اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

قوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الفتح } قال الحسنُ ، ومجاهد ، والسُّدِّي : إنه خطابٌ للكافرين ، وذلك أنَّ أبا جهل قال يوم بدر : اللَّهم ، انصر أفضل الفريقين وأحقَّه بالنَّصْر .

وروي{[17240]} أنه قال : اللَّهم ، أينا كان أقطع للرَّحمِ وأفجر ؛ فأهلكه الغداة{[17241]} .

وقال السدي : " لمَّا أراد المشركون الخروج إلى بدر تعلَّقُوا بأستار الكعبة وقالوا : اللَّهُمَّ انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ، فأنزل الله تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الفتح } أي : تستنصروا لإحدى القبيلين ، فقد جاءكم النصر " {[17242]} .

وقال آخرون : المعنى : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء .

قال عبد الرحمن بن عوف : إني لَفِي الصَّف يوم بدر ، فالتفت ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السِّنِّ وكأني لم آمن لمكانهما ، فتمنيت أن أن أكون بين أضلع منهما ، إذ قال لي أحدهما سرّاً من صاحبه ، أي عم أرني أبا جهل ، فقلت : يا ابن أخي ما تصنعُ به ؟ .

قال : عاهدت الله إن رأيته أن أقتله ، أو أموت دونه ، وقال لي الآخر سرّاً من صاحبه مثله ، فما سَرَّني أنني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما عليه ، فشدَّا عليه مثل الصقرين حتَّى ضرباهُ ، وهما ابنا عفراء{[17243]} .

وقال عكرمةُ : قال المشركون : والله ما نعرف ما جاء به فافتح بيننا وبينه بالحق ، فأنزل الله تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } الآية ، أي : إن تسْتَفتِحُوا فقد جاءكم القضاء{[17244]} .

وقال أبيّ بن كعب : هذا خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله للمسلمين : { إِنْ تَسْتَفْتِحُواْ } أي تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر{[17245]} . روى قيس عن خباب قال : " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تدعو الله لنا ، ألا تستنصر لنا ، فجلس مُحْمرّ الوجه ، فقال لنا : " لقَد كانَ مَنْ قَبْلكُم يُؤخَذُ الرجُ فيُحْفَر لهُ في الأرضِ ثُمَّ يُجاءُ بالمنشَارِ فيجعلُ فوق رأسِهِ ثُمَّ يُجعَلُ نِصفيْنِ ما يَصْرفهُ عنْ دينهِ ، ويُمَشَّطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ ما يصرفهُ عن دينهِ ، والله ليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتَّى يسير الرَّاكبُ مِنْكُم من صنعاء إلى حضْرموت لا يخافُ إلا اللَّه ، ولكنَّكُم تَسْتَعْجِلُونَ " {[17246]}

قال القاضي : وهذا القول أوْلَى ؛ لأن قوله { فَقَدْ جَاءَكُمُ الفتح } لا يليق إلا بالمؤمنين اللهم إلاَّ أن يحمل الفتحُ على الحكم والقضاء ، فيمكن أن يراد به الكفار .

قوله : { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } .

فإن قلنا : إن ذلك الخطاب للكفار ، كان المعنى وإن تنتهوا عن قتال الرَّسول وعداوته ؛ فهو خير لكم في الدّين بالخلاص من العقاب ، وفي الدّنيا بالخلاص من القتل والأسر والنَّهْبِ .

" وإن تَعُودُوا " إلى القتال : " نَعُدْ " أي : إلى تسليطه عليكم : { وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ } كثرة الجموع كما لم يغن ذلك يوم بدر .

وإن قلنا ذلك خطاب للمؤمنين كان المعنى : إن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وتنتهوا عن طلب الفداء على الأسْرَى ، فقد كان وقع بينهم نزاع يوم بدر في هذه الأشياء حتى عاتبهم اللَّهُ بقوله : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } [ الأنفال : 68 ] .

فقال تعالى : { وَإِن تَنتَهُواْ } عن مثله : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ } أنتم إلى تلك المنازعات " نَعُدْ " إلى ترك نصرتكم ؛ لأن الوعد بنصركم مشروط بشرط استمراركم على الطَّاعة ، وترك المخالطة ثمَّ لا تنفعكم الفئة والكثرة ، فإنَّ الله لا يكون إلاَّ مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب .

قوله : " ولَن تُغْنِيَ " قرأ الجمهورُ بالتَّاءِ من فوق ، لتأنيث الفئة .

وقرئ{[17247]} " ولن يُغْنِيَ " بالياء من تحت لأن تأنيثه مجازي ، وللفصل أيضاً : " ولو كَثُرَتْ " هذه الجملة الامتناعية حالية ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك .

قوله : { وأن الله مع المؤمنين } قرأ نافعٌ ، ابن عامر{[17248]} ، وحفصٌ عن عاصم ، بالفتح . والباقون : بالكسر ، فالفتحُ من أوجه :

أحدها : أنه على لام العلَّة تقديره : ولأنَّ الله مع المؤمنين كان كيت وكيت .

والثَّاني : أن التقدير : ولأنَّ اللَّهَ مع المؤمنين امتنع عنادهم .

والثالث : إنه خبرُ مبتدأ محذوف أي : والأمر أنَّ الله مع المؤمنين ، وهذا الوجهُ الأخيرُ يقربُ في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف .


[17240]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/206) عن عطية وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/318) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره الرازي في "تفسيره" (15/114) عن الحسن ومجاهد والسدي.
[17241]:أخرجه أحمد (5/431) والنسائي في "الكبرى" (6/350) والحاكم (2/328) والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/74) من طريق ابن شهاب الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير به. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/318) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه وابن منده.
[17242]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/206) عن السدي.
[17243]:أخرجه البخاري (7/358) كتاب المغازي ب 10 حديث (3988) ومسلم (3/1372) كتاب الجهاد والسير: باب استحقاق القاتل سلب القتيل.
[17244]:اخرجه الطبري في "تفسيره" (6/205) وذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/239). وذكره أيضا السيوطي في الدر المنثور (3/318) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[17245]:انظر تفسير البغوي (2/239).
[17246]:اخرجه البخاري (7/202) كتاب مناقب الأنصار: باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة حديث (3852) والبغوي في "شرح السنة" (7/95) وفي تفسيره (2/239).
[17247]:ينظر: الكشاف 2/208.
[17248]:ينظر: السبعة ص (305) الحجة للقرء السبعة 4/128، حجة القراءات ص 310، إعراب القراءات 1/223، إتحاف 2/78، النشر 2/276.