التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (5)

{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 5 ) } ( 5 ) .

تعليق على الآية

{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ . . . . . . . . . . . . . . . } الخ

وما فيها من أحكام وتلقين وصور وتمحيص دلالة أهل الكتاب فيها

في الآية تقرير تشريعي وجه الخطاب فيه إلى المسلمين واحتوى :

( 1 ) توكيد لحل الطيبات وإباحتها لهم بصورة عامة .

( 2 ) وحل طعام الكتابيين وإباحته لهم وحل طعامهم للكتابيين وإباحته لهم .

( 3 ) وحل التزوج بالمحصنات من المؤمنين والكتابيين وإباحته لهم ضمن نطاقه الشرعي من عقد ومهر ورغبة صادقة في الإحصان وليس بقصد السفاح والتخادن وقضاء الشهوة فقط .

( 4 ) وإنذار لهم بوجوب الوقوف عند حدود الله وعدم تجاوزها . وبيانا لما في تجاوزهما من كفر بما آمنوا به ؛ ولما يؤدي هذا إليه من حبوط عمل وخسران في الآخرة .

ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة نزول الآية . غير أن الطبري روى عن قتادة أن الله لما أحل طعام أهل الكتاب ونساءهم في الآية قال أناس من المسلمين : كيف نتزوج نساءهم وهم على غير ديننا ؟ فأنزل الله عز وجل { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 5 ) } .

وهذا يقتضي أن تكون الآية نزلت على دفعتين ، مع أن الجملة منسجمة مع شطر الآية الأول ومعطوفة عليه .

ولقد أورد الطبري أقوالا عديدة معزوة إلى علماء التابعين تفيد أنهم فهموا من جملة : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } أنها في صدد ذبائح أهل الكتاب أو أولوها بذلك . وجاراه في ذلك معظم المفسرين بعده ( 1 ){[753]}حيث يتبادر على ضوء ذلك أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا . وأن مضمونها يلهم أنها وما قبلها سلسلة متلاحقة ، وأن إباحة التزوج بالمحصنات من المؤمنات والكتابيات قد جاء على سبيل الاستطراد . فإن لم تكن الآية نزلت مع سابقاتها فتكون قد نزلت عقبها فوضعت بعدها ، أو وضعت بعدها للمناسبة الموضوعية .

ومع ذلك فمن المحتمل جدا أن يكو ن أورد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم استفتاء في أمر ذبائح أهل الكتاب ونسائهم أو وقعت وقائع متصلة بذلك ، فاقتضت الحكمة تنزيل الآية ، ولعل ما ذكر في الآيات السابقة من الحالات التي يحرم فيها أكل الأنعام مما أثار ذلك ، وقد يخطر بالبال أيضا أن يكون ذلك في مناسبة وقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية بمدة قصيرة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الفتح استئناسا من كون الآيات قد نزلت بعد ذلك الصلح بمدة قصيرة على ما ذكرناه قبل . ولقد روي أن امرأة يهودية أهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاة مطبوخة ، وأنه تزوج صفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود التي كانت بين السبايا ( 1 ){[754]} . فلعل بعض المسلمين تساءل عن الأمر فنزلت الآية تؤيد ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو ما تكرر وقوعه ومرت أمثلة عديدة منه . وجملة { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 5 ) } قد تكون تضمنت إيذانا بأن ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان بإلهام الله تعالى لحكمة سامية . وإنذارا للمسلمين بأن عليهم أن يؤمنوا بكل ما يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن من يتردد أو يرتاب في ذلك يحبط عمله ويكون من الخاسرين في الآخرة . والله أعلم .

ويلفت النظر إلى كلمة { اليوم } التي استهلت بها الآية ثم إلى جملة { أحل لكم الطيبات } بعدها ، والتي احتوت مثلها الآية السابقة للآية . فهذا وذاك من القرائن التي نراها قوية على صلة الآية بما سبقها نظما وسياقا وموضوعا وعلى قوة احتمال نزولها معها أو عقبها ، وعلى ضعف احتمال انصراف كلمة { اليوم } في الآية الثالثة إلى يوم عرفة في حجة الوداع كيوم لنزولها .

