وقوله : ( اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) الآية [ 6 ] .
الطيبات –هنا- الحلال من الذبائح( {[14774]} ) . وقيل : هي كل ما تلذذ به من الحلال( {[14775]} ) . ( وَطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ) أي : ذبائحهم( {[14776]} ) ، ( وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ) ( أي )( {[14777]} ) ذبائحنا جائز ( لنا )( {[14778]} ) أن نطعمهم( {[14779]} ) إياها( {[14780]} ) ، فتحليل ذلك هو لنا لا لهم( {[14781]} ) ، ومثله قوله ( وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنفَقُوا )( {[14782]} ) أي : أعطوهم ما أنفقوا ، فالأمر لنا لاَ لَهم ، لأنهم ليسوا ممن يؤمن بالقرآن فيكون الأمر لهم( {[14783]} ) .
ومذهب الشعبي( {[14784]} ) وعطاء وغيرهما أنه تؤكل ذبائحهم وإن سَمَّوا عليها غير اسم الله ، وهذا عندهم ناسخ لقوله ( وَلاَ تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )( {[14785]} ) ، ويروى ذلك عن أبي الدرداء( {[14786]} ) وعبادة بن الصامت( {[14787]} ) .
ومن العلماء من قال : هذا( {[14788]} ) استثناء وليس بناسخ لِما في الأنعام ، تؤكل ذبائح أهل الكتاب وإن ذُكِر عليها اسم المسيح( {[14789]} ) .
ومذهب عائشة رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب( {[14790]} ) وابن عمر أنه لا تؤكل ذبيحة الكتابي [ إذا ]( {[14791]} ) لم يسم عليها( {[14792]} ) .
و " كان " ( {[14793]} ) مالك يكره ذلك ولم يحرمه( {[14794]} ) . وأما( {[14795]} ) إن( {[14796]} ) ذكر عليه اسم المسيح فلا تؤكل عند مالك( {[14797]} ) . وكره مالك ذبائح أهل الكتاب لكنائسهم ولم يحرمه( {[14798]} ) . فأما ذبيحة المجوسي فلا تؤكل( {[14799]} ) .
و( {[14800]} )ذبيحة نصارى تغلب لا تؤكل( {[14801]} ) . وقال ابن عباس : تؤكل ذبائحهم ، وهم بمنزلة غيرهم ، وقال بذلك غيره من الفقهاء( {[14802]} ) .
وقال علي بن أبي طالب : لا تؤكل ذبائحهم( {[14803]} ) ، وبه قال الشافعي( {[14804]} ) : فأما الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المجوس( {[14805]} ) : " سُنّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " ( {[14806]} ) فإنه غير متصل الإسناد ، ( و )( {[14807]} ) أيضاً فإن الحديث إنما جرى على سبب الجزية لا غير ، وقوله " سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكتابِ " يدل( {[14808]} ) على أنهم ليسوا منهم( {[14809]} ) .
وقوله ( وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُومِنَاتِ ) أي : أحل لكم الحرائر من المؤمنات والحرائر من الذين أوتوا الكتاب –نصرانية أو يهودية-( {[14810]} ) ، إذا أعطيتها صداقها وهو ( أُجُورَهُنَّ )( {[14811]} ) .
وقيل : المحصنات –هنا- العفائف( {[14812]} ) من هؤلاء ومن هؤلاء ، فأجاز قائل هذا/ نكاح الإماء من أهل الكتاب وتحريم غير العفائف من الجميع ، قال ذلك مجاهد ، وقاله سفيان والسدي( {[14813]} ) .
والحربية من أهل الكتاب –وغيرها سواء-( {[14814]} ) جائز نكاحها( {[14815]} ) . ومن قال : المحصنات العفائف ، فالحربية –من الإماء والحرائر- جائز نكاحها عنده ، ومذهب مالك وغيره أن إماء أهل الكتاب لا يجوز نكاحهن( {[14816]} ) .
