنعمة هددوا بتقريرهم على مواقع ما أصيبوا{[2318]} به من البلاء من عدوهم لما اقترفوه من ذنوبهم

{ ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً{[2319]} }[ غافر : 34 ] فكان في تكذيبهم بالرسالة الأولى وشكهم ما أصابهم من العقوبة من آل فرعون حتى أنقذهم الله بموسى عليه السلام فقال تعالى : { وإذ } أي واذكروا{[2320]} إذ { نجيناكم } وهو من التنجية وهي تكرار النجاة ، والنجاة معناه رفع على النجوة وهو المرتفع من الأرض الذي هو مخلص مما ينال من الوهاد وخبث{[2321]} الأرض من هلاك بسيل ماء ونحوه { من آل } آل{[2322]} الرجل من {[2323]}تبدو فيهم{[2324]} أحواله وأعماله وأفعاله حتى كأنهم هو في غيبه{[2325]} من معنى الآل الذي هو السراب الذي يظهر فيه ما بعد ويتراءى ما لم يكن يرى لولاه ، { فرعون } اسم ملك مصر في الجاهلية ، علم جنس لملوكها بمنزلة أسماء الأجناس في {[2326]}الحيوان وغيره - انتهى . والمراد بالآل فرعون وأتباعه{[2327]} فإن الآل{[2328]} يطلق على الشخص نفسه وعلى أهله وأتباعه وأوليائه - قاله في القاموس ، قال : ولا يستعمل إلاّ فيما فيه شرف غالباً-{[2329]} ثم بين ما أنجاهم منه بقوله : { يسومونكم سوء العذاب } سماه بذلك لأنه أشد البلاء على النفس لما فيه من استحقارها ، من السوم وهو تعذيب بتهاون بالمعذب ، والسوم ما يشتد ، تنكر النفس له وتكرهها ، ثم فسر هذا بقوله { يذبحون } من التذبيح وهو تكرار الذبح ، والذبح قطع بالغ في العنق - قاله الحرالي .

{[2330]}ولما كان كل من ذبح الابن وحياة المرأة بغير رجل أفحش وكانت البنت إذا بقيت صارت امرأة عبر بالأبناء والنساء فقال { أبناءكم } أي سوقاً لكم مساق البهائم { ويستحيون }{[2331]} قال الحرالي : من الاستحياء وهو استبقاء الحياة { نساءكم } من معنى الاتخاذ للتأهل الملابس في معنى ما جرى منه اشتقاق الإنس والإنسان والنسوة باشتراكها{[2332]} في أحد الحروف الثلاثة من الهمزة أو الواو أو الياء مع اجتماعها{[2333]} في النون والسين - انتهى . ثم نبههم على ما فيه من العظم بقوله { وفي ذلكم }{[2334]} فأشار بأداة البعد مقرونة بالميم { بلاء } أي اختبار { من ربكم } أي المحسن إليكم في حالي الشدة والرخاء { عظيم* } قال الحرالي : البلاء الاختبار هو إبداء خبرة الشيء بشدة ومحنة ، وفيه إشعار باستحقاقهم ذلك واستصلاحهم بشدته دون ما هو أيسر منه ، وذكره بالعظم لشياعه في الأجسام والأنفس والأرواح ، وذكر معنى النجاة ثم فصله تفصيلاً لكيفيته بعد ذلك تعداداً لنعمة النجاة التي هي تلو رحمة الإنعام التي هي{[2335]} تلو رفعة التقدم بالعهد ، فانتهى الخطاب نهايته في المعنى يعني فلما{[2336]} قررهم تعالى على ما اقترفوه قبل موسى عليه السلام حين أصابهم من آل فرعون ما أصابهم استجدّ لهم تذكيراً بنعمة نجاة من عقوبة متقدم أعمالهم - انتهى .