والحكمة في هذا التشريع بليغة بعيدة المدى . فالقرآن ما فتئ يقرر وحدة المنبع والهدف التي تجمع بين المسلمين وأهل الكتاب ، وتجعلهم بمثابة جبهة واحدة ، ويوجب على المسلمين احترام كتبهم وأنبيائهم . فجاء هذا التشريع المستمد من تلك الوحدة التي ينطوي فيها تقرير كون الكتابيين مؤمنين بالله على كل حال صراحة أو تأويلا ولا يشبهون المشركين والوثنيين في طعامهم وذبائحهم ومناكحهم ، وهذا ما علل به المفسرون حكمة التشريع خطوة جديدة قوية في سبيل إزالة الجفوة وتوطيد التآنس ، والتواثق والتعامل والتقارب عمليا بينهم ، ووسيلة لإظهار محاسن الإسلام ورحابة صدره .

وسياق الآية يلهم بقوة أنها نزلت بعد وقعة الحديبية . أو لعلها نزلت بعد وقعة خيبر التي كانت عقب تلك الوقعة . وبعبارة ثانية بعد خضد شوكة اليهود في المدينة والقرى ، وهذا يجعل من المتبادر بالإضافة إلى تلك الحكمة أن المسلمين صاروا في موقف الآمن المطمئن وبخاصة من ناحية اليهود الذين هم الكتلة الكتابية الكبرى في بيئتهم ، وأنه لم يبق ما يوجب التقاطع بينهم وبين المسلمين ، فكان ذلك من أسباب وحكمة التنزيل . وقد اختصصنا اليهود بالذكر ؛ لأنه لم يكن في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتلة كبيرة من النصارى تستطيع أن تلعب دورا مؤذيا ومناوئا كالدور الذي لعبه اليهود أولا ؛ ولأن النصارى الذين كانوا في هذه البيئة كانوا على قدر كبير من الدماثة وحسن النية والبعد عن المناوأة والعداء ، وقد اندمج معظمهم في الإسلام ثانيا ؛ ولأن النصارى عامة كانوا إجمالا أكثر دماثة وأحسن أخلاقا وأصفى قلبا من اليهود . وقد فرقت إحدى آيات هذه السورة بين الفريقين في مواقفهما من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته ومن المسلمين فقالت : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( 82 ) } .

وأثنت آية في سورة الحديد على أخلاقهم ثناء محببا هو على الغالب سجل لما كان واقع غالبهم وخاصة في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي : { ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة . . . . . . . . . . . . . . . . } هذا في حين احتوت آيات مدنية كثيرة تسجيلا ؛ لما كان من واقع غالب اليهود من أخلاق سيئة وقلوب قاسية وانحرافات خلقية ودينية خطيرة مما مر منه أمثلة كثيرة في سور البقرة وآل عمران والنساء والجمعة التي مر تفسيرها .

وواضح أن صيغة الآية تشريعية عامة . وأن ما نبهنا عليه مما احتوته من الحكم الظاهرة والمستنبطة شامل الاستمرار والمدى في كل ظروف المسلمين وأمكنتهم . وفي هذا ما فيه من التوجيه الحكيم في صدد التقريب والتيسير والتأليف والتأنيس بين المسلمين والكتابيين ، وبخاصة حينما يكون هؤلاء منسجمين مع المسلمين في تواد وتفاهم . ولا يكون منهم مواقف عدائية ومكائد ونوايا مربية ضد المسلمين يخشى عواقبها في ظروف ومظاهر الحياة الخاصة والعامة .

ولقد أورد المفسرون ( 1 ){[755]}أقوالا كثيرة معظمها معزو إلى ابن عباس وعلماء التابعين وتابعيهم في صدد ما انطوى في الآية من أحكام نوجزها ونعلق عليها كما يلي :

أولا : في صدد الطعام :

1- ما قلناه من أن أهل التأويل القدماء فهموا من جملة { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } أن المقصود هو ذبائحهم ، فقد رووا عن ابن عباس وأبي الدرداء والشعبي أن الجملة عامة الشمول . وفيها إباحة أكل جميع طعام أهل الكتاب على اختلاف أنواعه . واستدرك بعضهم فقالوا : إن ما يحل لنا من طعامهم هو ما هو حلال لهم في شريعتهم . واستدرك آخرون فقالوا : إن ما هو محرم علينا نصا يظل محرما علينا لو قدموه لنا ولو كان حلالا في شريعتهم كالميتة حتف أنفها ، أو ما يموت من نهش السباع أو وقذا أو نطحا أو ترديا أو خنقا ولحم الخنزير والدم المسفوح ، أو ما يدخل الخمر فيه من طعام وما ذبح على سبيل الميسر . وهذه المحرمات وردت في الآية الثالثة من السورة وآية أخرى وردت في هذه السورة وفيها : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 90 ) } وهناك محرمات أخرى وردت في أحاديث نبوية أوردناها في سياق تفسير الآية ( 145 ) من سورة الأنعام .

