تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكرهم النعم ليوحدوه، فقال سبحانه: {وإذ نجيناكم}، يعني أنقذناكم
{يسومونكم سوء العذاب}، يعني يعذبونكم شدة العذاب... ثم بين العذاب، فقال: {يذبحون أبناءكم} في حجور أمهاتهم.
{ويستحيون نساءكم}؛ يعني قتل البنين وترك البنات...
يقول الله عز وجل: {وفي ذلكم}، يعني فيما يخبركم من قتل الأبناء وترك البنات {بلاء}، يعني نقمة.
{من ربكم عظيم} فاذكروا فضله عليكم حين أنجاكم من آل فرعون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وإذْ نَجّيْناكُمْ "عطف على قوله: "يا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ "فكأنه قال: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واذكروا إنعامنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون بإنجائنا لكم منهم.
وأما آل فرعون؛ فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه...
وأحسن أماكن «آل» أن ينطق به مع الأسماء المشهورة، مثل قولهم: آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآل عليّ، وآل عباس، وآل عقيل. وغير مستحسن استعماله مع المجهول، وفي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك غير حسن عند أهل العلم بلسان العرب أن يقال: رأيت آل الرجل، ورآني آل المرأة، ولا رأيت آل البصرة، وآل الكوفة. وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول: رأيت آل مكة وآل المدينة، وليس ذلك في كلامهم بالمستعمل الفاشي.
وأما فرعون فإنه يقال: إنه اسم كانت ملوك العمالقة بمصر تسمّى به، كما كانت ملوك الروم يُسمّي بعضهم قيصر وبعضهم هرقل، وكما كانت ملوك فارس تُسمى الأكاسرة واحدهم كسرى، وملوك اليمن تسمى التبابعة واحدهم تبع...
وإنما جاز أن يقال: "وَإِذْ نَجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ" والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجين منه، لأن المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجاهم من فرعون وقومه، فأضاف ما كان من نعمه على آبائهم إليهم، وكذلك ما كان من كفران آبائهم على وجه الإضافة، كما يقول القائل لآخر: فعلنا بكم كذا، وفعلنا بكم كذا، وقتلناكم وسبيناكم، والمخبر إما أن يكون يعني قومه وعشيرته بذلك أو أهل بلده ووطنه كان المقول له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لم يدركه... فكذلك خطاب الله عزّ وجلّ من خاطبه بقوله: "وَإِذْ نَجّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بالآية وآبائهم، أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبائهم إلى المخاطبين بالآية وقومهم.
"يَسُومُونُكُمْ سُوءَ العَذَاب".
وفي قوله: "يَسُومُونَكُمْ" وجهان من التأويل، أحدهما: أن يكون خبرا مستأنفا عن فعل فرعون ببني إسرائيل، فيكون معناه حينئذٍ: واذكروا نعمتي عليكم إذ نجّيتكم من آل فرعون، وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب.. والوجه الثاني: أن يكون «يسومونكم» حالاً، فيكون تأويله حينئذٍ: وإذْ نجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب...
" يَسُومُونَكُمْ": يوردونكم، ويذيقونكم، ويُولونكم، يقال منه: سامه خطة ضيم: إذا أولاه ذلك وأذاقه...
" سُوءَ العَذَابِ": ما ساءهم من العذاب.
فإن قال لنا قائل: وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوءهم؟ قيل: هو ما وصفه الله تعالى في كتابه فقال: "يُذَبّحُونَ أبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ"...
وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل من سَوْمهم إياهم سوء العذاب وذبحهم أبناءهم واستحيائهم نساءهم دون فرعون، وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوّة فرعون وعن أمره، لمباشرتهم ذلك بأنفسهم. فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حيّ بنفسه وإن كان عن أمر غيره، ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه، وإن كان الاَمر قاهرا الفاعل المأمور بذلك، سلطانا كان الاَمر أو لصّا خاربا أو متغلبا فاجرا، كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم إلى آل فرعون دون فرعون، وإن كانوا بقوّة فرعون وأمره إياهم بذلك فعلوا ما فعلوا مع غلبته إياهم وقهره لهم. فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما فهو المقتول عندنا به قصاصا، وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله.
وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل، واستحيائهم نساءهم، فإنه كان فيما ذكر لنا عن ابن عباس... قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكا وائتمروا، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشّفارَ، يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، ففعلوا. فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قال: توشكون أن تُفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقلّ أبناؤهم ودعوا عاما. فحملت أمّ موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية أمه، حتى إذا كان القابل حملت بموسى...
والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم، فتأويل قوله إذا على ما تأوّله الذين ذكرنا قولهم: ويستحيون نساءكم: يستبقونهن فلا يقتلونهن.
وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس وأبي العالية والربيع بن أنس والسدي في تأويل قوله: "ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ": أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن أن يكون جائزا أن تسمى الطفلة من الإناث في حال صباها وبعد ولادها امرأة، والصبايا الصغار وهن أطفال: نساء، لأنهم تأوّلوا قول الله جل وعزّ: "وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ": يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن.
وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج، فقال:"وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ" قال: يسترقّون نساءكم. فحاد ابن جريج بقوله هذا عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ إنه استحياء الصبايا الأطفال، قال: إذ لم نجدهن يلزمهن اسم نساء. ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله «ويستحيون» يسترقّون، وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا عجمية، وذلك أن الاستحياء إنما هو استفعالٌ من الحياة نظير الاستبقاء من البقاء والاستسقاء من السقي، وهو معنى من الاسترقاق بمعزل.
وقد قال آخرون: قوله "يُذَبّحونَ أبْناءَكُمْ" بمعنى يذبحون رجالكم آباء أبنائكم. وأنكروا أن يكون المذبوحون الأطفال، وقد قرن بهم النساء. فقالوا: في إخبار الله جل ثناؤه إن المستحين هم النساء الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان، لأن المذبحين لو كانوا هم الأطفال لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا. قالوا: وفي إخبار الله عزّ وجل أنهم النساء ما يبين أن المذبحين هم الرجال. وقد أغفل قائلو هذه المقالة مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين موضع الصواب، وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أمّ موسى أنه أمرها أن ترضع موسى، فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت ثم تلقيه في اليم. فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما يقتلون الرجال ويتركون النساء لم يكن بأمّ موسى حاجة إلى إلقاء موسى في اليمّ، أو لو أن موسى كان رجلاً لم تجعله أمه في التابوت ولكن ذلك عندنا على ما تأوّله ابن عباس ومن حكينا قوله قبل من ذبح آل فرعون الصبيان وتركهم من القتل الصبايا.
وإنما قيل: "وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ" إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن، وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء، لأنهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن، فقيل: "وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ" يعني بذلك الوالدات والمولودات كما يقال: قد أقبل الرجال وإن كان فيهم صبيان، فكذلك قوله: "وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ". وأما من الذكور فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودين قيل: يذبحون أبناءكم، ولم يقل يذبحون رجالكم.
"وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ منْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ": وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم على ما وصفت بلاء لكم من ربكم عظيم. ويعني بقوله بلاء: نعمة. وأصل البلاء في كلام العرب: الاختبار والامتحان، ثم يستعمل في الخير والشرّ، لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشرّ، كما قال الله جل ثناؤه: "وَبَلَوْناهُمْ بالحَسَناتِ وَالسّيّئات لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ" يقول: اختبرناهم، وكما قال جل ذكره: "وَنَبْلُوكُمْ بالشّرّ والخَيْرِ فِتْنَةً". ثم تسمي العرب الخير بلاء والشرّ بلاء، غير أن الأكثر في الشرّ أن يقال: بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير: أبليته أبليه إبلاءً وبلاءً.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَسُومُونَكُمْ}: وأصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى يبغونكم {سُوءَ العذاب} ويريدونكم عليه. والسوء: مصدر السيئ: يقال: أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل، يراد قبحهما. ومعنى {سُوءَ العذاب} والعذاب كله سيئ: أشدّه وأفظعه، كأنه قبحه بالإضافة إلى سائره. و {يُذَبّحُونَ}: بيان لقوله: {يَسُومُونَكُمْ}... وإنما فعلوا بهم ذلك لأنّ الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يكون على يده هلاكه، كما أنذر نمروذ. فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ، وكان ما شاء الله. والبلاء المحنة إن أشير ب (ذلكم) إلى صنيع فرعون. والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون} أي خلصناكم... و {يسومونكم} معناه: يأخذونكم به ويلزمونكم إياه...
قال السدي: «كان يصرفهم في الأعمال القذرة ويذبح الأبناء، ويستحيي النساء».
وقال غيره: صرفهم على الأعمال: الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك، وكان قومه جنداً ملوكاً.
