معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } الآية . قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم ، وزيد بن المهلهل الطائيين ، وهو زيد الخيل ، الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير ، قالا : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت هذه الآية . وقيل : سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب قالوا : يا رسول الله ، ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فنزلت هذه الآية . فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الزيادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية ، أو صيد ، أو زرع ، انتقص من أجره كل يوم قيراط " ، والأول أصح في نزول الآية .

قوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } . يعني الذبائح على اسم الله تعالى ، وقيل : كل ما تستطيبه العرب وتستلذه ، من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة .

قوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } . يعني : وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح . واختلفوا في هذه الجوارح ، فقال الضحاك والسدي : هي الكلاب دون غيرها ، ولا يحل ما صاده غير الكلب إلا أن تدرك ذكاته ، وهذا غير معمول به ، بل عامة أهل العلم على أن المراد بالجوارح الكواسب من السباع البهائم ، كالفهد ، والنمر ، والكلب . ومن سباع الطير كالبازي ، والعقاب ، والصقر ، ونحوها مما يقبل التعليم ، فيحل صيد جميعها . سميت جارحة : لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد ، أي : كسبها ، يقال : فلان جارحة أهله أي : كاسبهم .

قوله تعالى : { مكلبين } . والمكلب الذي يغري الكلاب على الصيد ، ويقال للذي يعلمها أيضاً مكلب ، والكلاب صاحب الكلاب ، ويقال : الصائد بها أيضا كلاب ، ونصب مكلبين على الحال ، أي : في حال تكليبكم هذه الجوارح أي إغرائكم إياها على الصيد ، وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم ، والمراد جميع جوارح الصيد .

قوله تعالى : { تعلمونهن } . تؤدبونهن آداب أخذ الصيد .

قوله تعالى : { مما علمكم الله } . أي : من العلم الذي علمكم الله . قال السدي : أي كما علمكم الله ، فمن بمعنى الكاف .

قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } . أراد أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها ، فأخذت الصيد وقتلته كان حلالاً ، والتعليم هو : أن يوجد بها ثلاثة أشياء ، إذا أشليت استشلت ، وإذا زجرت انزجرت ، وإذا أخذت الصيد أمسكت ، ولم تأكل ، وإذا وجد ذلك منه مراراً ، وأقله ثلاث مرات ، كانت معلمة يحل قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا موسى بن إسماعيل ، أن ثابت ابن زيد ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت ، فأمسك وقتل فكل ، وإن أكل فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه ، وإذا خالط كلاباً لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل ، فإنك لا تدري أيها قتل ، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل ، وإن وقع في الماء فلا تأكل .

واختلفوا فيما إذا أخذت الصيد وأكلت منه شيئاً : فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه ، روي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول عطاء ، وطاووس ، والشعبي ، وبه قال الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، وهو أصح قولي الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن أكل فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه " . ورخص بعضهم في أكله ، روي ذلك عن ابن عمر ، وسلمان الفارسي ، وسعد بن أبي وقاص ، وقال مالك : لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك ، وذكرت اسم الله تعالى فكل ، وإن أكل منه " .

أما غير المعلم من الجوارح إذا أخذ صيداً ، والمعلم إذا جرح بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل ، فلا يكون حلالاً ، إلا أن يدركه صاحبه حياً فيذبحه ، فيكون حلالاً .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن يزيد ، أنا حيوة ، أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي ، عن أبي إدريس ، عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : قلت : يا نبي الله ، إنا بأرض قوم أهل الكتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم ، وبكلبي المعلم ، فما يصح لي ؟ قال : أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوا وامسكوا فيها ، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل " .

قوله تعالى : { واتقوا الله إن الله سريع الحساب } ، ففيه بيان أن ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة شرط حالة ما يذبح ، وفي الصيد حالة ما يرسل الجارحة أو السهم . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن علوية الجوهري قال : أنا أبو العباس محمد بن أحمد بن الأثرم المقري بالبصرة ، حدثنا عمر بن شيبة ، أنا أبو عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ، قال : رأيته واضعاً قدمه على صفاحهما ، ويذبحهما بيده ويقول : بسم الله والله أكبر " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

{ 4 ْ } { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ْ }

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ْ } من الأطعمة ؟ { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ْ } وهي كل ما فيه نفع أو لذة ، من غير ضرر بالبدن ولا بالعقل ، فدخل في ذلك جميع الحبوب والثمار التي في القرى والبراري ، ودخل في ذلك جميع حيوانات البحر وجميع حيوانات البر ، إلا ما استثناه الشارع ، كالسباع والخبائث منها .