والقول الأول هو مقتضى الآية ، والاستدراك الثاني هو حق وصواب . وتكون القاعدة أنه لا يجوز للمسلمين أن يأكلوا طعاما من أهل الكتاب محرم عليهم في كتاب الله وسنة رسوله . أما الاستدراك الأول فلا يكون صوابا فيما نرى إلا في نطاق الاستدراك الثاني . فالخمر عندهم غير محرم ، فلا يصح للمسلم تناوله أو تناول طعام مصنوع به . ولا مانع يمنع المسلمين من أكل طعام فيه شحوم بقر وغنم ؛ لأن هذه الشحوم غير محرمة على المسلمين وإن كانت محرمة على الكتابيين في شريعتهم ونعني اليهود . ويقاس على هذا غيره مما هو محرم عندهم وغير محرم عند المسلمين .

2- وفي مسألة حل ذبائح أهل الكتاب أقوال ، فالآية ( 121 ) من سورة الأنعام نهت عن أكل الذبائح التي لا يذكر اسم الله عليها . وبعض أهل التأويل قالوا مع ذلك بإباحة أكل الذبائح المنذورة للكنائس أو التي يذكر اسم المسيح عليها . ولقد روى البغوي عن ابن عمر أنه كان يحرم ما ذكر اسم المسيح عليه ثم قال – البغوي – : ولكن أكثر أهل العلم على حله . وروى – البغوي – أن الشعبي سئل عن ذلك فقال إنه حل . فقد أحل الله طعامهم وهو يعلم ما يقولون ، وروى المفسر نفسه عن الحسن أن اليهودي أو النصراني إذا ذبح فذكر اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكل وإذا غاب عنك فقد أحل لك . ولم نر قولا في الذبيحة التي لا يذكر الكتابي اسم الله ولا غيره عليها . وتقتضي الآية ( 121 ) من سورة الأنعام تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه . غير أن هناك أحاديث أوردناها في سياق تفسير هذه الآية تذكر أن المسلم إذا نسي ذكر الله حين الذبح لا يضره ذلك ويأكل مما ذبحه ؛ لأنه لا يؤمن إلا بالله وحده . ولا يكون عدم الذكر منه عمدا . وقد يصح أن يقال قياسا على ذلك والله أعلم : أن ذبيحة الكتابي أيضا تؤكل إذا نسي أن يذكر اسم الله عليها نسيانا وغير متعمد على اعتبار أنه يؤمن بالله صراحة أو تأويلا ويتعبد له . وتبعا لذلك قد يكون في القول الثالث الوسط صواب وسداد . فلا يجوز لمسلم أن يأكل ذبيحة الكتابي إذا سمع أو تيقن أنه ذكر اسم غير الله عليها ، أما في حالة الغياب وعدم التيقن أو النسيان غير المتعمد فيبقى الأصل هو الوارد وهو حلها على اعتبار أن ذابحها مؤمن بالله .

3- وهناك قولان عن أهل التأويل في ذبائح النصارى واليهود الذين هم من جنس عربي ؛ حيث يذهب بعضهم إلى أن جملة { الذين أوتوا الكتاب } لا تنطبق عليهم فلا تحل ذبائحهم ، وحيث يذهب بعضهم إلى أن المقصد من الجملة هو الذي يدين بإحدى الديانتين ويدخل نصارى العرب ويهودهم في نطاق ذلك . وهذا هو الوجيه السديد فيما نرى والله أعلم .

4- والمؤولون يركزون أقوالهم على الذبائح في الدرجة الأولى ؛ لأن في الحيوانات ما هو محرم علينا ؛ ولأن طريقة الذبح تتحمل التحريم والتحليل . والجمهور على أن طعام أهل الكتاب من غير الذبائح ومما لا يدخله خمر حلال للمسلمين . . . . . . . . . . . وهذا سديد بل هو من باب أولى .

5- وجل المفسرين القدماء ، بل كلهم يديرون الكلام في صدد أهل الكتاب على اليهود والنصارى . ونرجح أن ذلك بسبب الواقع المتمثل في كون هؤلاء هم المعروفون عند المسلمين المتصلون بهم .

