الجوارح : الكواسب من سباع البهائم والطير ، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين .
وسميت بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالباً ، أو لأنها تكتسب ، يقال امرأة : لا جارح لها ، أي لا كاسب .
ومنه : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } أي ما كسبتم .
ويقال : جرح واجترح بمعنى اكتسب .
المكلب بالتشديد : معلم الكلاب ومضرّيها على الصيد ، وبالتخفيف صاحب كلاب .
وقال الزجاج : رجل مكلب ومكلب وكلاب صاحب كلاب .
{ يسألونك ماذا أحل لهم } سبب نزولها فيما قال : عكرمة ومحمد بن كعب ، سؤال عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة .
ماذا يحل لنا من هذه الكلاب ؟ وكان إذ ذاك أمر الرسول بقتلها فقتلت حتى بلغت العواصم لقول جبريل عليه السلام : »إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب« وفي صحيح أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى أبي رافع .
قال : »أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب« ، فقال الناس : يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فأنزل الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم الآيات .
وقال ابن جبير : نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل قالا : يا رسول الله ، إنا نصيد بالكلاب والبزاة ، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية لتأخذ البقر والحمروالظباء والضب ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت .
وعلى اعتبار السبب يكون الجواب أكثر مما وقع السؤال عنه ، لأنهم سألوا عن شيء خاص من المطعم ، فأجيبوا بما سألوا عنه ، وبشيء عام في المطعم .
ويحتمل أن يكون ماذا كلها استفهاماً ، والجملة خبر .
ويحتمل أن يكون ما استفهاماً ، وذا خبراً .
أي : ما الذي أحل لهم ؟ والجملة إذ ذاك صلة .
والظاهر أنّ المعنى : ماذا أحل لهم من المطاعم ، لأنه لما ذكر ما حرم من الميتة وما عطف عليه من الخبائث ، سألوا عما يحل لهم ؟ ولما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب .
ويجوز في الكلام ماذا أحل لنا ، كما تقول : أقسم زيد ليضربن ولأضربن ، وضمير التكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها .
وقال الزمخشري : في السؤال معنى القول ، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم ، كأنه قيل : يقولون : ماذا أحل لهم انتهى .
ولا يحتاج إلى ما ذكر ، لأنه من باب التعليق كقوله : سلهم أيهم بذلك زعيم ، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك .
ونصّوا على أنّ فعل السؤال يعلق ، وإن لم يكن من أفعال القلوب ، لأنه سبب للعلم ، فكما تعلق العلم فكذلك سببه .
وقال أبو عبد الله الرازي : لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا : ماذا أحل لهم ومعلوم أن ذلك باطل ، لأنهم لا يقولون ذلك ، وإنما يقولون : ماذا أحل لنا .
بل الصحيح : أنّ هذا ليس حكاية كلامهم بعبارتهم ، بل هو بيان كيفية الواقعة انتهى .
{ قل أحل لكم الطيبات } لما كانت العرب تحرم أشياء من الطيبات كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، بغير إذن من الله تعالى ، قرر هنا أنّ الذي أحل هي الطيبات .
ويقوي قول الشافعي : أن المعنى المستلذات ، ويضعف أن المعنى : قل أحل لكم المحللات ، ويدل عليه قوله : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } كالخنافس والوزع وغيرهما .
والطيب في لسان العرب يستعمل للحلال وللمستلذ ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة .
والمعتبر في الاستلذاذ والاستطابة أهل المروءة والأخلاق الجميلة ، كان بعض الناس يستطيب أكل جميع الحيوانات .
وهذه الجملة جاءت فعلية ، فهي جواب لما سألوا عنه في المعنى لا على اللفظ ، لأن الجملة السابقة وهي : ماذا أحل لهم اسمية ، وهذه فعلية .
{ وما علمتم من الجوارح مكلبين } ظاهر علمتم يخالف ظاهر استئناف مكلبين ، فغلّب الضحاك والسدي وابن جبير وعطاء ظاهر لفظ مكلبين فقالوا : الجوارح هي الكلاب خاصة .
وكان ابن عمر يقول : إنما يصطاد بالكلاب .
وقال هو وأبو جعفر : ما صيد بغيرها من باز وصقر ونحوهما فلا يحل ، إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه .
وجوز قوم البزاة ، فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم .
وغلب الجمهور ظاهر : وما علمتم ، وقالوا : معنى مكلبين مؤدبين ومضرين ومعودين ، وعمموا الجوارح في كواسر البهائم والطير مما يقبل التعليم .
وأقصى غاية التعليم أنْ يشلي فيستشلي ، ويدعى فيجيب ، ويزجر بعد الظفر فينزجر ، ويمتنع من أن يأكل من الصيد .
وفائدة هذه الحال وإن كانت مؤكدة لقوله : علمتم ، فكان يستغنى عنها أن يكون المعلم مؤتمراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به ، واشتقت هذه الحال من الكلب وإن كانت جاءت غاية في الجوارح على سبيل التغليب ، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ، فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه .
قال أبو سليمان الدمشقي : وإنما قيل مكلبين ، لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب انتهى .
واشتقت من الكلب وهي الضراوة يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به .
قال الزمخشري : أو لأن السبع يسمى كلباً ، ومنه قوله عليه السلام : « اللهم سلط عليه كلباً من كلابك » فأكله الأسد ، ولا يصح هذا الاشتقاق ، لأنّ كون الأسد كلباً هو وصف فيه ، والتكليب من صفة المعلم ، والجوارح هي سباع بنفسها لا بجعل المعلم .
وظاهر قوله : وما علمتم ، أنه خطاب للمؤمنين .
فلو كان المعلم يهودياً أو نصرانياً فكره الصيد به الحسن ، أو مجوسياً فكره الصيد به : جابر بن عبد الله ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، والنخعي ، والثوري ، وإسحاق .
وأجاز أكل صيد كلابهم : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي إذا كان الصائد مسلماً .
والجمهور : على جواز ما صاد الكتابي .
وقال مالك : لا يجوز فرق بين صيده وذبيحته .
وما صاد المجوسي فالجمهور على منع أكله : عطاء ، وابن جبير ، والنخعي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والليث ، والشافعي .
وقال أبو ثور : فيه قول أنهم أهل كتاب ، وأن صيدهم جائز ، وما علمتم موضع ما رفع على أنه معطوف على الطيبات ، ويكون حذف مضاف أي : وصيد ما علمتم ، وقدره بعضهم : واتخاذ ما علمتم .
أو رفع على الابتداء ، وما شرطية ، والجواب : فكلوا .
وهذا أجود ، لأنه لا إضمار فيه .
وقرأ ابن عباس وابن الحنفية : وما عُلمتم مبنياً للمفعول أي : من أمر الجوارح والصيد بها .
وقرأ : مكلبين من أكلب ، وفعل وأفعل ، قد يشتركان .
والظاهر دخول الكلب الأسود البهيم في عموم الجوارح ، وأنه يجوز أكل صيده ، وبه قال الجمهور .
ومذهب أحمد وجماعة من أهل الظاهر : أنه لا يجوز أكل صيده ، لأنه مأمور بقتله ، وما أوجب الشرع قتله فلا يجوز أكل صيده .
وقال أحمد : لا أعلم أحداً رخص فيه إذا كان بهيماً وبه قال : ابن راهويه .
وكره الصيد به : الحسن ، وقتادة ، والنخعي .
وقد تقدم ذكر أقصى غاية التعليم في الكلب ، أنه إذا أمر ائتمر ، وإذا زجر انزجر .
وزاد قوم شرطاً آخر وهو أن لا يأكل مما صاد ، فأما سباع الطير فلا يشترط فيها الأكل عند الجمهور .
وقال ربيعة : ما أجاب منها فهو المعلم .
وقال ابن حبيب : لا يشترط فيها إلا شرط واحد : وهو أنه إذا أمرها أطاعت ، فإن انزجارها إذا زجرت لا يتأتى فيها .
وظاهر قوله : وما علمتم ، حصول التعليم من غير اعتبار عدد .
وكان أبو حنيفة لا يجد في ذلك عدداً .
وقال أصحابنا : إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات فقد حصل له التعليم .
وقال غيرهم : إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد صار معلماً .
{ تعلمونهنّ مما علمكم الله } أي : إنّ تعليمكم إياهنّ ليس من قبل أنفسكم ، إنما هو من العلم الذي علمكم الله ، وهو أن جعل لكم روية وفكراً بحيث قبلتم العلم .
فكذلك الجوارح بصبر لها إدراك مّا وشعور ، بحيث يقبلن الائتمار والانزجار .