البحث الأول... ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه،
أحدها: أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال، وذلك يقتضي انقطاع النسل، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك، وذلك يقضي آخر الآمر إلى هلاك الرجال والنساء،
وثانيها: أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة، فإن المرأة لتتمنى وقد انقطع عنها تعهد الرجال وقيامهم بأمرها الموت، لما قد يقع إليها من نكد العيش بالانفراد فصارت هذه الخصلة عظيمة في المحن، والنجاة منها في العظم تكون بحسبها،
وثالثها: أن قتل الولد عقيب الحمل الطويل وتحمل الكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب، لأن قتله والحالة هذه أشد من قتل من بقي المدة الطويلة مستمتعا به مسرورا بأحواله، فنعمة الله من التخليص لهم من ذلك بحسب شدة المحنة فيه،
ورابعها: أن الأبناء أحب إلى الوالدين من البنات، ولذلك فإن أكثر الناس يستثقلون البنات ويكرهونهن وإن كثر ذكرانهم، ولذلك قال تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به} الآية، ولذلك نهى العرب عن الوأد بقوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} وإنما كانوا يئدون الإناث دون الذكور،
وخامسها: بقاء النسوان بدون الذكر أن يوجب صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان...
البحث الثاني: ذكر في هذه السورة {يذبحون} بلا واو وفي سورة إبراهيم ذكره مع الواو، والوجه فيه أنه إذا جعل قوله: {يسومونكم سوء العذاب} مفسرا بقوله:
{يذبحون أبناءكم} لم يحتج إلى الواو، وأما إذا جعل قوله: {يسومونكم سوء العذاب} مفسرا بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح وجعل الذبح شيئا آخر سوى سوء العذاب، احتيج فيه إلى الواو، وفي الموضعين يحتمل الوجهين، إلا أن الفائدة التي يجوز أن تكون هي المقصودة من ذكر حرف العطف في سورة إبراهيم أن يقال: إنه تعالى قال قبل تلك الآية: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله} والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا بتعديد نعم الله تعالى، فوجب أن يكون المراد من قوله: {يسومونكم سوء العذاب} نوعا من العذاب، والمراد من قوله: {ويذبحون أبناءكم} نوعا آخر ليكون التخلص منهما نوعين من النعمة. فلهذا وجب ذكر العطف هناك، وأما في هذه الآية لم يرد الأمر إلا بتذكير جنس النعمة وهي قوله: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} فسواء [أكان] المراد من سوء العذاب هو الذبح [أم] غيره كان تذكير جنس النعمة حاصلا فظهر الفرق...
البحث الخامس: اعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة من وجوه،
أحدها: أن هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة، صار تخليص الله إياهم من هذه المحن من أعظم النعم وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم ولا شك في أن ذلك من أعظم النعم وتعظيم النعمة يوجب الانقياد والطاعة، ويقتضي نهاية قبح المخالفة والمعاندة، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه النعمة العظيمة مبالغة في إلزام الحجة عليهم وقطعا لعذرهم.
وثانيها: أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل وكان خصمهم في نهاية العز إلا أنهم كانوا محقين وكان خصمهم مبطلا لا جرم زال ذل المحقين وبطل عز المبطلين، فكأنه تعالى قال: لا تغتروا بفقر محمد وقلة أنصاره في الحال، فإنه محق لابد وأن ينقلب العز إلى جانبه والذل إلى جانب أعدائه،
وثالثها: أن الله تعالى نبه بذلك على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء، فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا بل عليه السعي في طلب عز الآخرة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(قال الأستاذ الإمام) في هذه الآية بعد قراءة عبارة الجلال ما مثاله: خاطب الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما كان لآبائهم. لأن الإنعام على أمة بعنوان أنها أمة كذا، هو إنعام شامل للأمة من أصابه ذلك الإنعام من أفرادها ومن لم يصبه. ويصح الامتنان به على اللاحقين منهم والسابقين كما يصح الفخر به منهم أجمعين، كما أن الإنعام على شخص بشيء يختص بعضو من أعضائه كلبوس يلبسه أو لذيذ طعامه يطعمه يكون إنعاما على الشخص، ولا يقال، إنه إنعام على لسان فلان ولا على رأسه، أو يده أو رجله؛ ولأن ما وصل إلى مجتمع بعنوان ذلك الاجتماع والرابطة التي ربطت أفراده بعضهم ببعض يكون له أثر في مجموع الأفراد، لا سيما إذا كان الواصل من نقمه أو نعمه مسببا عن عمل الأمة. شرا أو خيرا، ولا يكون لذلك أثر في الأمة يورثه السلف الخلف ما بقيت الأمة. وأنواع البلاء التي ذكر بها اليهود في القرآن كانت لشعب إسرائيل من حيث هو شعب إسرائيل لأن الجرائم التي كان البلاء عقوبة عليها إنما كانت من مجموع الشعب. من حيث هو شعب إسرائيل، ثم إن الله تعالى كان يتوب على الشعب بعد كل بلاء ويفيض عليه النعم. فتكون العقوبة تربية وتعليما تفيد المعتبرين بها نعمة وسعادة.