ولقد نبهنا قبل أن في القرآن قرائن قد تفيد أن كلمة أهل الكتاب أشمل من اليهود والنصارى فيكون الموقف من ذبائح أهل الملل التي تدعي أن عندها كتبا موحاة من الله عز وجل على بعض أنبيائها ويكون عليها سمة من سمات الكتب السماوية نفس الموقف من ذبائح اليهود والنصارى . وإذا كانت هذه الملل منحرفة أو كان في كتبها التي تدعي أنها سماوية مناقضات للقرآن ، فهذا شأن اليهود والنصارى وما في أيديهم الآن من كتب .

ولقد عقد رشيد رضا فصلا على هذه المسألة انتهى فيه إلى ما انتهينا إليه . وقد ذكر أنه ورد عليه سؤال من ( جاوة ) في حكم الزواج من الجاويين غير المسلمين ، وأنه أفتاهم بالحل إذا كانت في أيديهم كتب يدعون أنها موحاة من الله على أنبيائهم . وقال : إن هذا عام في من يدعي ذلك في الهند والصين واليابان أيضا . ولم يذكر رشيد رضا مسألة الذبائح ، وكلامه يقتضي أن تكون ذبائحهم أيضا حلالا مثل نسائهم في نطاق ما شرحناه سابقا .

6- ولقد استطرد بعض المفسرين المتأخرين قليلا إلى ذكر المجوس والصابئين . فقال الزمخشري : إن السنة في المجوس هي أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم ، ولم يذكر سندا لقوله . وأورد رواية عن ابن المسيب أنه قال : إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر اسم الله ويذبح فلا بأس . وقال ابن كثير قولا متشابها مع إشارته إلى رأي فقيه من أصحاب الشافعي والحنبلي اسمه أبو ثور كان يقول بحل ذبائحهم ونسائهم لحديث مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخذ الجزية منهم ، وأنه قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ؛ ولأن الخلفاء الراشدين ساروا على ذلك .

والحديث المذكور أورده الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج في سياق ذكر موقف تردد وقفه عمر بن الخطاب في أخذ الجزية من المجوس وعدمه وقال : ما أدري ما أصنع بهؤلاء فقال عبد الرحمن بن عوف : ( أشهد أن رسول الله قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) ( 1 ){[756]} .

وقد روى أبو يوسف حديثا طويلا آخر يفيد أن علي بن أبي طالب قال : ( إنه كان للمجوس كتاب يقرئونه فانحرفوا عنه ، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الخراج منهم لكتابهم وحرم ذبائحهم ونسائهم لشركهم ) ( 2 ){[757]}والجملة الأخيرة من الحديث الطويل محل نظر . فاليهود والنصارى أهل كتاب . وقد انحرفوا ويعدون من ناحية ما مشركين على ما ذكرناه قبل ، ومع ذلك فليس هناك خلاف في حل ذبائحهم ونسائهم .

وكتاب الخراج ليس يعد كتاب حديث . غير أن في الكتب الخمسة أحاديث تفيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاءه أخذوا الجزية من المجوس . منها حديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن عبد الرحمن بن عوف قال : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ) ( 3 ){[758]}وحديث رواه الترمذي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين وأخذها عمر من فارس وأخذها عثمان من الفرس والبربر ) ( 1 ){[759]}فإذا كان ما رواه أبو يوسف ثم أبو ثور من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب صحيحا ، فيكون قول أبي ثور بحل ذبائحهم ونسائهم في محله . مع التنبيه على أن أخذ الجزية منهم ، وهو ما اقتصر حديثا رواه البخاري وأبو داود والترمذي على ذكره لا يعني أنهم أهل كتاب ؛ لأن هناك حديثا رواه الخمسة إلا البخاري عن بريدة ، وأوردناه في تعليق طويل لنا في سورة الكافرون يذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاز أخذ الجزية من المشركين أيضا ( 2 ){[760]} .

ونذكر في هذه المناسبة أنه من المعلوم المشهور أنه كان في بلاد الفرس التي كانت مشهورة بأنها مجوسية رجل دين عظيم اسمه زرادشت وله كتاب .