وروي أن ثواب الرجل مع الزوجة المؤمنة أفضلُ من ثوابه مع الزوجة الكتابية ، وروي أن الرجل( {[14817]} ) إذا قبَّل زوجته المؤمنة ، كتب( {[14818]} ) له عشرون حسنة ، وإذا جامعها كتب( {[14819]} ) له عشرون ومائة حسنة ، فإذا اغتسل منها ، لم يمرّ الماء بشعرة من جسده( {[14820]} ) إلا كتبت ( له ( عشر )( {[14821]} ) )( {[14822]} ) حسنات ومحي( {[14823]} ) عنه عشر سيئات ، وباهى الله به الملائكة فقال( {[14824]} ) : انظُروا إلى عبدي قام في ليلة [ قَرَّةٍ ]( {[14825]} ) يَغتَسِلُ من خَشْيَتي ، ورَأَى أن ذلكَ ( حقٌّ لي )( {[14826]} ) عليه ، اشهدوا يا ملائكتي أنّي قَد غَفرتُ لَه .
وروي أن المرأة لا تضع شيئاً من بيت زوجها ، تريد بذلك إصلاحه( {[14827]} ) ، ولا ترفعه إلا كتب( {[14828]} ) لها عشر حسنات ومحي( {[14829]} ) عنها( {[14830]} ) عشر سيئات ، فإذا حملت ثم طلقت( {[14831]} ) ، فلها بكل طلقة كأنما أعتقت نسمة( {[14832]} ) ( من ولد إسماعيل )( {[14833]} ) خير النسم( {[14834]} ) ، فإذا أرضعت كان لها بكل مصة عشر حسنات ومحي عنها( {[14835]} ) عشر سيئات ، فإذا أفطمته نادى منادٍ( {[14836]} ) من السماء : أَيَّتُها المرأة قد غفر لك فاستأنفي العمل( {[14837]} ) .
وروي عن ( ابن المسيب )( {[14838]} ) والحسن أنهما( {[14839]} ) كانا لا يريان بأساً بنكاح إِماء( {[14840]} ) اليهود والنصارى( {[14841]} ) .
و( قد )( {[14842]} ) قيل : عنى( {[14843]} ) بذلك نساء أهل الذمة من أهل الكتاب خاصة ، ونساء أهل الحرب حرام( {[14844]} ) ، روي ذلك عن ابن عباس( {[14845]} ) .
قوله ( مُحْصِنِينَ ) أي : أعِفّاء( {[14846]} ) ، ( غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) أي : غير مزانين( {[14847]} ) ، ( وَلاَ مُتَّخِذِي( {[14848]} ) أَخْدَانٍ ) أي : أَخِلاّءٌ على الزّنى ، والخدن : الخليل للمرأة يزانيها( {[14849]} ) .
قوله ( وَمَنْ يَّكْفُرْ بِالإِيمَانِ ) أي : بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : بالإيمان بالله عز وجل وبرسوله( {[14850]} ) محمد صلى الله عليه وسلم( {[14851]} ) .
وقيل : بالإيمان : بما نزل من الحرام والحلال والفرائض( {[14852]} ) .
ونزل ذلك في قوم تَحَرَّجوا( {[14853]} ) نكاح [ نساء ]( {[14854]} ) أهل الكتاب ، فأنزل الله ( وَمَنْ يَّكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ( {[14855]} ) )( {[14856]} ) ، أي( {[14857]} ) من يردّ من أتى به محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : الإيمان –هنا-( {[14858]} ) التوحيد( {[14859]} ) ، وهو مثل قوله ( لَئِنَ اَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )( {[14860]} ) . ومثل قوله ( وَمَن يَّبْتَغِ( {[14861]} ) غَيْرَ الاِسْلاَمِ دِيناً ) الآية( {[14862]} ) .
[14774]:- انظر: تفسير الطبري 9/572، وأحكام ابن العربي 553.
[14775]:- انظر: أحكام ابن العربي 556.
[14776]:- هو قول مجاهد وإبراهيم وابن عباس والحسن وقتادة والضحاك وابن زيد وأبي الدرداء في تفسير الطبري 9/577 وما بعدها، وقول الزجاج في معانيه 2/151.
[14780]:- انظر: تفسير الطبري 9/580.
[14781]:- انظر: معاني الزجاج 2/151.
[14783]:- قال الزجاج في معانيه 2/151: "فأما الكفار فالواجبُ فيهم القتل إلا مَنْ أدّى الجزية من أهل الكتاب".
[14784]:- د: الشافعي. وفي أحكام ابن العربي 555 كما في د.
