معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

قوله تعالى : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } ، وذلك أن أبا جهل لعنه الله قال يوم بدر لما التقى الناس : الله اقطعنا للرحم ، وآتانا بما لم نعرف ، فأحنه الغداة ، فكان هو المستفتح على نفسه .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يعقوب بن إبراهيم ، بن سعد عن أبيه عن جده قال : قال عبد الرحمن بن عوف : إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان ، حديثا السن ، فكأني لم آمن بمكانهما ، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه : يا عم أرني أبا جهل ، فقلت : يا بن أخي وما تصنع به ؟ فقال : عاهدت الله عز وجل إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه ، فقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله ، فما سرني أني بين رجلين بمكانهما ، فأشرت لهما إليه ، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه ، وهما ابنا عفراء .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا محمد بن المثنى ، ثنا ابن أبي عدي ، عن سليمان التيمي ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : ( من ينظر لنا ما صنع أبو جهل ؟ قال : فانطلق ابن مسعود ، فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد ، قال : فأخذ بلحيته فقال : أنت أبو جهل ؟ فقال : وهل فوق رجل قتله قومه أو قتلتموه ) .

قال محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر قال : قال معاذ بن عمرو بن الجموح : " لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه أمر بأبي جهل بن هشام أن يلتمس في القتلى ، وقال : اللهم لا يعجزنك ، قال : فلما سمعتها جعلته من شأني ، فعمدت نحوه ، فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه ، قال : وضربني ابنه عكرمة على عاتقي ، فطرح يدي ، فتعلقت بجلدة من جنبي ، وأجهضني القتال عنه ، فلقد قاتلت عامة يومي ، وإني لأصحبها خلفي ، فلما آذتني جعلت عليها قدمي ، ثم تمطيت بها حتى طرحتها ، ثم مر بأبي جهل وهو عفير معوذ بن عفراء ، فضربه حتى أثبته ، فتركه وبه رمق ، فمر عبد الله بن مسعود . قال عبد الله بن مسعود : وجدته بآخر رمق ، فعرفته ، فوضعت رجلي على عنقه ، ثم قلت : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزاني ؟ أعمد من رجل قتلتموه ؟ أخبرني لمن الدائرة ؟ قلت : لله ولرسوله . وروي عن ابن مسعود أنه قال : قال لي أبو جهل : لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقىً صعباً ، ثم احتززت رأسه ، ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، هذا رأس عدو الله أبي جهل ، فقال : آلله الذي لا إله غيره ؟ قلت : نعم ، والذي لا إله غيره ، ثم ألقيته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله عز وجل ، وقال السدي ، والكلبي : كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأهدي الفئتين ، وأكرم الحزبين ، وأفضل الدينين ، ففيه نزلت : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } أي : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، وقال عكرمة : قال المشركون : والله لا نعرف ما جاء به محمد ، فافتح بيننا وبينه بالحق ، فأنزل الله عز وجل : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } أي : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء ، وقال أبي بن كعب : هذا خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى للمسلمين : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } أي : إن تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، ثنا عبد الرحيم بن منيب ، ثنا الفضل بن موسى ، ثنا إسماعيل بن خالد ، عن قيس ، عن خباب رضي الله عنه قال : " شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلنا : ألا تدعو الله ؟فقعد وهو محمر وجهه وقال : كان من الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض ، فيجاء بالمنشار ، فيوضع فوق رأسه فيشق باثنين ، فما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب ، وما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ، أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تعستجلون " .

قوله تعالى : { وإن تنتهوا } ، يقول للكفار : إن تنتهوا عن الكفر بالله ، وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { فهو خير لكم وإن تعودوا } ، لحربه وقتاله .

قوله تعالى : { نعد } بمثل الواقعة التي وقعت بكم يوم بدر ، وقيل : وإن تعودوا إلى الدعاء والاستفتاح نعد للفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { ولن تغني عنكم فئتكم } ، جماعتكم .