وننبه على أن بحث كتابية المجوسي وعدمها هو الآن في نطاق البحث النظري ؛ لأنه ليس في بلاد الفرس الآن مجوس يؤخذ منهم جزية ، وأن الإسلام قد عمها منذ أكثر من ألف عام .

أما الصائبة فإن الزمخشري قال : إن حكمهم عند أبي حنيفة هو حكم أهل الكتاب ، وإن صاحبيه قالا : إنهما صنفان صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ، وصنف لا يقرؤون ويعبدون النجوم . فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب . والمرجح أن المقصود بهذا التقسيم هم الطائفة التي كانت في بلاد العراق في زمن أبي حنيفة والتي تعرف اليوم باسم ( الصبة ) وليس هناك أثر نبوي وثيق في صددهم ، بحيث يمكن القول : إن هذه الأقوال اجتهادية وتطبيقية مستمدة من واقع كان .

7- ولقد استطرد رشيد رضا إلى مسألة طعام غير أهل الكتاب من الوثنيين والمشركين فقال ما مفاده : إن القرآن لم يحرم طعامهم نصا كما حرم نساءهم ، وإن اقتصار الآية على تحليل طعام أهل الكتاب لا يعني بالضرورة تحريم طعام غيرهم ، وإن كل ما هنالك أن القرآن حرم أكل ما أهل لغير الله كما حرم الميتة والدم ولحم الخنزير . فيكون هذا التحريم هو الضابط القرآني في صدد طعام غير أهل الكتاب . وهو قول سديد مع إضافة كون القرآن حرم الخمر ، ويستتبع ذلك الطعام الذي يصنع به ، وأن هناك أحاديث حرمت أكل حيوانات أخرى غير الخنزير أيضا . وعلى ضوء ذلك يصح أن يقال : إن المشركين والوثنيين لو قدموا للمسلمين طعاما بدون لحم وخمر من خبز وتمر وحبوب وخضروات وفواكه وعسل وزيت وبيض جاز لهم أكله .

8- ونقول استطرادا : إنه ليس في القرآن كما إنه ليس في السنة فيما اطلعنا عليه تحريم على المسلمين إطعام غير المسلمين من غير الكتابيين من طعامهم ، والحكمة الملموحة في النص على تبادل الطعام بين المسلمين والكتابيين هي التأنيس وقصد حسن التواصل والتعايش بين الذين تجمعهم في العقيدة والمبادئ مصدر واحد ، وهو الله تعالى . ويبقى إطعام المسلمين لغير المسلمين من غير الكتابيين مباحا أيضا على اعتبار أن الأصل هو الإباحة والإطلاق ما لم يرد نص .

لقد أباح القرآن للمسلمين أن يأكلوا من الأطعمة المحرمة إذا ما اضطروا ، على شرط الالتزام بقدر الضرورة وعدم تجاوزها وهذه الرخصة في نطاقها واردة بالنسبة لما يقدمه أهل الكتاب وغيرهم أو يضعونه من طعام ولو كان في أصله حرام على المسلمين بطبيعة الحال .

وثانيا : في موضوع التزوج بالكتابيات في كتب التفسير أقوال عديدة في صدد الآية ومداها . ومعظمها وارد في الطبري نوجزها ونعلق عليها بما يلي :

1- هناك خلاف بين المؤولين في المقصود بكلمة { والمحصنات } حيث قال بعضهم : إنهن الحرائر ، وبعضهم بأنهن العفيفات . وأصحاب القول الأول لا يفرقون بين العفيفات وغير العفيفات ، وإنما يخرجون الإماء . وأصحاب القول الثاني لا يفرقون بين الحرائر والإماء ، وإنما يخرجون العفيفات .

والكلمة تتحمل من حيث الاستعمال القرآني المعنيين . وقد جاء المعنيان في الآية ( 25 ) من سورة النساء هذه : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } حيث عنت كلمة { والمحصنات } الأولى ( الحرائر ) والثانية ( العفيفات ) . والكلمة تعني معنى ثالثا ، وهو ( المتزوجات ) وقد ورد هذا في الآية ( 24 ) من سورة النساء { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم } وهذا المعنى غير وارد هنا ؛ لأن ورود الكلمة في آية النساء ( 24 ) هذه كان على سبيل تحريم التزوج بالمتزوجات وهو حكم محكم .

