فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالَ لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَامٞ تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ إِنِّي تَرَكۡتُ مِلَّةَ قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ} (37)

وجملة { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، ومعنى ذلك أنه يعلم شيئاً من الغيب ، وأنه لا يأتيهما إلى السجن طعام إلاّ أخبرهما بماهيته قبل أن يأتيهما ، وهذا ليس من جواب سؤالهما تعبير ما قصاه عليه ، بل جعله عليه السلام مقدّمة قبل تعبيره لرؤياهما بياناً لعلوّ مرتبته في العلم ، وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون الرؤيا عن ظنّ وتخمين ، فهو كقول عيسى عليه السلام { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ } [ آل عمران : 49 ] وإنما قال يوسف عليه السلام لهما بهذا ليحصل الانقياد منهما له فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج من الكفر ؛ ومعنى { ترزقانه } يجري عليهما من جهة الملك أو غيره ، والجملة صفة لطعام ، أو يرزقكما الله سبحانه ، والاستثناء بقوله : { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } مفرّغ من أعمّ الأحوال : أي : لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما أي : بينت لكما ماهيته وكيفيته قبل أن يأتيكما ، وسماه تأويلاً بطريق المشاكلة ؛ لأن الكلام في تأويل الرؤيا ، أو المعنى : إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبركما به للواقع ، والإشارة بقوله : { ذلكما } إلى التأويل ، والخطاب للسائلين له عن تعبير رؤياهما { مِمَّا عَلَّمَنِي رَبّى } بما أوحاه إليّ وألهمني إياه : لا من قبيل الكهانة والتنجيم ونحو ذلك مما يكثر فيه الخطأ ، ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم الجمة هو بسبب ترك الملة التي لا يؤمن أهلها بالله ولا بالآخرة واتباعه لملة الأنبياء من آبائه فقال : { إِنّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله } وهو كلام مستأنف يتضمن التعليل لما قبله ، والمراد بالترك : هو عدم التلبس بذلك من الأصل ، لا أنه قد كان تلبس به ، ثم تركه كما يدلّ عليه قوله : { مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله } ثم وصف هؤلاء القوم بما يدلّ على تصلبهم في الكفر وتهالكهم عليه . فقال : { وَهُمْ بالآخرة هُمْ كافرون } أي : هم مختصون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله .

/خ40