معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَالَ لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَامٞ تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ إِنِّي تَرَكۡتُ مِلَّةَ قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ} (37)

قوله تعالى : { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه } ، قيل : أراد به في النوم ، يقول لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما ، { إلا نبأتكما بتأويله } ، في اليقظة . وقيل : أراد به في اليقظة ، يقول : لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه ، تطعمانه وتأكلانه ، إلا نبأتكما بتأويله بقدره ، وأوانه والوقت الذي يصل فيه إليكما . { قبل أن يأتيكما } ، قبل أن يصل إليكما ، وأي طعام أكلتم ؟ وكم أكلتم ؟ ومتى أكلتم ؟ فهذا مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال : { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [ آل عمران – 49 ] فقالا : هذا فعل العرافين والكهنة ، فمن أين لك هذا العلم ؟ فقال : ما أنا بكاهن وإنما { ذلكما } ، العلم ، { مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } ، وتكرار { هم } على التأكيد .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالَ لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَامٞ تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ إِنِّي تَرَكۡتُ مِلَّةَ قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ} (37)

35

وينتهز يوسف هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة ؛ فكونه سجينا لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والأوضاع الفاسدة ، القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام الأرضيين ، وجعلهم بالخضوع لهم أربابا يزاولون خصائص الربوبية ، ويصبحون فراعين !

ويبدأ يوسف مع صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما ، فيطمئنهما ابتداء إلى أنه سيؤول لهم الرؤى ، لأن ربه علمه علما لدنيا خاصا ، جزاء على تجرده لعبادته وحده ، وتخلصه من عبادة الشركاء . هو وآباؤه من قبله . . وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما ، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه :

( قال : لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ، ذلكما مما علمني ربي ، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ، وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء . ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) . .

ويبدو في طريقة تناول يوسف للحديث لطف مدخله إلى النفوس ، وكياسته وتنقله في الحديث في رفق لطيف . . وهي سمة هذه الشخصية البارزة في القصة بطولها . .

( قال : لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ، ذلكما مما علمني ربي ) . .

بهذا التوكيد الموحي بالثقة بأن الرجل على علم لدني ، يرى به مقبل الرزق وينبيء بما يرى . وهذا - فوق دلالته على هبة الله لعبده الصالح يوسف - وهي كذلك بطبيعة الفترة وشيوع النبوءات فيها والرؤى - وقوله : ( ذلكما مما علمني ربي )تجيء في اللحظة المناسبة من الناحية النفسية ليدخل بها إلى قلبيهما بدعوته إلى ربه ؛ وليعلل بها هذا العلم اللدني الذي سيؤول لهما رؤياهما عن طريقه .

( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ، وهم بالآخرة هم كافرون ) . .

مشيرا بهذا إلى القوم الذين ربي فيهم ، وهم بيت العزيز وحاشية الملك والملأ من القوم والشعب الذي يتبعهم . والفتيان على دين القوم ، ولكنه لا يواجههما بشخصيتهما ، إنما يواجه القوم عامة كي لا يحرجهما ولا ينفرهما - وهي كياسة وحكمة ولطافة حس وحسن مدخل .

وذكر الآخرة هنا في قول يوسف يقرر - كما قلنا من قبل - أن الإيمان بالآخرة كان عنصرا من عناصر العقيدة على لسان الرسل جميعا ؛ منذ فجر البشرية الأول ؛ ولم يكن الأمر كما يزعم علماء الأديان المقارنة أن تصور الآخرة جاء إلى العقيدة - بجملتها - متأخرا . . لقد جاء إلى العقائد الوثنية الجاهلية متأخرا فعلا ، ولكنه كان دائما عنصرا أصيلا في الرسالات السماوية الصحيحة . .