ولقد قال الطبري بعد ما أورده من الأقوال : ( إن أولى الأقوال بالصواب أن كلمة { والمحصنات } تعني الحرائر سواء أكن عفيفات أم فاجرات ، وأن الله جل ثناؤه شرط نكاح الإماء بالإيمان ، وأنه قد أحل لنا حرائر المؤمنات وإن أتين بفاحشة لقوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم } فيكون قد أحل لنا حرائر أهل الكتاب وإن كن أتين بفاحشة .

ويتبادر لنا أن ترجيحه لكون كلمة { والمحصنات } عنت الحرائر دون الإماء هو الأوجه ؛ لأن الآية تضمنت أن يكون التزوج بالكتابيات بمهر وعقد . وهو ما يتوقع بالنسبة للحرائر دون الإماء . ويبقى بذلك قيد { المؤمنات } لمن يراد التزوج بهن من الإماء الوارد في آية سورة النساء ( 25 ) محكما والله تعالى أعلم .

2- ويقيد الطبري الزواج بالكتابيات اللاتي أتين بفاحشة بتوبتهن ويقيس ذلك على جواز الزواج بالمؤمنات اللاتي يأتين بفاحشة إذا تبن . ويسوق بعض الأحاديث الصحابية في ذلك . وقد أوردنا هذه الأحاديث في سياق تفسير الآية الثالثة من سورة النور ، وعلقنا عليها وذكرنا ما هناك من خلاف في هذا الموضوع ، ورجحنا ما ذهب إليه الجمهور من جواز التزوج بالزانية إذا تابت . ونقول هنا : إن كلام الطبري وقياسه صواب وسديد . والله تعالى أعلم .

3- يروي الطبري عن بعض أهل التأويل إباحة التزوج بالذميات دون الحربيات ( 1 ){[761]}وعن بعضهم أن الآية عنت أهل الكتاب الذين كانوا كذلك حين نزولها فلا تشمل من دخل في دينهم بعدها . وعن بعضهم أن الوصف هو في صدد الواقع السابق ، وأن الإجازة هي في صدد التزوج بالكتابية إذا أسلمت فلا يجوز التزوج بها وهي على دينها . وعن بعضهم إناطة الإجازة بتمسك الكتابيين بشرائعهم ، وهذا يشمل المرأة وأهلها بالدرجة الأولى . وعن بعضهم إجازة التزوج بالكتابيات غير العربيات فقط . وعن بعضهم أن الآية مطلقة تجيز التزوج بالحرائر من الكتابيات بدون قيد ولا تفريق ولا زمن . ولم نطلع على أثر نبوي في سياق هذه الأقوال ؛ حيث تكون على الأرجح اجتهادية . ومن المحتمل أن بعضها أي التي لا تجيز التزوج بالكتابية وهي على دينها مستلهمة من آية سورة البقرة ( 221 ) التي تنهى عن التزوج بالمشركات ، ومن آية سورة الممتحنة ( 10 ) التي تنهى عن التمسك بعصم الزوجات الكافرات . وأهل الكتاب يعدون كفارا لأنهم يجحدون رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وقد يعدون من ناحية ما مشركين ؛ لأن اليهود يقولون العزير ابن الله ، والنصارى يقولون المسيح ابن الله أو إن الله ثالث ثلاثة ، أو إن المسيح هو الله . غير أن جمهور المفسرين والفقهاء فهموا أن الآية هي في صدد جواز تزوج المسلم بالكتابية وهي على دينها بحيث يمكن القول : إن في الآية تقييدا لآية البقرة والممتحنة وجعلهما قاصرتين على المشركات والوثنيات .

4- ونستطرد إلى القول : إن بعض المتمحلين يقولون : إنه ليس في القرآن نص على تحريم زواج المسلمات من الكتابيين . وهذا مردود . أولا : بأن الآية بإباحتها زواج المسلمين بالكتابيات فقط قد انطوى فيها حصر ذلك في هذه الناحية .

وثانيا : بأن الآية في احتوائها جملة { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } قد قصدت تنبيه رجال المسلمين إلى أن هذه الإجازة مشروطة بأن يكون هدفهم الإحصان لا المسافحة ولا المخادنة اللتين كان النساء الكتابيات متعرضات لهما أكثر ؛ حيث ينطوي في هذا أيضا حصر الإجازة في رجال المسلمين .