[14786]:- هو أبو الدرداء عويمر بن زيد، حفظ القرآن عن رسول الله، عالم الشام ومقرئ وفقيه دمشق. روى عنه ابن بلال وزوجته الفقيهة وآخرون. توفي سنة 31 أو 32هـ. انظر: طبقات الفقهاء 28، والتذكرة 1/24.
[14787]:- لم يذكر مكي في ناسخه 261 و286 و287 الشعبي، وأضاف أنه قول عكرمة ومكحول. وفي أحكام ابن العربي 555 ذكر الشافعي بدل الشعبي، وزاد في نواسخ القرآن -143 وما بعدها بروايات مسندة إليهم- إنه قول ربيعة والحسن والقاسم بن مخيرمة وابن عباس والحكم.
وعبادة هو أبو الوليد عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي. روى عن رسول الله كثيراً. عنه أبو أمامة وأنس وَخَلْق. توفي بالرملة سنة 34هـ. انظر: الإصابة 2/268.
[14789]:- انظر: ناسخ مكي 261، وأحكام ابن العربي 554 وهو قول عطاء في أحكام القرطبي 6/76.
[14790]:- هو أبو الحسن علي بن أبي طالب الهاشمي، قاضي الأمة وفارس الإسلام. قتله عبد الرحمن بن ملجم في 17 رمضان سنة 40هـ. انظر: طبقات الفقهاء 22، والتذكرة 1/10.
[14792]:- انظر: ناسخ مكي 263، وأحكام ابن العربي 555، وهو الصحيح عند ابن الجوزي، وهو قول طاوس والحسن وعبادة وأبي الدرداء أيضاً في نواسخ القرآن 143 و144، "وهو قول طاوس والحسن" في أحكام القرطبي 6/76.
[14794]:- انظر: ناسخ مكي 262، وأحكام القرطبي 6/76.
[14797]:- انظر: ناسخ مكي 262. وفي المدونة 1/418: "وما سمعتُ من مالك في مسألتك –إذا سَمَّوا المسيحَ- شيئاً. قال: وأراهم إذا سمَّوا المسيح بمنزلة ذبحهم لكنائسهم، فلا أرى أن تُؤكَل".
[14798]:- انظر: المدونة 1/417 و429، وناسخ مكي 262، وبداية المجتهد 1/451. وقال في شرح خطط السداد: "فلا يجوز لنا أكله" 422.
[14799]:- "الجمهورُ على أنّه لا تجوز ذبائِحُهم، لأنهم مشركون" بداية المجتهد 1/452. وانظر: شرح خطط السداد 427.
[14801]:- هو قول علي في تفسير الطبري 9/575 وما بعدها، وانظر: ناسخ مكي 263.
[14802]:- كالحسن وعكرمة وسعيد بن المسيب والشعبي وابن شهاب وعطاء والحكم وحماد وقتادة في تفسير الطبري 9/573 وما بعدها، وابن المواز في شرح خطط السداد 427، وهو قول الجمهور في بداية المجتهد 1/450، وأحكام القرطبي 6/78.
[14803]:- هو قول علي في تفسير الطبري 9/575 وما بعدها وانظر: ناسخ مكي 263.
[14804]:- انظر: الأم 2/196. وأورد الطبري في تفسيره 9/575 روايات لقول علي السابق منها: "لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر"، ثم وجَّه نهي علي بأنه يشمل نصارى تغلب، لِتركهم تعاليم النصارى إلا في الخمر في 9/576، وذلك لِيَخْلُص –أي: الطبري- من بني إسرائيل، وصوابُ ما خالف تأويله ذلك، وقولُ من قال: إن كل يهودي ونصراني فحلال ذبيحتهُ" 9/577. هذا وقد ذكر ابن العربي في أحكامه 555 الشافعي ضمن القائلين بجواز الأكل.
[14810]:- هو قول مجاهد وعامر وطارق وأبي الزبير والحسن في تفسير الطبري 9/582 وما بعدها. وانظر: أحكام ابن العربي 395.
[14811]:- ب: أجور. وانظر: تفسير الطبري 9/185، وفيه أيضاً 9/590: "عن ابن عباس... يعني مهورهن".
[14812]:- انظر: مجاز أبي عبيدة 1/122، ومعاني الزجاج 2/151.
[14813]:- وهو قول الشعبي وقتادة وإبراهيم وجابر والحسن وأبي ميسرة كذلك في تفسير الطبري 9/585 وما بعدها.