لا أقول إن هذا الخطاب إيماء أو إشارة للمخاطبين بأن يستحضروا تاريخ أمتهم الماضي يتذكروا صنع الله تعالى فيهم فيعتبروا بما أصابهم من نعماء وضراء. وسعادة البقاء، ويتفكروا فيما حل بهم من بعدهم، وما ينتظر أن يحل بهم، وإنما الكلام نص صريح لا يحتاج إلى التأويل. فالروابط الاجتماعية بين أفراد الأمم وجماعاتها كالروابط الحيوية بين أعضاء الشخص الواحد بلا فرق. تعثر الرجل فتخدش أو توثأ، والألم يلم بالشخص كله من حيث هو شخص حي بحياة واحدة تستوي فيها رجله وسائر أعضائه. ولذلك يسعى بجملته لإزالة ألم الرجل ويتوقى أسباب العثار بعد ذلك مستعينا بكل أعضائه وقواه.
علمنا الله تعالى هذا بما قص علينا من أخبار الأمم. وأنعم على أمتنا – التي لا تختص بشعب ولا جنس – بهذا القرآن الكريم فكان لهم به نعم لا تحصى تعرف من الكتاب والسنة. منها أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا ومنها أنهم كانوا مستضعفين فمكن لهم في الأرض وأورثهم أرض الشعوب القوية وديارهم وجعل لهم السلطان عليهم، ومنها أنهم جعلهم أمة وسطا لا تفريط عندها ولا إفراط، ليكونوا شهداء على الناس الذين غلوا وأفرطوا، والذين قصروا وفرطوا. ثم لما كفرت بأنعم الله أنزل بها ألوانا من البلاء والنقم بعنوان الأمة. فإن التتار إنما نكلوا بها و تبروا ما علوا تتبيرا لأنها الأمة الإسلامية، ثم زحف عليها الغربيون أيام حروب الصليب وجاسوا خلال الديار، لأنها الأمة الإسلامية، ثم إن الفتن لا تزال تحل بديارها، وتنقصها من أطرافها، وسوط عذاب الله يصب عليها بعنوان الأمة الإسلامية، وقد مرت عليها قرون وهي لا تعتبر بما مضى، ولا تتربى بما حضر، بل جهلت الماضي فحارت في الماضي، لا تعرف سببه ولا مخرج منه.
أليس من العجيب أن الجمهور الأعظم من المشتغلين بالعلم منها هم أجهلها بتاريخها؛ لا يعرفون شيئا من ماضيها ولا حاضرها؟ ولكنهم يعترفون بأن الأمة في بلاء كبير، ويعتذرون بالقضاء والقدر عن معرفة الأسباب، ويكلون إلى القضاء والقدر النجاة منه أو البقاء فيه.
إن هذه الأمة أمة واحدة وإن اختلفت ديارها وتعددت أجناسها، ولا يمكن أن تعرف حقيتها إلا بعد معرفة تاريخها الماضي، فلا بد من تتبع السواقي والجداول إلى الينبوع الأول الذي هو الأصل.
كان سلفنا رضي الله تعالى عنهم يضبطون أحوال من قبلهم من أمور الدين والدنيا بكل اعتناء ودقة، حتى كانوا يروون البيت من الشعر أو النكتة بين العاشق ومعشوقته بالأسانيد المتصلة، وليست هذه المبالغة مما يؤخذ عليهم فإن الأمة إنما تكون أمة بدينها ولغتها وأخلاقها وعاداتها، فإذا لم يحفظ خلفها عن سلفها هذه المقومات بحفظ تاريخها تكون عرضة للتغير بتأثير حوادث الزمان وتقلبات شئون الاجتماع مع جهل المتأخر بما كان عليه المتقدم وبكيفية حدوث التغيير الضار للجهل بالتاريخ. بهذا تفعل فواعل الكون بالأمة الجاهلة أفاعيلها حتى تقلب كيانها، وتقوض بنيانها، وتقطع عرى الربط العامة بين أفرادها، فلا يكون لهم عمل إلا للمصلحة الشخصية، وهي لا حفاظ لها في مجموع الأمة إلا بالمصلحة العامة، فإذا أهملت تكون الأمة من الهالكين.