ولهذا دلت الآية بمفهومها على تحريم الخبائث ، كما صرح به في قوله تعالى : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ْ }

{ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ ْ } أي : أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر الآية . دلت هذه الآية على أمور :

أحدها : لطف الله بعباده ورحمته لهم ، حيث وسع عليهم طرق الحلال ، وأباح لهم ما لم يذكوه مما صادته الجوارح ، والمراد بالجوارح : الكلاب ، والفهود ، والصقر ، ونحو ذلك ، مما يصيد بنابه أو بمخلبه .

الثاني : أنه يشترط أن تكون معلمة ، بما يعد في العرف تعليما ، بأن يسترسل إذا أرسل ، وينزجر إذا زجر ، وإذا أمسك لم يأكل ، ولهذا قال : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ْ } أي : أمسكن من الصيد لأجلكم .

وما أكل منه الجارح فإنه لا يعلم أنه أمسكه على صاحبه ، ولعله أن يكون أمسكه على نفسه .

الثالث : اشتراط أن يجرحه الكلب أو الطير ونحوهما ، لقوله : { مِنَ الْجَوَارِحِ ْ } مع ما تقدم من تحريم المنخنقة . فلو خنقه الكلب أو غيره ، أو قتله بثقله لم يبح [ هذا بناء على أن الجوارح اللاتي يجرحن الصيد بأنيابها أو مخالبها ، والمشهور أن الجوارح بمعنى الكواسب أي : المحصلات للصيد والمدركات لها فلا يكون فيها على هذا دلالة - والله أعلم- ]{[254]}

الرابع : جواز اقتناء كلب الصيد ، كما ورد في الحديث الصحيح ، مع أن اقتناء الكلب محرم ، لأن من لازم إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه .

الخامس : طهارة ما أصابه فم الكلب من الصيد ، لأن الله أباحه ولم يذكر له غسلا ، فدل على طهارته .

السادس : فيه فضيلة العلم ، وأن الجارح المعلم -بسبب العلم- يباح صيده ، والجاهل بالتعليم لا يباح صيده .

السابع : أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما ، ليس مذموما ، وليس من العبث والباطل . بل هو أمر مقصود ، لأنه وسيلة لحل صيده والانتفاع به .

الثامن : فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد ، قال : لأنه قد لا يحصل له إلا بذلك .

التاسع : فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح ، وأنه إن لم يسم الله متعمدا ، لم يبح ما قتل الجارح .

العاشر : أنه يجوز أكل ما صاده الجارح ، سواء قتله الجارح أم لا . وأنه إن أدركه صاحبه ، وفيه حياة مستقرة فإنه لا يباح إلا بها .

ثم حث تعالى على تقواه ، وحذر من إتيان الحساب في يوم القيامة ، وأن ذلك أمر قد دنا واقترب ، فقال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ْ }


[254]:- زيادة من هامش ب.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

وسبب نزول قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد في البيت كلباً فلم يدخل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ادخل فقال أنا لا أدخل بيتاً فيه كلب فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فقتلت حتى بلغت العوالي فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا يا رسول الله ، ماذا يحل لنا من هذه الكلاب{[4452]} ؟ .

قال القاضي أبو محمد : وروى هذا السبب أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كان المتولي لقتل الكلاب ، وحكاه أيضاً عكرمة ومحمد بن كعب القرظي موقوفاً عليهما وظاهر الآية أن سائلاً سأل عما أحل للنا س من المطاعم لأن قوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } ليس الجواب على ما يحل لنا من اتخاذ الكلاب اللهم إلا أن يكون هذا من إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه وهذا موجود كثيراً من النبي صلى الله عليه وسلم كجوابه في لباس المحرم وغير ذلك ، وهو صلى الله عليه وسلم مبين الشرع ، فإنما يجاوب مادّاً أطناب التعليم لأمته ، و { الطيبات } الحلال ، هذا هو المعنى عند مالك وغيره ولا يراعى مستلذاً كان أم لا ، وقال الشافعي : { الطيبات } الحلال المستلذ وكل مستقذر كالوزغ والخنافس وغيرها فهي من الخبائث حرام .

وقوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } تقديره وصيد ما علمتم أو فاتخاذ ما علمتم وأعلى مراتب التعليم أن يشلى الحيوان فينشلي{[4453]} ، ويدعى فيجيب ويزجر بعد ظفره بالصيد فينزجر وأن يكون لا يأكل من صيده ، فإذا كان كلب بهذه الصفات ولم يكن أسود بهيماً فأجمعت الأمة على صحة الصيد به بشرط أن يكون تعليم مسلم ويصيد به مسلم ، هنا انعقد الإجماع فإذا انخرم شيء مما ذكرنا دخل الخلاف ، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد تعليم فهو جارح أي كاسب يقال : جرح فلان واجترح إذا كسب ومنه قوله تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار }{[4454]} أي كسبتم من حسنة وسيئة وكان ابن عمر يقول إنما يصاد بالكلاب فأما ما صيد به من البزاة ، وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو حلال لك ، وإلا فلا تطعمه هكذا حكى ابن المنذر قال : وسئل أبو جعفر عن البازي والصقر أيحل صيده قال : لا إلا أن تدرك ذكاته قال واستثنى قوم البزاة فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال ( إذا أمسك عليك فكل ){[4455]} ، وقال الضحاك والسدي : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } هي الكلاب خاصة فإن كان الكلب أسود بهيماً فكره صيده الحسن بن أبي الحسن وقتادة وإبراهيم النخعي . وقال أحمد بن حنبل ما أعرف أحداً يرخص فيه إذا كان بهيماً وبه قال ابن راهويه ، فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم .

وأما أكل الكلب من الصيد فقال ابن عباس وأبو هريرة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه ، لا يؤكل ما بقي لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه ، ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في الكلب المعلم : وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ، وتأول هؤلاء قوله تعالى : { مما أمسكن عليكم } [ المائدة : 4 ] على عموم الإمساك فمتى حصل إمساك ولو في بضعة حل أكلها وروي عن النخعي وأصحاب الرأي والثوري وحماد بن أبي سليمان أنهم رخصوا فيما أكل البازي منه ، خاصة في البازي .

قال القاضي أبو محمد : كأنه لا يمكن فيه أكثر من ذلك لأن حد تعليمه أن يدعى فيجيب وأن يشلى فينشلي ، وإذا كان الجارح يشرب من دم الصيد فجمهور الناس على أن ذلك الصيد يؤكل ، وقال عطاء : ليس شرب الدم بأكل . وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري .

قال القاضي أبو محمد : وليس في الحيوان شيء يقبل التعليم التام إلا الكلب شاذاً وأكثرها يأكل من الصيد ولذلك لم ير مالك ذلك من شروط التعليم . وأما الطير فقال ربيعة : ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري .

قال القاضي أبو محمد : لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي ، وقال أصحاب أبي حنيفة : إذا صار الكلب وأمسك ثلاث مرات ولاًء فقد حصل منه التعليم ، قال ابن المنذر : وكان النعمان لا يحد في ذلك عدداً ، وقال غيرهم : إذ فعل ذلك مرة واحدة فقد حصل معلماً وإذا كان الكلب تعليم يهودي أو نصراني فكره الصيد به الحسن البصري ، فأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وإسحاق بن راهويه ، ومالك رحمه الله والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم على إباحة الصيد بكلابهم إذا كان الصائد مسلماً قالوا : وذلك مثل شفرته ، وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك رحمه الله فإنه لم يجوز صيد اليهودي والنصراني وفرق بين ذلك وبين ذبيحته وتلا قول الله تعالى : { تناله أيديكم ورماحكم }{[4456]} قال فلم يذكر الله بهذا اليهود ولا النصارى ، وقال ابن وهب وأشهب : صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته ، وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابىء ولا ذبيحته وهم قوم بين اليهود والنصارى لا دين لهم وأما إن كان الصائد مجوسياً فمنع من أكل صيده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعطاء وابن جبير والنخعي والليث بن سعد وجمهور الناس ، وقال أبو ثور فيها قولين : أحدهما كقول هؤلاء ، والآخر أن المجوس أهل كتاب وأن صيدهم جائز ، وقرأ جمهور الناس «وما عَلمتم » بفتح العين واللام وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية «عُلِّمتم » بضم العين وكسر اللام أي أمر الجوارح والصيد بها ، و { الجوراح } الكواسر على ما تقدم ، وحكى ابن المنذر عن قوم أنهم قالوا { الجوارح } مأخوذ من الجارح أي الحيوان الذي له ناب وظفر أو مخلب يجرح به صيده .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف ، أهل اللغة على خلافه وقرأ جمهور الناس «مكَلّبين » بفتح الكاف وشد اللام ، والمكلب معلم الكلاب وُمضريها ، ويقال لمن يعلم غير كلب : مكلب لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب ، وقرأ الحسن وأبو زيد «مكْلبين » بسكون الكاف وتخفيف اللام ومعناه أصحاب كلاب يقال : أمشى الرجل كثرت ماشيته وأكلب كثرت كلابه ، وقال بعض المفسرين : المكلب بفتح الكاف وشد اللام صاحب الكلاب .

قال القاضي أبو محمد : وليس هذا بمحرر .

