فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدۡ وَلَن تُغۡنِيَ عَنكُمۡ فِئَتُكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَوۡ كَثُرَتۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (19)

الاستفتاح : طلب النصر ، وقد اختلف في المخاطبين بالآية من هم ؟ فقيل : إنها خطاب للكفار تهكماً بهم ، والمعنى : إن تستنصروا الله على محمد فقد جاءكم النصر . وقد كانوا عند خروجهم من مكة سألوا الله أن ينصر أحق الطائفتين بالنصر ، فتهكم الله بهم ، وسمى ما حلّ بهم من الهلاك نصراً . ومعنى بقية الآية على هذا القول { وَإِن تَنتَهُواْ } عما كنتم عليه من الكفر والعداوة لرسول الله { فَهُوَ } أي : الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ } إلى ما كنتم عليه من الكفر والعداوة { نَعُدُّ } بتسليط المؤمنين عليكم ، ونصرهم كما سلطناهم ونصرناهم في يوم بدر { وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ } أي : جماعتكم { شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } أي : لا تغني عنكم في حال من الأحوال ، ولو في حال كثرتها ، ثم قال : { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } ومن كان الله معه ، فهو المنصور ، ومن كان الله عليه ، فهو المخذول . قرئ بكسر «إن » وفتحها ، فالكسر على الاستئناف ، والفتح على تقدير : ولأن الله مع المؤمنين فعل ذلك . وقيل : إن الآية خطاب للمؤمنين ، والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر في يوم بدر ، وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم ، وفداء الأسرى قبل الإذن لكم بذلك ، فهو خير لكم ، وإن تعودوا إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم ، كما في قوله : { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } الآية ، ولا يخفى أنه يأبي هذا القول معنى { وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً } ويأباه أيضاً { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } وتوجيه ذلك لا يمكن إلا بتكلف وتعسف . وقيل إن الخطاب في { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } للمؤمنين ، وما بعده للكافرين ، ولا يخفى ما في هذا من تفكيك النظم وعود الضمائر الجارية في الكلام على نمط واحد إلى طائفتين مختلفتين .

وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن منده ، والحاكم وصححه ، والبهيقي في الدلائل ، عن ابن شهاب ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير ، أن أبا جهل قال حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة ، فكان ذلك استفتاحاً منه فنزلت { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } الآية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عطية ، قال : قال أبو جهل يوم بدر : اللهم انصر أهدى الفئتين ، وأفضل الفئتين ، وخير الفئتين ، فنزلت الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } قال : كفار قريش في قولهم : ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه .

ففتح بينهم يوم بدر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة ، في قوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء في يوم بدر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السدي ، في قوله : { وَإِن تَنتَهُواْ } قال : عن قتال محمد صلى الله عليه وسلم ، { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ } قال : إن تستفتحوا الثانية أفتح لمحمد { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } قال : مع محمد وأصحابه . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ } يقول : نعد لكم بالأسر والقتل .