عنيت أمتنا بالتاريخ عناية لم تسبقها به أمة فلم تكتف بضبط الوقائع وتلقيها بالرواية كالسنة النبوية؛ بل تفننت فيها فصنفت في تاريخ الأشخاص كما صنفت في تاريخ البلاد والشعوب، ثم نوعت تاريخ الأشخاص فجعلت لكل طبقة تاريخا فترى في المكاتب طبقات المفسرين وطبقات المحدثين وطبقات النحويين وطبقات الأطباء وطبقات الشعراء إلى غير ذلك. ثم اهتدى بعضهم إلى استنباط قواعد العمران وأصول الاجتماع من التاريخ فصنف ابن خلدون في ذلك مقدمة تاريخه. ولو لم تنقطع بنا سلسلة العلم من ذلك العهد لكنا أتممنا ما بدأ به سلفنا ولكننا تركناه وسبقنا غيرنا إلى إتمامه واستثماره. فالتاريخ هو المرشد الأكبر للأمم العزيزة اليوم إلى ما هي فيه من سعة العمران. وعزة السلطان؛ وكان القرآن هو المرشد الأول للمسلمين إلى العناية بالتاريخ ومعرفة سنن الله في الأمم منه، وكان الاعتقاد بوجوب حفظ السنة وسيرة السلف هو المرشد الثاني إلى ذلك. فلما صار الدين يؤخذ من غير الكتاب والسنة أهمل التاريخ بل صار ممقوتا عند أكثر المشتغلين بعلم الدين، فإن وجد من يلتفت إليه فإنما يكون متبعا في ذلك سنة قوم آخرين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه يعيد على خيالهم ويستحيي في مشاعرهم صورة الكرب الذي كانوا فيه -باعتبار أنهم أبناء هذا الأصل البعيد- ويرسم أمامهم مشهد النجاة كما رسم أمامهم مشاهد العذاب.
يقول لهم: واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون حالة ما كانوا يديمون عذابكم، [من سام الماشية أي جعلها سائمة ترعى دائما] وكأن العذاب كان هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم إياه!! ثم يذكر لونا من هذا العذاب. هو تذبيح الذكور واستيحاء الإناث. كي يضعف ساعد بني إسرائيل وتثقل تبعاتهم!
وقبل أن يعرض مشهد النجاة يعقب بأن ذلك التعذيب كان فيه بلاء من ربهم عظيم. ليلقي في حسهم -وحس كل من يصادف شدة- أن إصابة العباد بالشدة هي امتحان وبلاء، واختبار وفتنة. وأن الذي يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدة، ويعتبر بالبلاء، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ. والألم لا يذهب ضياعا إذا أدرك صاحبه أنه يمر بفترة امتحان لها ما بعدها إن أحسن الانتفاع بها. والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا التصور وحين تدخر ما في التجربة المؤلمة من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند الله، وبالتضرع لله وبانتظار الفرج من عنده وعدم اليأس من رحمته.. ومن ثم هذا التعقيب الموحى: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآية إشارة إلى نعمة كبيرة أخرى، منَّ بها الله سبحانه على بني إسرائيل، وهي نعمة تحريرهم من براثن الظالمين: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يَذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ). القرآن يعبّر عن العذاب الذي أنزله فرعون ببني إسرائيل بفعل (يَسُومُونَكُمْ) من «سام» التي تعني في الأصل الذهاب في ابتغاء الشيء، واستعمال هذا الفعل بصيغة المضارع يشير إلى استمرار العذاب، وإلى أن بني إسرائيل كانوا دوماً تحت التعذيب من قبل الفراعنة.
والقرآن عبّر بكلمة «البلاء» عمّا كان ينزل ببني إسرائيل من عذاب يتمثل في قتل الذكور واستخدام الإِناث لخدمة آل فرعون، واستثمار طاقات بني إسرائيل لخدمة الأقباط وإشباع رغبات ونزوات المستكبرين.
والبلاء يعني الامتحان، فالحوادث والمصائب التي نزلت ببني إسرائيل كانت بمثابة الامتحان لهم. كما قد يأتي البلاء بمعنى العقاب، لأن بني إسرائيل سبق لهم أن كفروا بنعمة ربّهم، فكان ما أصابهم من آل عمران عقاباً على كفرانهم.
... وفي عالمنا المعاصر يمارس طواغيت الأرض عملية الإِماتة أيضاً بأساليب أخرى، وذلك عن طريق قتل روح الرجولة في الذكور، ودفع الإِناث إلى مستنقع إشباع الشهوات.