قوله عز وجل :

{ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

أي يعلمونهن من الحيلة في الاصطياد والتأني لتحصيل الحيوان وهذا جزء مما علمه الله الإنسان و «من » للتبعيض ، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية وأنث الضمير في { تعلمونهن } مراعاة للفظ { الجوارح } إذ هو جمع جارحة ، وقوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } يحتمل أن يريد مما أمسكن فلم يأكلن منه شيئاً . ويحتمل أن يريد مما «أمسكن » وإن أكلن بعض الصيد وبحسب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل منه الجارح وقد تقدم ذلك ، وقوله تعالى : { واذكروا اسم الله عليه } أمر بالتسمية عند الإرسال على الصيد ، وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد ، فقال بعض العلماء هذا الأمر على الوجوب ومتى ترك المرسل أو الذابح التسمية عمداً أو نسياناً لم تؤكل ، وممن رويت عنه كراهية ما لم يسم عليه الله نسيانا الشعبي ، نسياناً الشعبي وابن سيرين ونافع وأبو ثور ، ورأى بعض العلماء هذا الأمر بالتسمية على الندب وإلى ذلك ينحو أشهب في قوله إن ترك التسمية مستخفاً لم تؤكل وإن تركها عامداً لا يدري قدر ذلك لكنه غير متهاون بأمر الشريعة فإنها تؤكل ومذهب مالك وجمهور أهل العلم : أن التسمية واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان فمن تركها عامداً فقد أفسد الذبيحة والصيد ومن تركها ناسياً سمى عند الأكل وكانت الذبيحة جائزة ، واستحب أكثر أهل العلم أن لا يذكر في التسمية غير الله تعالى وأن لفظها بسم الله والله كبر ، وقال قوم : إن صلى مع ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فجائز ، ثم أمر تعالى بالتقوى على الجملة والإشارة الغريبة هي إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر وسرعة الحساب هي من أنه تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء علماً فلا يحتاج إلى محاولة عد ويحاسب جميع الخلائق دفعة واحدة ، وتحتمل الآية أن تكون وعيداً بيوم القيامة كأنه قال إن حساب الله لكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب ، ويحتمل أن يريد ب { الحساب } المجازاة فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتق الله .


[4452]:- أخرجه مع اختلاف مع الألفاظ الفريابي، وابن المنذر، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن أبي رافع، وأخرج ابن جرير عن عكرمة دخول عاصم بن عدي ورفيقه على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤالهم.
[4453]:- أشلى الكلب على الصيد أغراه. واستشلى الكلب بمعنى أشلاه. (المعجم الوسيط)
[4454]:- من الآية (60) (من سورة الأنعام)
[4455]:- أخرجه ابن جرير عن عدي بن حاتم. وهذا الحديث في البزاة، ولكن أخرج البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله، فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك، قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره. (الدر المنثور).
[4456]:- من الآية (94) من سورة (المائدة).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } .

إن كان الناس قد سألوا عمّا أحِلّ لهم من المطعومات بعد أن سمعوا ما حرّم عليهم في الآية السابقة ، أو قبل أن يسمعوا ذلك ، وأريد جوابهم عن سؤالهم الآن ، فالمضارع مستعمل للدلالة على تجدّد السؤال ، أي تكرّره أو توقّع تكرّره . وعليه فوجه فصل جملة { يسألونك } أنّها استئناف بيانيّ ناشىء عن جملة { حرّمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] وقوله : { فمن اضطرّ في مخمصة } [ المائدة : 3 ] ؛ أو هي استئناف ابتدائي : للانتقال من بيان المحرّمات إلى بيان الحلال بالذات ، وإن كان السؤال لم يقع ، وإنَّما قصد به توقّع السؤال ، كأنَّه قيل : إن سَألوكَ ، فالإتيان بالمضارع بمعنى الاستقبال لتوقّع أن يسأل الناس عن ضبط الحلال ، لأنَّه ممّا تتوجَّه النفوس إلى الإحاطة به ، وإلى معرفة ما عسى أن يكون قد حرّم عليهم من غير ما عُدّد لهم في الآيات السابقة ، وقد بيّنّا في مواضع ممّا تقدّم ، منها قوله تعالى : { يسألونك عن الأهلّة } في سورة البقرة ( 189 ) : أنّ صيغة { يسألونك } في القرآن تحتمل الأمرين . فعلى الوجه الأوّل يكون الجواب قد حصل ببيان المحرّمات أوّلاً ثم ببيان الحلال ، أو ببيان الحلال فقط ، إذا كان بيان المحرّمات سابقاً على السؤال ، وعلى الوجه الثاني قد قصد الاهتمام ببيان الحلال بوجه جامع ، فعنون الاهتمام به بإيراده بصيغة السؤال المناسب لتقدّم ذكره .