قوله تعالى : { شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين } ، قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وحفص : ( وأن الله ) بفتح الهمزة ، أي : ولأن الله مع المؤمنين ، كذلك { لن تغني عنكم فئتكم شيئاً } ، وقيل : هو عطف على قوله : { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } ، وقرأ الآخرون : وإن الله بكسر الألف على الابتداء .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

وعندما يصل السياق إلى تقرير . . أن الله موهن كيد الكافرين . . يتجه بالخطاب إلى الكافرين ، أولئك الذين استفتحوا قبيل المعركة ، فدعوا الله أن يجعل الدائرة على أضل الفريقين وآتاهما بما لا يُعرف وأقطعهما للرحم - كما كان دعاء أبي جهل وهو استفتاحه : أي طلبه الفتح من الله والفصل - فدارت الدائرة على المشركين ! . . يتوجه إليهم بالخطاب ، ساخرا من استفتاحهم ذاك ؛ مؤكدا لهم أن ما حدث في بدر إنما هو نموذج من السنة الجارية وليس فلتة عارضة ؛ وأن جموعهم وكثرتهم لن تغير من الأمر شيئا ؛ لأنها السنة الجارية : أن يكون الله مع المؤمنين :

( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح . وإن تنتهوا فهو خير لكم . وإن تعودوا نعد ، ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت . وأن الله مع المؤمنين ) . .

إن تستفتحوا فتطلبوا من الله أن يفتح بينكم وبين المسلمين ، وأن يهلك أضل الفريقين وأقطعهما للرحم . . فقد استجاب الله ، فجعل الدائرة عليكم ، تصديقاً لاستفتاحكم ! لقد دارت الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم ! ولقد علمتم - إن كنتم تريدون أن تعلموا - من هم أضل الفريقين وأقطعهما للرحم !

وعلى ضوء هذه الحقيقة ، وفي ظل هذا الإيحاء ، يرغبهم في الانتهاء عما هم فيه من الشرك والكفر والحرب للمسلمين ، والمشاقة لله ورسوله :

( وإن تنتهوا فهو خير لكم ) . .

ومع الترغيب الترهيب :

( وإن تعودوا نعد ) . .

والعاقبة معروفة ، لا يغيرها تجمع ، ولا تبدلها كثرة :

( ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت ) . .

وماذا تفعل الكثرة إذا كان الله في جانب المؤمنين ?

( وأن الله مع المؤمنين ) . .

إن المعركة على هذا النحو لن تكون متكافئة أبداً ؛ لأن المؤمنين - ومعهم الله - سيكونون في صف ؛ والكفار - وليس معهم إلا ناس من البشر من أمثالهم - سيكونون في الصف الآخر . والمعركة على هذا النحو مقررة المصير !

ولقد كان مشركو العرب يعرفون هذه الحقيقة . فإن معرفتهم بالله سبحانه لم تكن قليلة ولا سطحية ولا غامضة ؛ كما يتصور الناس اليوم من خلال تأثرهم ببعض التعميمات التاريخية . ولم يكن شرك العرب متمثلا في إنكار الله - سبحانه - ولا في عدم معرفتهم الحقيقة . . إنما كان يتمثل ، أكثر ما يتمثل ، في عدم إخلاصهم العبودية له ؛ وذلك بتلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غيره ؛ وهو ما لم يكن متفقاً مع إقرارهم بألوهية الله ومعرفتهم لحقيقته . .

ولقد مر بنا في استعراض أحداث الموقعة من كتب السيرة : أن خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري - أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري - بعث إلى قريش ، حين مروا به ، ابنا له بجزائر أهداها لهم ؛ وقال لهم : إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا . قال : فارسلوا إليه مع ابنه : أن وصلتك رحم ! قد قضيت الذي عليك . فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم . ولئن كنا إنما نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة .

كذلك مر بنا قول الأخنس بن شريق لبني زهرة - وهو مشرك وهم مشركون - : يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم ، وخلص لكم صاحبكم مخرقة بن نوفل . . . الخ

ومثله استفتاح أبي جهل نفسه - فرعون هذه الأمة كما قال عنه رسول الله [ ص ] - وهو يقول : " اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة " . .

وكذلك قوله لحكيم بن حزام وقد جاءه رسولا من عتبة بن ربيعة ليرجع عن القتال : " كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد " !

فهكذا كان تصورهم للحقيقة الإلهية ، واستحضارهم لها في كل مناسبة . ولم يكن أمرهم أنهم لا يعرفون الله ؛ أو لا يعرفون أنه ما لأحد بالله من طاقة ، أو لا يعرفون أنه هو الذي يحكم ويفصل بين الجبهتين حيث لا راد لحكمه ! إنما كان شركهم الحقيقي يتمثل ابتداء في تلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غير الله ، الذي يعرفونه ويعترفون به على هذا النحو . . الأمر الذي يشاركهم فيه اليوم أقوام يظنون أنهم مسلمون - على دين محمد - كما كان المشركون يظنون أنهم مهتدون على دين أبيهم إبراهيم ! حتى لكان أبو جهل - وهو أبو جهل - يستفتح على الله فيقول : " اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف - وفي رواية : اللهم أضل الفريقين وأقطعهما للرحم - فأحنه الغداة " !