[2312]:في مد: تنفع.
[2313]:وفي م: المرتدي.
[2314]:من م وظ، وفي الأصل ومد: فاستنقداهم – كذا بالدال المهملة.
[2315]:زيد في م ومد وظ: هذا.
[2316]:وفي ظ: العناية
[2317]:في م: ذكره.
[2318]:ليس في ظ.
[2319]:سورة 40 آية 34.
[2320]:قال المهائمي: "و" اذكروا من جملة تلك النعم "إذ نجيناكم" أي وقت إنجائنا إياكم "من" أشد عذاب و "آل" أي أهل "فرعون" هو لقب من ملك العمالقة ككسرى وقيصر والنجاشي لمن ملك الفرس. وقال البيضاوي: تفصيل لما أجمله في قوله "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" وعطف على "نعمتي" عطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة؛ وأصل آل أهل لأن تصغيره أهيل، وخص بالإضافة إلى أولى الخطر كالأنبياء والملوك؛ ولعتوهم اشتق منه: تفر عن الرجل، إذا عتا.
[2321]:في م: خبث
[2322]:في مد: أي.
[2323]:من مد وظ وم، غير أن فيها: تبدوا – كذا وفي الأصل: تبدونهم.
[2324]:من مد وظ وم، غير أن فيها: تبدوا – كذا؛ وفي الأصل: تبدونهم.
[2325]:في مد: من.
[2326]:في مد: من.
[2327]:قال أبو حيان: وآل فرعون هنا أأهل مصر – قاله مقاتل: أو أهل بيته خاصة - قاله أبو عبيد، أو أتباعه على ذنبه – قاله الزجاج، ومنه "وأغرقنا آل فرعون" وهم أتباعه على ذنبه. قال السهيلي: فرعون اسم لكل من ملك القبط ومصر واسمه الوليد ابن مصعب السوم بمعنى التكليف أو الإبلاء – وذكر فيه أقوال المفسرين؛ وسوء العذاب الأعمال القذرة – قاله السدي، أو الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك – قاله بعضهم. "يذبحون" قراءة الجمهور بالتشديد وهو أولى لظهور تكرار الفعل باعتبار متعلقاته وفي سبب الذبح والاستحياء أقوال وحكايات مختلفة الله أعلم بصحتها ومعظمها يدل على خوف فرعون من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل.
[2328]:في م: الأول - كذا
[2329]:العبارة المحجوزة زيدت من م ومد، وليست في ظ، وفي الأصل بالهامش ولا تتضح.
[2330]:العبارة من هنا إلى "فقال" ليست في ظ.
[2331]:معنى "يستحيون" يتركون بناتكم أحياء للخدمة أو يفتشون أرحام نسائكم، وقد قيل إن الاستحياء هنا من الحياء، الذي هو ضد القحة ومعناه أنهم يأتون النساء من الأعمال بما يلحقهم منه الحياء – البحر المحيط 1 / 194.
[2332]:في ظ: باشتراكهما.
[2333]:في ظ: اجتماعهما.
[2334]:هو إشارة إلى ذبح الأبناء واستحياء النساء والمراد بالبلاء الشدة والمكروه، وقيل: يعود إلى معنى الجملة من قوله "يسومونكم" مع ما بعده فيكون معنى البلاء ما تقدم وقيل يعود على التنجية وهو المصدر المفهوم من قوله "نجيناكم" فيكون البلاء هنا النعمة ويكون "ذلكم" قد أشير به إلى أبعد مذكور، من ربكم عظيم" دليل على أن الخير والشر من الله تعالى بمعنى أنه خالقهما، ووصفه بعظيم ظاهر، وكونه عظيما هو بالنسبة للمخاطب والسامع لا بالنسبة إلى الله يستحيل عليه اتصافه بالاستعظام.
[2335]:في ظ: هو.
[2336]:قال القشيري من صبر في الله على بلاء الله عوضه الله صحبة أوليائه. هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه فجعل منهم أنبياء وجعل منهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين – انتهى. ولم تزل النعم تمحو آثار النقم – من البحر المحيط 1 / 194.