و { الطيّبات } صفة لمحذوف معلوم من السياق ، أي الأطعمة الطيّبة ، وهي الموصوفة بالطيِّب ، أي التي طابت . وأصل معنى الطيب معنى الطّهارة والزكاء والوقع الحسن في النفس عاجلاً وآجلاً ، فالشيء المستلذّ إذا كان وخِماً لا يسمّى طيِّباً : لأنّه يعقب ألماً أو ضُرّاً ، ولذلك كان طيّب كلّ شيء أن يكون من أحسن نوعه وأنفعه . وقد أطلق الطيِّب على المباح شرعاً ؛ لأنّ إباحة الشرع الشيء علامة على حسنه وسلامته من المضرّة ، قال تعالى : { كلوا ممَّا في الأرض حلالاً طيّباً } [ البقرة : 168 ] . والمراد بالطيّبات في قوله : { أحل لكم الطيبات } معناها اللغوي ليصحّ إسناد فعل { أحِلّ } إليها . وقد تقدّم شيء من معنى الطيّب عند قوله تعالى : { يأيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّباً } في سورة البقرة ( 168 ) ، ويجيء شيء منه عند قوله تعالى : { والبلد الطيّب } في سورة الأعراف ( 58 ) .

و{ الطيّبات } وصف للأطعمة قُرِن به حكم التحليل ، فدلّ على أنّ الطِّيبَ علّة التحليل ، وأفاد أنّ الحرام ضدّه وهو الخبائث ، كما قال في آية الأعراف ، في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم { ويحلّ لهم الطيّباتِ ويحرّم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] .

وقد اختلفت أقوال السلف في ضبط وصف الطيّبات ؛ فعن مالك : الطيّبات الحلال ، ويتعيّن أن يكون مراده أنّ الحلّ هو المؤذن بتحقّق وصف الطيِّب في الطعام المباح ، لأنّ الوصف الطيّب قد يخفى ، فأخذ مالك بعلامته وهي الحلّ كيلا يكون قوله : { الطيّبات } حوالة على ما لا ينضبط بين الناس مثل الاستلذاذ ، فيتَعيّن ، إذن ، أن يكون قوله : { أحل لكم الطيبات } غيْر مراد منه ضبط الحلال ، بل أريد به الامتنان والإعلام بأنّ ما أحلّه الله لهم فهو طيّب ، إبطالاً لِما اعتقدوه في زمن الشرك : من تحريم ما لا موجب لتحريمه ، وتحليل ما هو خبيث .

ويدلّ لذلك تكرّر ذكر الطيّبات مع ذكر الحلال في القرآن ، مثل قوله : { اليومَ أحلّ لكم الطيّبات } [ المائدة : 5 ] وقولِه في الأعراف ( 157 ) : { ويُحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث } وعن الشافعي : الطيّبات : الحلال المستلذّ ، فكلّ مستقذر كالوزغ فهو من الخبائث حرام . قال فخر الدين : العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة ، فإنّ أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات ، وتتأكّد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] فهذا يقتضي التمكّن من الانتفاع بكل ما في الأرض ، إلاُّ أنّه دخله التخصيص بحرمة الخبائث ، فصار هذا أصلاً كبيراً في معرفة ما يحلّ ويحرم من الأطعمة . منها أنّ لحم الخيل مباح عند الشافعي . وقال أبو حنيفة : ليس بمباح . حجّة الشافعي أنّه مستلذّ مستطاب ، والعلم بذلك ضروري ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالاً ، لقوله تعالى : { أحل لكم الطيبات } . وفي « شرح الهداية » في الفقه الحنفي لمحمد الكاكي « أنّ ما استطابه العرب حلال ، لقوله تعالى : { ويحلّ لهم الطيّبات } [ الأعراف : 157 ] ، وما استخبثه العرب حرام ، لقوله : { ويحرّم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] . والذين تعتبر استطابتهم أهل الحجاز من أهل الأمصار ، لأنّ القرآن أنزل عليهم وخوطبوا به ، ولم يُعتبر أهل البوادي لأنّهم يأكلون ما يجدون للضرورة والمجاعة . وما يوجد في أمصار المسلمين ممّا لا يعرفه أهل الحجاز رُدّ إلى أقرب مَا يشبهه في الحجاز اهـ . وفيه من التحكّم في تحكيم عوائد بعض الأمّة دون بعض ما لا يناسب التشريع العامّ ، وقد استقذر أهل الحجاز لحم الضبّ بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث خالد بن الوليد : « ليس هو من أرض قومي فأجدني أعافه » ومع ذلك لم يحرّمه على خالد .

