قوله تعالى : { اليوم أحل لكم الطيبات } ، يعني : الذبائح على اسم الله عز وجل .
قوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } . يريد ذبائح اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم حلال لكم ، فأما من دخل في دينهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلا تحل ذبيحته ، ولو ذبح يهودي ، أو نصراني ، على اسم غير الله ، كالنصراني يذبح باسم المسيح ، فاختلفوا فيه ، قال عمر : لا يحل ، وهو قول ربيعة ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل . وهو قول الشعبي ، وعطاء ، والزهري ، ومكحول ، سئل الشعبي وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح قالا : يحل ، فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم ، و هو يعلم ما يقولون . وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي ، أو النصراني فذكر اسم غير الله و أنت تسمع فلا تأكله ، فإذا غاب عنك فكل ، فقد أحل الله لك .
قوله تعالى : { وطعامكم حل لهم } . فإن قيل : كيف شرع لهم حل طعامنا وهم كفار ليسوا من أهل الشرع ؟ قال الزجاج : معناه حلال لكم أن تطعموهم ، فيكون خطاب الحل مع المسلمين ، وقيل : لأنه ذكر عقيبه حكم النساء ، ولم يذكر حل المسلمات لهم ، فكأنه قال : حلال لكم أن تطعموهم . حرام عليكم أن تزوجوهم .
قوله تعالى : { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، هذا راجع إلى الأول منقطع عن قوله : { وطعامكم حل لهم } . اختلفوا في معنى المحصنات : فذهب أكثر العلماء إلى أن المراد منهن الحرائر ، وأجازوا نكاح كل حرة ، مؤمنة كانت أو كتابية ، فاجرة كانت أو عفيفة ، وهو قول مجاهد . وقال هؤلاء : لا يجوز للمسلم نكح الأمة الكتابية ، لقوله تعالى : { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } [ النساء : 25 ] جوز نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة ، وجوز أكثرهم نكاح الأمة الكتابية الحربية ، وقال ابن عباس : لا يجوز ، وقرأ { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } إلى قوله { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] ، فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه ، ومن لم يعطها فلا يحل لنا نساؤه . وذهب قوم إلى أن المراد من المحصنات في الآية العفائف من الفريقين ، حرائر كن أو إماء ، وأجازوا نكاح الأمة الكتابية ، وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات ، وهو قول الحسن ، وقال الشعبي : إحصان الكتابية أن تستعف من الزنا وتغتسل من الجنابة .
قوله تعالى : { إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين } . غير معالنين بالزنا . قوله تعالى : { ولا متخذي أخدان } . أي : غير مسرين تسرونهم بالزنا . قال الزجاج : حرم الله الجماع على جهة السفاح ، وعلى جهة اتخاذ الصديقة ، وأحله على جهة الإحصان ، وهو التزوج .
قوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } ، قال ابن حيان : يقول ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر ، أو يغني عنهن شيئاً ، وهي للناس عامة : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } . قال ابن عباس ومجاهد في معنى قوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان } أي : بالله الذي يجب الإيمان به . وقال الكلبي : ( بالإيمان ) أي : بكلمة التوحيد ، وهي : شهادة أن لا أله إلا الله . وقال مقاتل : بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن ، وقيل : ( من يكفر بالإيمان ) أي : يستحل الحرام ، ويحرم الحلال ، فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين . قال ابن عباس : خسر الثواب .
ويستطرد في بيان ما أحل لهم من الطعام ويلحق به ما أحل لهم من النكاح :
( اليوم أحل لكم الطيبات . وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم . وطعامكم حل لهم . والمحصنات من المؤمنات . والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم . إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) . .
وهكذا يبدأ ألوان المتاع الحلال مرة أخرى بقوله :
فيؤكد المعنى الذي أشرنا إليه ؛ ويربط بينه وبين الألوان الجديدة من المتاع . فهي من الطيبات
وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية ؛ في التعامل مع غير المسلمين ، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي " في دار الإسلام " ، أو تربطهم به روابط الذمة والعهد ، من أهل الكتاب . .
إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية ؛ ثم يعتزلهم ، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين - أو منبوذين - إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية ، والمودة ، والمجاملة والخلطة . فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلا لهم كذلك . ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة ، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة . . وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم - وهن المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر - طيبات للمسلمين ، ويقرن ذكرهن بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات . وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام من بين سائر أتباع الديانات والنحل . فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية ، أو البروتستانتية ، أو المارونية المسيحية . ولا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم من العقيدة !
وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي ، لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية ؛ ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة ، التي تظلها راية المجتمع الإسلامي . فيما يختص بالعشرة والسلوك [ أما الولاء والنصرة فلها حكم آخر سيجيء في سياق السورة ] .
وشرط حل المحصنات الكتابيات ، هو شرط حل المحصنات المؤمنات :
( إذا آتيتموهن أجورهن محصنين ، غير مسافحين ، ولا متخذي أخدان ) .
ذلك أن تؤدى المهور ، بقصد النكاح الشرعي ، الذي يحصن به الرجل امرأته ويصونها ، لا أن يكون هذا المال طريقا إلى السفاح أو المخادنة . . والسفاح هو أن تكون المرأة لأي رجل ؛ والمخادنه أن تكون المرأة لخدين خاص بغير زواج . . وهذا وذلك كانا معروفين في الجاهلية العربية ، ومعترفا بهما من المجتمع الجاهلي . قبل أن يطهره الإسلام ، ويزكيه ، ويرفعه من السفح الهابط إلى القمة السامقة . .
ويعقب على هذه الأحكام تعقيبا فيه تشديد ، وفيه تهديد : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين . . إن هذه التشريعات كلها منوطة بالإيمان ؛ وتنفيذها كما هي هو الإيمان ؛ أو هو دليل الإيمان . فالذي يعدل عنها إنما يكفر بالإيمان ويستره ويغطيه ويجحده . والذي يكفر بالإيمان يبطل عمله ويصبح ردا عليه لا يقبل منه ، ولا يقر عليه . . والحبوط مأخوذ من انتفاخ الدابة وموتها إذا رعت مرعى ساما . . وهو تصوير لحقيقة العمل الباطل . فهو ينتفخ ثم ينعدم أثره كالدابة التي تتسمم وتنتفخ وتموت . . وفي الآخرة تكون الخسارة فوق حبوط العمل وبطلانه في الدنيا . .
وهذا التعقيب الشديد ، والتهديد المخيف ، يجيء على إثر حكم شرعي يختص بحلال وحرام في المطاعم والمناكح . . فيدل على ترابط جزئيات هذا المنهج ؛ وأن كل جزئية فيه هي " الدين " الذي لا هوادة في الخلاف عنه ، ولا قبول لما يصدر مخالفا له في الصغير أو في الكبير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.