فأما تلك الأصنام التي عرف أنهم يعبدونها ، فما كان ذلك قط لاعتقادهم بألوهية لها كألوهية الله - سبحانه - ولقد صرح القرآن الكريم بحقيقة تصورهم الاعتقادي فيها وبسبب تقديمهم الشعائر لها في قوله تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) . . فهذا كان مبلغ تصورهم لها . . مجرد شفعاء عند الله . . وما كان شركهم الحقيقي من هذه الجهة ؛ ولا كان إسلام من أسلم منهم متمثلاً في مجرد التخلي عن الاستشفاع بهذه الأصنام . وإلا فإن الحنفاء ، الذي اعتزلوا عبادة الأصنام هذه وقدموا الشعائر لله وحده ما اعتبروا مسلمين ! إنما تمثل الإسلام في الاعتقاد والشعائر وإفراد الله سبحانه بالحاكمية . والذين لا يفردون الله سبحانه بالحاكمية - في أي زمان وفي أي مكان - هم مشركون . لا يخرجهم من هذا الشرك أن يكون اعتقادهم أن لا إله إلا الله - مجرد اعتقاد - ولا أن يقدموا الشعائر لله وحده . . فإلى هنا يكونون كالحنفاء الذين لم يعتبرهم أحد مسلمين - إنما يعتبر الناس مسلمين حين يتمون حلقات السلسلة ، أي حين يضمون إلى الاعتقاد والشعائر ، إفراد الله سبحانه بالحاكمية ، ورفضهم الاعتراف بشرعية حكم أو قانون أو وضع أو قيمة أو تقليد لم يصدر عن الله وحده . . وهذا وحده هو الإسلام ، لأنه وحده مدلول شهادة : أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؛ كما عرف هذا المدلول في الاعتقاد الإسلامي وفي الواقع الإسلامي سواء ! . . ثم أن يتجمع هؤلاء الذين يشهدون أن لا إله إلا الله على هذا النحو وبهذا المدلول في تجمع حركي بقيادة مسلمة وينسلخوا من التجمع الجاهلي وقيادته الجاهلية !

وهذا ما ينبغي أن يتبينه الذين يريدون أن يكونوا " مسلمين " فلا تخدعهم عن حقيقة ما هم فيه خدعة أنهم

مسلمون اعتقاداً وتعبداً . فإن هذا وحده لا يجعل الناس " مسلمين " ما لم يتحقق لهم أنهم يفردون الله سبحانه بالحاكمية ، ويرفضون حاكمية العبيد ، ويخلعون ولاءهم للمجتمع الجاهلي ولقيادته الجاهلية .

إن كثيراً من المخلصين الطيبين تخدعهم هذه الخدعة . . وهم يريدون لأنفسهم الإسلام ولكنهم يُخدعون عنه . فأولى لهم أن يستيقنوا صورة الإسلام الحقيقية . . والوحيدة . . وأن يعرفوا أن المشركين من العرب الذين يحملون اسم " المشركين " لم يكونوا يختلفون عنهم في شيء ! فلقد كانوا يعرفون الله بحقيقته - كما تبين - ويقدمون له شفعاء من أصنامهم . . وكان شركهم الأساسي يتمثل - لا في الاعتقاد - ولكن في الحاكمية !

وإذا كان ينبغي للطيبين المخلصين الذين يريدون أن يكونوا مسلمين ، أن يتبينوا هذه الحقيقة ، فإن العصبة المسلمة التي تجاهد لإعادة نشأة هذا الدين في الأرض في عالم الواقع يجب أن تستيقن هذه الحقيقة بوضوح وعمق ؛ ويجب ألا تتلجلج فيها أي تلجلج ؛ ويجب أن تعرّف الناس بها تعريفاً صريحا واضحا جازما . . فهذه هي نقطة البدء والانطلاق . . فإذا انحرفت الحركة عنها - منذ البدء - أدنى انحراف ضلت طريقها كله وبنت على غير أساس ؛ مهما توافر لها من الإخلاص بعد ذلك والصبر والتصميم على المضي في الطريق !