والذي يظهر لي : أنّ الله قد ناط إباحة الأطعمة بوصف الطيّب فلا جرم أن يكون ذلك منظوراً فيه إلى ذات الطعام ، وهو أن يكون غير ضارّ ولا مستقذر ولا مناف للدين ، وأمارة اجتماع هذه الأوصاف أن لا يحرّمه الدّين ، وأن يكون مقبولاً عند جمهور المُعتدلين من البشر ، من كلّ ما يعدّه البشر طعاماً غير مستقذر ، بقطع النظر عن العوائد والمألوفات ، وعن الطبائع المنحرفات ، ونحن نجد أصناف البشر يتناول بعضهم بعض المأكولات من حيوان ونبات ، ويترك بعضهم ذلك البعض . فمن العرب من يأكل الضبّ واليربوع والقنافذ ، ومنهم من لا يأكلها . ومن الأمم من يأكل الضفادع والسلاحف والزواحف ومنهم من يتقذّر ذلك . وأهل مدينة تونس يأبون أكل لحم أنثى الضأن ولحم المعز ، وأهل جزيرة شريك يستجيدون لحم المعز ، وفي أهل الصحاري تُستجاد لحوم الإبل وألبانُها ، وفي أهل الحضر من يكره ذلك ، وكذلك دوابّ البحر وسلاحفه وحيّاته .

والشريعة من ذلك كلّه فلا يقضي فيها طبعُ فريق على فريق . وَالمحرّمات فيها من الطعوم ما يضرّ تناوله بالبدن أو العقل كالسموم والخمور والمخدّرات كالأفيون والحشيشة المخدّرة ، وما هو نجسَ الذات بحكم الشرع ، وما هو مستقذر كالنخامة وذرق الطيوب وأرواث النعام ، وما عدا ذلك لا تجد فيه ضابطاً للتحريم إلاّ المحرّمات بأعيانها وما عداها فهو في قسم الحلال لمن شاء تناوله . والقول بأنّ بعضها حلال دون بعض بدون نصّ ولا قياس هو من القول على الله بما لا يعلمه القائل ، فما الذي سوّغ الظبي وحرّم الأرنب ، وما الذي سوّغ السمكة وحرّم حيّة البحر ، وما الذي سوّغ الجَمَل وحرّم الفرس ، وما الذي سوّغ الضبّ والقنفذ وحرّم السلحفاة ، وما الذي أحلّ الجراد وحرّم الحلزون ، إلاّ أن يكون له نصّ صحيح ، أو نظر رَجيح ، وما سوى ذلك فهو ريح . وغرضنا من هذا تنوير البصائر إذا اعترى التردّد لأهل النظر في إناطة حظر أو إباحة بما لا نصّ فيه أو في مواقع المتشابهات .

{ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .

يجوز أن يكون عطفاً على { الطيّبات } عطف المفرد ، على نيّة مضاف محذوف ، والتقدير : وصيد ما علّمتم من الجوارح ، يدلّ عليه قوله : { فكلوا مما أمسكن عليكم } . فما موصولة وفاء { فكلوا } للتفريع . ويجوز أن يكون عطف جملة على جملة ، وتكون ( ما ) شرطية وجواب الشرط { فكلوا ممّا أمسكن } .

وخُصّ بالبيان من بين الطيّبات لأنّ طيبه قد يخفى من جهة خفاء معنى الذكاة في جرح الصيد ، لا سيما صيد الجوارح ، وهو محلّ التنبيه هنا الخاصّ بصيد الجوارح . وسيُذكر صيد الرماح والقنص في قوله تعالى : { ليبلونّكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } [ المائدة : 94 ] والمعنى : وما أمسك عليكم ما علّمتم بقرينة قوله بعدُ { فكلوا مما أمسكن عليكم } لظهور أن ليس المراد إباحة أكل الكلاب والطيور المعلّمة .

والجوارح : جمع الجارح ، أو الجارحة ، جرى على صيغة جمع فاعلة ، لأنّ الدوابّ مراعى فيها تأنيث جمعها ، كما قالت العرب للسباع : الكواسب ، قال لبيد :

غُبْس كواسِبُ ما يُمَنّ طعامها

ولذلك تُجمعَ جمعَ التأنيث ، كما سيأتي { فكلوا ممّا أمسكن عليكم } .

{ ومكلِّبين } حال من ضمير { علّمتم } مبيّنة لنوع التعليم وهو تعليم المكلِّب ، والمكلِّب بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل مُعلّم الكلاب ، يقال : مكلِّب ، ويقال : كَلاَّب .

ف { مكلِّبين } وصف مشتقّ من الاسم الجامد اشتقّ من اسم الكلب جرياً على الغالب في صيد الجوارح ، ولذلك فوقوعه حالاً من ضمير { علّمتم } ليس مخصّصاً للعموم الذي أفاده قوله : { وما علّمتم } فهذا العموم يشمل غير الكلاب من فُهود وبُزَاة .

وخالف في ذلك ابن عمر ، حكى عنه ابنُ المنذر أنّه قصر إباحة أكل ما قتله الجارح على صيد الكلاب لقوله تعالى : { مكلّبين } قال : فأمّا ما يصاد به من البزاةِ وغيرها من الطير فما أدركتَ ذكاته فذكِّه فهو لك حلال وإلاّ فلا تَطْعَمْه . وهذا أيضاً قول الضحّاك والسُدّي .

