قوله تعالى : { اليوم أحل لكم الطيبات } .
اعلم أنه تعالى أخبر في هذه الآية المتقدمة أنه أحل الطيبات ، وكان المقصود من ذكره الأخبار عن هذا الحكم ، ثم أعاد ذكره في هذه الآية ، والغرض من ذكره أنه قال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } فبين أنه كما أكمل الدين وأتم النعمة في كل ما يتعلق بالدين ، فكذلك أتم النعمة في كل ما يتعلق بالدنيا ، ومنها إحلال الطيبات ، والغرض من الإعادة رعاية هذه النكتة .
ثم قال تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } وفي المراد بالطعام هاهنا وجوه ثلاثة : الأول : أنه الذبائح ، يعني أنه يحل لنا أكل ذبائح أهل الكتاب ، وأما المجوس فقد سن فيهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاس نسائهم ، وعن علي رضي الله عنه أنه استثنى نصارى بني تغلب ، وقال : ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر ، وبه أخذ الشافعي رحمه الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس به ، وبه أخذوا أبو حنيفة رحمه الله .
والوجه الثاني : أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة ، وهو منقول عن بعض أئمة الزيدية ، والثالث : أن المراد جميع المطعومات ، والأكثرون على القول الأول ورجحوا ذلك من وجوه : أحدها : أن الذبائح هي التي تصير طعاما بفعل الذابح ، فحمل قوله { وطعام الذين أوتوا الكتاب } على الذبائح أولى ، وثانيها : أن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم ، فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ، وثالثها : ما قبل هذه الآية في بيان الصيد والذبائح ، فحمل هذه الآية على الذبائح أولى .
ثم قال تعالى : { وطعامكم حل لهم } أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا ، وأيضا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين ، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين ، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين .
ثم قال تعالى : { والمحصنات من المؤمنات } وفي المحصنات قولان : أحدهما : أنها الحرائر ، والثاني : أنها العفائف ، وعلى التقدير الثاني يدخل فيه نكاح الأمة ، والقول الأول أولى لوجوه : أحدها : أنه تعالى قال بعد هذه الآية { إذا آتيتموهن أجورهن } ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيدها ، وثانيها : أنا بينا في تفسير قوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } أن نكاح الأمة إنما يحل بشرطين : عدم طول الحرة ، وحصول الخوف من العنت ، وثالثها : أن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهرا على تحريم نكاح الزانية ، وقد ثبت أنه غير محرم ، أما لو حملنا المحصنات على الحرائر يلزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات ، ورابعها : أنا بينا أن اشتقاق الإحصان من التحصن ، ووصف التحصن في حق الحرة أكثر ثبوتا منه في حق الأمة لما بينا أن الأمة وإن كانت عفيفة إلا أنها لا تخلو من الخروج والبروز والمخالطة مع الناس بخلاف الحرة ، فثبت أن تفسير المحصنات بالحرائر أولى من تفسيرها بغيرها .
ثم قال تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من اليهود والنصارى وتمسكوا فيه بهذه الآية ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ويقول : لا اعلم شركا أعظم من قولها : إن ربها عيسى ، ومن قال بهذا القول أجابوا عن التمسك بقوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } بوجوه : الأول : أن المراد الذين آمنوا منهم ، فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج بها أم لا ؟ فبين تعالى بهذه الآية جواز ذلك ، والثاني : روي عن عطاء أنه قال : إنما رخص الله تعالى في التزوج بالكتابية في ذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة ، وأما الآن ففيهن الكثرة العظيمة ، فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة ، والثالث : الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار ، كقوله { لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء } وقوله { لا تتخذوا بطانة من دونكم } ولأن عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة ويصير ذلك سببا لميل الزوج إلى دينها ، وعند حدوث الولد فربما مال الولد إلى دينها ، وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة . الرابع : قوله تعالى في خاتمة هذه الآية { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } وهذا من أعظم المنفرات عن التزوج بالكافرة ، فلو كان المراد بقوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر هذه الآية عقيبها كالتناقض وهو غير جائز .