وثالثا : باتفاق المسلمين على ذلك منذ العهد النبوي بدون خلاف . . . . . . . . . . وهناك حديث أورده المفسر القاسمي ومرويا عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( أحل لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم ، وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا ) والحديث لم يرد في الصحاح . ولكن القاسمي عالم في الحديث . والحديث بعد متوافق مع روح الآية بل وفحواها . وحكمة المنع ظاهرة ، فالرجل بطبيعته هو القوام على الزوجة ، وهو رب الأسرة وإليه ينسب النسل . فالخوف منتف من وجهة نظر الشريعة الإسلامية ، أو كالمنتفي من تأثير الأم الديني . واحتمال الانتفاع بمزاياها واندماجها في الإسلام هو الأقوى . وهذا خلاف للحالة إذا ما عكست . وقد يضاف إلى هذا اعتبار مهم آخر . وهو أن المسلم يحترم أنبياء الكتابيين وكتبهم ، فليس للكتابية أن تشعر بحرج من التزوج به ؛ لأنها مطمئنة على احترامه لما تقدسه . في حين أن الكتابي لا يعترف بنبي المسلمة ولا بكتابها ، وبالتالي لا يحترمهما فيكون عليها حرج من التزوج به ؛ لأنها لا تكون معه مطمئنة على ما تقدسه .

5- ويلحظ أن آية النساء ( 24 ) نبهت على وجوب استهداف الإحصان وإنشاء الأسرة وعدم قصد قضاء الشهوة أو المسافحة { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } . ولقد تكررت هذه العبارة في الآية التي نحن في صددها ؛ حيث يلمح في ذلك قصد توكيد هذا الأمر في حالة التزوج بالكتابيات أيضا ، وبالتالي عناية التنزيل القرآني بهذا الهدف الاجتماعي ، ووجوب ملاحظته في كل الحالات . والإخلال بهذا الهدف في حالة التزوج بالكتابيات أكثر توقعا ، فكان من الحكمة توكيده في هذا المقام مع زيادة مهمة وهي : { ولا متخذي أخدان } أي : لا يكون ذلك بقصد المخادنة . أي المخاللة . والفرق بين هذا والمسافحة أن المسافحة قد تكون عابرة ، وأن المخادنة قد تكون دائمة .

6- والسياق يجعلنا نذكر حالة أخرى في صدد الكتابيات . وهي استفراش الإماء الكتابيات من قبل مالكهن . ولقد أباحت آيات النساء ( 3 و 24 ) والمؤمنون ( 6 ) والأحزاب ( 50 و52 ) والمعارج ( 30 ) استفراش المسلمين للإماء اللاتي يملكونهن دون تقييد بقيد المؤمنات . وهناك آثار نبوية تجيز استفراش المسلمين لما ملكت أيمانهم مطلقا أيضا أوردناها في سياق تفسير آيات سورة النساء ( 24 و 25 ) فيكون الإماء الكتابيات مشمولات بهذه الإباحة .

7- ولقد استطرد بعض المفسرين إلى المجوس والصائبة في سياق بحث الزواج أيضا . وهذه المسألة بحثناها في سياق مسألة الطعام فنكتفي بهذا التنبيه .

8- وما ذكرناه في بحث الطعام في صدد من يدعي أنه أهل كتاب من غير اليهود والنصارى ينسحب على هذا البحث . فنكتفي كذلك بهذا التنبيه .


[753]:انظر النيسابوري والنسفي والخازن والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي.
[754]:انظر ابن سعد ج 3 ص 162 – 163 وابن هشام ج 3 ص 388 – 390.
[755]:انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي وابن كثير والخازن والنسفي والنيسابوري.
[756]:كتاب الخراج لأبي يوسف ص 72 و 73.
[757]:المصدر نفسه.
[758]:التاج ج 4 ص 347.
[759]:التاج ج 4 ص 347.
[760]:انظر الحديث في التاج ج 4 ص 327 و 328.
[761]:الذميات هن اللائي تحت السلطان الإسلامي في البلاد الإسلامية. والحربيات هن اللائي من أهل بلاد خارجة عن سلطان الدولة الإسلامية. وقد نعتن بالحربيات؛ لأن الدول المجاورة للدولة الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والدولة العباسية كانت في حالة حرب مع الدولة الإسلامية ساخنة أو متوقفة بهدنة. ومن الجائز والمعقول أن تكون بلاد غير إسلامية ليس بينها وبين الدول الإسلامية حالة حرب وعداء. فتكون إجازة التزوج من كتابياتها واردة، بل وأولى بطبيعة الحال.