فأمَّا الكلاب فلا خلاف في إباحة عموم صيد المعلَّمات منها ، إلاّ ما شذّ من قول الحسن وقتادة والنخعي بكراهة صيد الكلب الأسود البهيم ، أي عامّ السواد ، محتجّين بقول النبي صلى الله عليه وسلم " الكلب الأسود شيطان " أخرجه مسلم ، وهو احتجاج ضعيف ، مع أنّ النبي عليه السلام سمّاه كلباً ، وهل يشكّ أحد أنّ معنى كونه شيطاناً أنَّه مظنّة للعقر وسوء الطبع . على أنّ مورد الحديث في أنَّه يقطع الصلاة إذا مرّ بين يدي المصلّي . على أنّ ذلك متأوّل . وعن أحمد بن حنبل : ما أعرف أحداً يرخّص فيه ( أي في أكل صيده ) إذا كان بهيماً ، وبه قال إسحاق بن راهويه ، وكيف يصْنع بجمهور الفقهاء .

وقوله : { تعلمونهن مما علمكم الله } حال ثانية ، قصد بها الامتنان والعبرة والمواهب التي أودعها الله في الإنسان ، إذ جعله معلَّماً بالجبلّة من يومَ قال : { يا آدم أنبئهم بأسمائهم } [ البقرة : 33 ] ، والمواهب التي أودعها الله في بعض الحيوان ، إذ جعله قابلاً للتعلّم . فباعتبار كون مفاد هذه الحال هو مفاد عاملها تتنزّل منزلة الحال المؤكّدة ، وباعتبار كونها تضمّنت معنى الامتنان فهي مؤسّسة . قال صاحب « الكشاف » « وفي تكرير الحال فائدةُ أنّ على كلّ آخذ عِلماً أن لا يأخذه إلاّ من أقْتَلِ أهلِه علماً وأنْحَرِهم دِراية وأغوصِهِم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكبادَ الإبل ، فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيّع أيّامه وعَضّ عند لقاء النَّحارير أنامله » . اهـ .

والفاء في قوله : « فكلوا ممّا أمسكن عليكم » فاء الفصيحة في قوله : { وما علّمتم من الجوارح } إن جعلت ( ما ) من قوله { وما علّمتم } موصولة ، فإن جعلتها شرطية فالفاء رابطة للجواب .

وحرف ( من ) في قوله { ممّا أمسكن عليكم } للتبعيض ، وهذا تبعيض شائع الاستعمال في كلام العرب عند ذكر المتناوَلات ، كقوله : « كلوا من ثمره » . وليس المقصود النهي عن أكل جميع ما يصيده الصائد ، ولا أنّ ذلك احتراس عن أكل الريش ، والعظم ، والجلد ، والقرون ؛ لأنّ ذلك كلّه لا يتوهّمه السامع حتّى يحترس منه .

وحرف ( على ) في قوله { ممّا أمسكن عليكم } بمعنى لام التعليل ، كما تقول : سجن على الاعتداء ، وضُرب الصبيّ على الكذب ، وقول علقمة بن شيبان :

ونُطاعن الأعداءَ عن أبنائنا *** وعَلَى بصائرنا وإن لم نُبْصِر

أي نطاعن على حقائقنا : أي لحماية الحقيقة ، ومن هذا الباب قوله تعالى : { أمسك عليك زوجك } [ الأحزاب : 37 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم { أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك } .

ومعنى الآية إباحة أكل ما صاده الجوارح : من كلاب ، وفهود ، وسباع طير : كالبزاة ، والصقور ، إذا كانت معلّمة وأمسكت بعد إرسال الصائد . وهذا مقدار اتّفق علماء الأمّة عليه وإنَّما اختلفُوا في تحقّق هذه القيود .

فأمَّا شرط التعليم فاتّفقوا على أنّه إذا أُشلي ، فانْشلى ، فاشتدّ وراء الصيد ، وإذا دُعي فأقبل ، وإذا زجر فانزجر ، وإذا جاء بالصيد إلى ربّه ، أنّ هذا معلّم . وهذا على مراتب التعلّم . ويكتفي في سباع الطير بما دون ذلك : فيكتفي فيها بأن تؤمر فتطيع . وصفاتُ التعليم راجعة إلى عرف أهل الصيد ، وأنَّه صار له معرفة ، وبذلك قال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي : ولا حاجة إلى ضبط ذلك بمرّتيْن أو ثلاث ، خلافاً لأحمد ، وأبي يوسف ، ومحمد .