المسألة الثانية : إن قلنا : المراد بالمحصنات : الحرائر ، لم تدخل الأمة الكتابية تحت الآية ، وإن قلنا : المراد بالمحصنات : العفائف دخلت ، وعلى هذا البحث وقع الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة فعند الشافعي لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية . قال : لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان : الكفر والرق ، وعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز ، وتمسك بهذه الآية بناء على أن المراد بالمحصنات العفائف وقد سبق الكلام فيه .
المسألة الثالثة : قال سعيد بن المسيب والحسن { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } يدخل فيه الذميات والحربيات ، فيجوز التزوج بكلهن ، وأكثر الفقهاء على أن ذلك مخصوص بالذمية فقط ، وهذا قول ابن عباس ، فإنه قال : من نساء أهل الكتاب من يحل لنا ، ومنهن من لا يحل لنا ، وقرأ { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } إلى قوله { حتى يعطوا الجزية عن يد } فمن أعطى الجزية حل ، ومن لم يعط لم يحل .
المسألة الرابعة : اتفقوا على أن المجوس قد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم ، وروي عن ابن المسيب أنه قال : إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس ، وقال أبو ثور : وإن أمرة بذلك في الصحة فلا بأس .
المسألة الخامسة : قال الكثير من الفقهاء : إنما يحل نكاح الكتابية التي دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول القرآن ، قالوا : والدليل عليه قوله { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فقوله { من قبلكم } يدل على أن من دان بالكتاب بعد نزول الفرقان خرج عن حكم الكتاب .
ثم قال تعالى : { إذا أتيتموهن أجورهن } وتقييد التحليل بإيتاء الأجور يدل على تأكد وجوبها وأن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني ، وتسمية المهر بالأجر يدل على أن الصداق لا يتقدر ، كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات .
ثم قال تعالى : { محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان } قال الشعبي : الزنا ضربان : السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان ، واتخاذ الخدن وهو الزنا في السر ، والله تعالى حرمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الإحصان وهو التزوج .
ثم قال تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان : الأول : أن المقصود منه الترغيب فيما تقدم من التكاليف والأحكام ، يعني ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة ، والثاني : قال القفال : المعنى أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلا أن ذلك لا يفرق بينهم وبين المشركين في أحوال الآخرة وفي الثواب والعقاب ، بل كل من كفر بالله فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة البتة .
المسألة الثانية : قوله { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } فيه إشكال ، وهو أن الكفر إنما يعقل بالله ورسوله ، فأما الكفر بالإيمان فهو محال ، فلهذا السبب اختلف المفسرون على وجوه : الأول : قال ابن عباس ومجاهد { ومن يكفر بالإيمان } أي ومن يكفر بالله ، إنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى رب الإيمان ، ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز ، والثاني : قال الكلبي { ومن يكفر بالإيمان } أي بشهادة أن لا إله إلا الله ، فجعل كلمة التوحيد إيمانا ، فإن الإيمان بها لما كان واجبا كان الإيمان من لوازمها بحسب أمر الشرع ، وإطلاق اسم الشيء على لازمه مجاز مشهور ، والثالث : قال قتادة : إن ناسا من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا ! فأنزل الله تعالى هذه الآية أي ، ومن يكفر بما نزل في القرآن فهو كذا وكذا ، فسمى القرآن إيمانا لأنه هو المشتمل على بيان كل ما لابد منه في الإيمان .
المسألة الثالثة : القائلون بالإحباط قالوا : المراد بقوله { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } أي عقاب كفره يزيل ما كان حاصلا له من ثواب إيمانه ، والذين ينكرون القول بالإحباط قالوا : معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هلك وضاع ؛ فإنه إنما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان ، فإذا لم يكن الأمر كذلك بل كان ضائعا باطلا كانت تلك الأعمال باطلة في أنفسها ، فهذا هو المراد من قوله { فقد حبط عمله } .
المسألة الرابعة : قوله تعالى : { وهو في الآخرة من الخاسرين } مشروط بشرط غير مذكور في الآية ، وهو أن يموت على ذلك الكفر ؛ إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين ، والدليل على أنه لابد من هذا الشرط قوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر } الآية .