التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

وبعد أن ذكر - سبحانه - عباده المؤمنين بما حباهم به من منن في عزوة بدر ، ليستمروا على طاعتهم له ولرسوله . . أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى الكافرين الذين حملهم الرسوخ في الكفر على أن يدعو الله أن يجعل الدائرة في بدر على أضل الفريقين فقال - تعالى - : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } .

روى الإِمام أحمد والنسائى والحاكم وصححه ، عن ثعلبة ، أن أبا جهل قال حين التقى القوم - في بدر - : اللهم أقطعنا للرحم ، وأتانا بما لا نعرفه ، فأحنه - أي فأهلكه - الغداة . فكان المستفتح .

وعن السدى أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أهدى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين . فقال - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } الآية .

قال الراغب : وقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } أى : إن طلبتم الظفر ، أو طلبتم لافتاح أي الحكم . . والفتح إزالة الإِغلاق والإِشكال . . ويقال : فتح القضية فتاحا . أي فصل الأمر فيها وأزال الإِغلاق عنها . قال - تعالى - : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ . . . } والمعنى : إن تطلبوا الفتح أى : القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أى : فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبتم حيث حكم الله وقضى بينكم وبين المؤمنين ، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق ، وخذلكم وأذلكم لأنكم على الباطل .

فالخطاب مسوق للكفارين على سبيل التهكم بهم ، والتوبيخ لهم ، حيث طلبوا من الله - تعالى - القضاء بينهم وبين المؤمنين ، والنصر عليهم ، فكان الأمر على عكس ما أرادوا حيث حكم الله فيهم بحكمه العادل وهو خذلانهم لكفرهم وجحودهم ، وإعلاء كلمة المؤمنين ، لأنهم على الطريق القويم .

وقوله : { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أى : وأن تنتهوا عن الكفر وعداوة الحق ، يكن هذا الانتهاء خيراً لكم من الكفر ومحاربة الحق .

وقوله : { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ . . . } تحذير لهم من التمادى في الباطل بعد ترغيبهم في الانقياد للحق .

أى : { وَإِن تَعُودُواْ } إلى محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وعداوتهم { نَعُدْ } عليكم بالهزيمة والذلة . وعلى المؤمنين بالنصر والعزة ، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم - ولو كثرت - أن تدفع عنكم شياً من تلك الهزيمة وهذه الذلة ، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا قيمة إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده .

وقوله : { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } تذييل قصد به تثبيت المؤمنين ، وإلقاء الطمأنينة في نفوسهم .

أى : وأن الله مع المؤمنين بعونه وتأييده ، ومن كان الله معه فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته .

قال الجمل : " قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح " أن " والباقون بكسرها فالفتح من أوجه :

أحدها : أنه على لام العلة والمعلل تقديره ، ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت .

والثانى : أن التقدير : ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم . والثالث أنه خبر مبتدأ محذوف . أى : والأمر أن الله مع المؤمنين .

والوجه الأخير يقرب في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف .

هذا وما جرينا عليه من أن الخطاب في قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ .

. } للمشركين هو رأى جمهور المفسرين .

ومنهم من يرى أن الخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين ، وعليه يكون المعنى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } أي تطلبوا - أيها المؤمنون - النصر على أعدائكم { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أى : فقد جاءكم النصر من عند الله كما طلبتم .

{ وَإِن تَنتَهُواْ } أي عن المنازعة في أمر الانفال ، وعن التكاسل في طاعة الله ورسوله ، { فَهُوَ } أي هذا الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ } .

{ وَإِن تَعُودُواْ } إلى المنازعات والتكاسل { نَعُدْ } عليكم بالإِنكار وتهييج الأعداء .

{ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } أى : ولن تفيدكم كثرتكم شيئاً مهما كثرت إن لم يكن الله معكم بنصره .

وأن الله - تعالى - مع المؤمنين الصادقين في إيمانهم وطاعتهم له .

والذى يبدو لنا أن كون الخطاب للكافرين أرجح ، لأن أسباب النزول تؤيده ، فقد سبق أن بينا أن الكافرين عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر اهدى الجندين . . وأن أبا جهل قال حين التقى القوم :

اللهم أينا أقطع للرحم . . فأحنه الغداة . قال ابن جرير : فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله في ذلك { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح . . } .

ولعل مما يرجح أن الخطاب في قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } للكافرين ، أن بعض المفسرين - كان جرير وابن كثير - ساروا في تفسيرهم للآية على ذلك ، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه أصلا .

أما صاحب الكشاف فقد ذكره بصيغة " وقيل " وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال : قوله - تعالى - : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم . وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أقرانا للضيف ، وأوصلنا للرحم ، وأفكنا للعانى . . .

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة التي افتتحت بنداء المؤمنين ، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء . . وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم ، ورعايته لهم . . وغربت المشركين في الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق ، وحذرتهم من التمادى في باطلهم وطغيانهم . . وأخبرتهم في ختامها بأن الله - تعالى - مع المؤمنين بتأييده ونصره .