[14814]:- أي "الحرائر اليهود والنصارى...حربياتٍ كنَّ أو ذمِّيَّاتٍ" تفسير الطبري 9/587.
[14815]:- "وهذا قول جماعة من المتقدمين والمتأخرين... سعيد بن المسيب والحسن" تفسير الطبري 9/587.
[14816]:- انظر: الموطأ 446، والمدونة 2/216، والأم 4/183 و184، ومعاني الزجاج 2/151، والكافي 1/445، وأحكام ابن العربي 556.
[14817]:- في هامش "د" تعليق نصه: "انظر: هنا أجر الرجل مع زوجته".
[14825]:- غير منقوطة القاف في أ، ب، ج: مرة. د: مره. وفي اللسان: قرر: "ولَيْلَةٌ قَرَّةٌ وِقارَّةٌ: أي: باردة، وقد قَرَّتْ تَقَرّ وتَقِرّ قَرّاً، وليلةٌ ذات قِرَّة: أي: ليلة ذات بَرْد، وأصابنا قَرَّة وقِرّة، وطعام قارّ".
[14831]:- "ويقال لها إذا دنا ولادُها: قد مُحِضَت ومَحِضَت، وطُلِقَت وطَلِقَت طَلْقاً، وهي مَطْلوقَة": كتاب الفرق 61.
[14837]:- انظر: معاني هذا الكلام في الموضوعات 2/269 وما بعدها واللآلئ 2/169 و170 و175. وذكر صاحب اللآلئ أن الطبراني أخرجه في الأوسط وأخرج بعضه ابن سفيان في مسنده. وانظر: كذلك الفوائد 127 و132. وفي الفردوس 1/208: ابن عمر: أن للمرأة في حَمْلها إلى وَضْعِها، إلى فِصالها، من الأجر كالمُتَسخّط في سبيل الله، فإن هَلَكَتْ، ماتت بعد ذلك، فلها أجر شهيد"، وفيه أيضاً 4/236: "عبد الرحمن بن عوف: المرأة إذا حملت كان لها حالُ أجرِ الصّائم القائم المُخبِت المجاهد في سبيل الله. وإذا أضرّ بها الطَّلقُ، فلا يدري الخلالقُ مَالَها من الأجرِ، فإذا وضعت كان لها بكلّ مصّة أو رضعةٍ أجرُ نَفْسٍ تُحييها، فإذا فطمت ضرب الملك على منكبها، وقال: استأنِفي العمل". وفي المطالب العالية 2/84 "كالمتشحط" بدل "كالمتشخط" المذكورة عند صاحب الفردوس قبل قليل.
[14838]:- د. لرلمسيب. وهو أبو محمد سعيد بن المسيب المخزومي. من فقهاء التابعين بالمدينة. سمع عن عمر وعثمان وعائشة وغيرهم. توفي سنة 94هـ. انظر: طبقات الفقهاء 39، والتذكرة 1/54.
[14840]:- ب: إيماء. وفي تفسير الطبري 9/587: نساء.
[14841]:- "وقالا: أحلّه الله على عِلم" تفسير الطبري 9/587.
[14845]:- "قال الحكم: فذكرتُ ذلك لإبراهيم فَاعجَبَه" تفسير الطبري 9/588.
[14846]:- انظر: تفسير الطبري 9/590.
[14847]:- د: مزنين. وانظر: مجاز أبي عبيدة 1/154.
[14849]:- انظر: تفسير الطبري 9/590، والعمدة 120.
[14851]:- هو قول عطاء ومجاهد في تفسير الطبري 9/592.
[14852]:- هو أحد وجهي تفسير الإيمان في التفسير الكبير 11/148، وقول أبي سليمان الدمشقي والزمخشري في تفسير البحر 3/433.
[14853]:- ب: تخرجوا وتحرجوا. ج، د: تخرجوا.
[14856]:- هو قول قتادة في تفسير الطبري 9/592 و593.
[14859]:- هو قول عطاء ومجاهد وابن عباس في تفسير الطبري 9/592 و593.
[14862]:- آل عمران: 84. وقد جمع الطبري في تفسيره 9/591 و592 كل هذه المعاني إذ قال: "ما أمر الله بالتصديق به: من توحيد الله، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله".