محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قَالَ لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَامٞ تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ إِنِّي تَرَكۡتُ مِلَّةَ قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ} (37)

ثم أشار ، عليه السلام ، لهما بأن ما رأياه سهل التأويل ، لوجود مثاله في المنام ، وبأن له علما فوقه ، وهو أنه يبين لهما كل جليل ودقيق من الأمور المستقبلة ، وإن لم يكن هناك قدمة المنام ، حتى إن الطعام الموظف الذي يأتيهما كل يوم ، يبينه لهما قبل إتيانه ، وإن ذلك ليس من باب الكهانة ، بل من الفضل الرباني لمن يصطفيه . بالنبوة وهذا معنى قوله تعالى : { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } .

{ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } أي قبل أن يصلكما . والمراد بالطعام ما يبعث إلى أهل السجن . وتأويله ذكر ما هو ، بأن يقول : يأتيكما طعام كيت وكيت ، فيجدانه كذلك . وحقيقة ( التأويل ) تفسير الألفاظ المراد منها خلاف ظاهرها ببيان المراد .

قال أبو السعود : فإطلاقه على تعيين ما سيأتي من الطعام ، إما بطريق الاستعارة ، فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعام المبهم بمنزلة التأويل ، بالنظر إلى ما رئي في المنام ، وشبيه له ، وإما بطريق المشاكلة ، حسبما وقع في عبارتهما من قولهما : { نبئنا بتأويله } . ومراده عليه السلام بذلك : بيان كل ما يهمهما من الأمور المترقبة قبل وقوعها . وإنما تخصيص الطعام بالذكر لكونه عريقا في ذلك ، بحسب الحال ، مع ما فيه من مراعاة حسن التخلص إليه مما استعبراه من الرؤييين المتعلقتين بالشراب والطعام .

{ ذلكما } أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات { مما علمني ربي } أي بالوحي والإلهام ، لا من التكهن والتنجيم . وفيه إشعار بأن له علوما جمة ، ما سمعاه شذرة من جواهرها . وقوله تعالى : { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } .

تنبيه :

لا يخفى أن قوله تعالى : { قال لا يأتيكما طعام } إلى هنا ، مقدمة لجواب سؤالهما عن تعبير رؤياهما ، مهد ، عليه السلام ، بها له ليدعوهما إلى التوحيد ، ليزداد علما بعظم شأنه ، وثقة بأمره ، توسلا بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه من هدايتهما ، لاسيما وأن أحدهما ستعاجله منيته بالصلب ، فرجا أن يختم له بخير .

قال الزمخشري : لما استعبراه ووصفاه بالإحسان ، افترض ذلك ، فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام ، وجعل ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد ، ويعرض عليهما الإيمان ، ويزينه لهما ، ويقبح إليهما الشرك بالله . وهذه طريقة ، على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة / إذا استفتاه واحد منهم ، أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة الحسنة والنصيحة أولا ، ويدعوه إلى ما هو أولى به ، وأوجب عليه مما استفتى فيه ، ثم يفتيه بعد ذلك . وفيه ، أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم ، فوصف نفسه بما هو بصدده وغرضه أن يقتبس منه ، وينتفع به في الدين لم يكن من باب التزكية . انتهى .