وأمّا شرط الإمساك لأجل الصائد : فهو يعرف بإمساكها الصيد بعد إشلاء الصائد إيّاها ، وهو الإرسال من يده إذا كان مشدوداً ، أو أمرُه إيّاها بلفظ اعتدات أن تفهم منه الأمر كقوله : « هذا لَكِ » لأنّ الإرسال يقوم مقام نية الذكاة . ثم الجارح ما دام في استرساله معتبر حتّى يرجع إلى ربّه بالصيد . واختلفوا في أكل الجارح من الصيد قبل الإتيان به إلى ربّه هل يبطل حكم الإمساك على ربّه : فقال جماعة من الصحابة والتابعين : إذا أكل الجارح من الصيد لم تؤكل البقية ؛ لأنّه إنَّما أمسك على نفسه ، لا على ربّه . وفي هذا المعنى حديث عديّ بن حاتم في الصحيح : أنَّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلب ، فقال : " وإذا أكَل فلا تأكل فإنَّما أمسك على نفسه " وبه أخذ الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وإسحاق . وقال جماعة من الصحابة : إذا أكل الجارح لم يضرّ أكله ، ويؤكل ما بقي . وهو قول مالك وأصحابه : لحديث أبي ثَعْلبة الخُشَني ، في « كتاب أبي داوود » : أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « وإن أكل منه » . ورام بعض أصحابنا أن يحتجّ لهذا بقوله تعالى : { ممّا أمسكن عليكم } حيث جاء بمن المفيدة للتبعيض ، المؤذنة بأنّه يؤكل إذا بَقي بعضه ، وهو دليل واه فقد ذكرنا آنفاً أنَّ ( مِن ) تدخل على الاسم في مِثل هذا وليس المقصود التَّبعيض ، والكلب أو الجارح ، إذا أشلاه القنّاص فانشلى ، وجاء بالصيد إلى ربّه . فهو قد أمسكه عليه وإن كان قد أكل منه ، فقد يأكل لفرط جوع أو نسيان . ونحا بعضهم في هذا إلى تحقيق أنّ أكل الجارح من الصيد هل يقدح في تعليمه ، والصواب أنّ ذلك لا يقدح في تعليمه ، إذا كانت أفعاله جارية على وفق أفعال الصيد ، وإنما هذا من الفلتة أو من التهوّر . ومَال جماعة إلى الترخيص في ذلك في سباع الطير خاصّة ، لأنّها لا تفقه من التعليم مَا يَفقه الكلب ، وروي هذا عن ابن عباس ، وحمّاد ، والنخعي ، وأبي حنيفة ، وأبي ثور .

وقد نشأ عن شرط تحقّق إمساكه على صاحبه مسألة لو أمسك الكلب أو الجارح صيداً لم يره صاحبه وتركه ورجع دونه ، ثم وجد الصائد بعد ذلك صيداً في الجهة التي كان يجوسها الجارح أو عرف أثر كلبه فيه ؛ فعن مالك : لا يؤكل ، وعن بعض أصحابه : يؤكل . وأمَّا إذا وجد الصائد سهمه في مقاتل الصيد فإنَّه يؤكل لا محالة .

وأحسب أنّ قوله تعالى : { مما أمسكن عليكم } احتراز عن أن يجد أحد صيداً لم يصده هو ، ولا رأى الجارح حين أمسكه ، لأنّ ذلك قد يكون موته على غير المعتاد فلا يكون ذكاة ، وأنَّه لا يحرم على من لم يتصدّ للصيد أن يأكل صيداً رأى كلب غيره حين صاده إذا لم يجد الصائد قريباً ، أو ابْتاعه من صائده ، أو استعطاه إيَّاه .

وقوله : { واذكروا اسم الله عليه } أمر بذكر الله على الصيد ، ومعناه أن يذكره عند الإرسال لأنه قد يموت بجرح الجارح ، وأمَّا إذا أمسكه حيّاً فقد تعيّن ذبحه فيذكر اسم الله عليه حينئذٍ . ولقد أبدع إيجازُ كلمة « عليه » ليشمل الحالتين . وحكمُ نسيان التسمية وتعمّد تركها معلوم من كتب الفقه والخلاف ، والدينُ يسر .

وقد اختلف الفقهاء : في أنّ الصيد رخصة ، أو صفة من صفات الذكاة . فالجمهور ألحقوه بالذكاة ، وهو الراجح ، ولذلك أجازوا أكل صيد الكتابي دون المَجوسي . وقال مالك : هو رخصَة للمسلمين فلا يؤكل صيد الكتابيّ ولا المجوسي ولا قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لَيَبْلُوَنَّكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } [ المائدة : 94 ] . وهو دليل ضعيف : لأنَّه وارد في غير بيان الصيد ، ولكن في حُرمة الحَرم . وخالفه أشهب ، وابن وهب ، من أصحابه . ولا خلاف في عدم أكل صيد المجوسي إلاّ رواية عن أبي ثور إذ ألحقهم بأهل الكتاب فهو اختلاف في الأصل لا في الفرع .

وقوله : { واتَّقوا الله } الآية تذييل عامّ ختمت به آية الصيد ، وهو عامّ المناسبة .