وفي قوله : مما علمكم الله ، إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه ، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان .
ومفعول علم وتعلمونهنّ الثاني محذوف تقديره : وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهنّ تعلمونهنّ ذلك ، وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام أكله ، لأنّ الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم .
والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله : فكلوا مما أمسكن عليكم ، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه .
ومعنى مما علمكم الله أي : من الأدب الذي أدّبكم به تعالى ، وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه ، فإذا أمر فائتمر ، وإذا زجر فانزجر ، فقد تعلم مما علمنا الله تعالى .
وقال الزمخشري : مما علمكم الله من كلم التكليف ، لأنه إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل انتهى .
والجملة من قوله : تعلمونهن ، حال ثانية .
ويجوز أن تكون مستأنفة على تقدير : أن لا تكون ما من قوله : وما علمتم من الجوارح ، شرطية ، إلا إن كانت اعتراضاً بين الشرط وجزائه .
وخطب الزمخشري هنا فقال : وفيه فائدة جليلة وهي أنّ كل آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من قبل أهله علماً وأبحرهم دراية ، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، واحتاج إلى أن تضرب إليه أكباد الإبل ، فكم من أخذ من غير متقن فقد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله .
{ فكلوا مما أمسكن عليكم } هذا أمر إباحة .
ومِن هنا للتبعيض والمعنى : كلوا من الصيد الذي أمسكن عليكم .
ومن ذهب إلى أن مِن زائدة فقوله ضعيف ، وظاهره أنه إذا أمسك على مرسله جاز الأكل سواء أكل الجارح منه ، أو لم يأكل ، وبه قال : سعد بن أبي وقاص ، وسلمان الفارسي ، وأبو هريرة ، وابن عمر .
ولو بقيت بضعة بعد أكله جاز أكلها ومن حجتهم : أنّ قتله هي ذكاته ، فلا يحرم ما ذكى .
وقال أبو هريرة أيضاً وابن جبير ، وعطاء ، وقتادة ، وعكرمة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : لا يؤكل ما بقي من أكل الكلب ولا غيره ، لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على مرسله .
ولأنّ في حديث عديّ »وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه« وعن عليّ : »إذا أكل البازي فلا تأكل« وفرق قوم ما أكل منه الكلب فمنعوا من أكله ، وبين ما أكل منه البازي ، فرخصوا في أكله منهم : ابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وأبو جعفر محمد بن عليّ الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، لأنّ الكلب إذا ضرب انتهى ، والبازي لا يضرب .
والظاهر أنّ الجارح إذا شرب من الدم أكل الصيد ، وكره ذلك سفيان الثوري .
والظاهر أنه إذا انفلت من صاحبه فصاد من غير إرسال أنه لا يجوز أكل ما صاد .
وقال عليّ ، والأوزاعي : إن كان أخرجه صاحبه للصيد جاز أكل ما صاد .
وممن منع من أكله إذا صاد من غير إرسال صاحبه : ربيعة ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور .
والظاهر جواز أكل ما قتله الكلب بفمه من غير جرح لعموم مما أمسكن .
وقال بعضهم : لا يجوز لأنه ميت .
{ واذكروا اسم الله عليه } الظاهر عود الضمير في عليه إلى المصدر المفهوم من قوله : فكلوا ، أي على الأكل .
وفي الحديث في صحيح مسلم " سم الله وكل مما يليك " وقيل : يعود على ما أمسكن ، على معنى : وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته ، وهذا فيه بعد .
وقيل : على ما علمتم من الجوارح أي : سموا عليه عند إرساله لقوله : »إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل« واختلفوا في التسمية عند الإرسال : أهي على الوجوب ؟ أو على الندب ؟ والمستحب أن يكون لفظها بسم الله والله أكبر .
وقول من زعم : إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وإنّ الأصل : فاذكروا اسم الله عليه وكلوا مما أمسكن عليكم ، قول مرغوب عنه لضعفه .
{ واتقوا الله إن الله سريع الحساب } لما تقدم ذكر ما حرَّم وأحلَّ من المطاعم أمر بالتقوى ، فإنّ التقوى بها يمسك الإنسان عن الحرام .
وعلل الأمر بالتقوى بأنه تعالى سريع الحساب لمن خالف ما أمر به من تقواه ، فهو وعيد بيوم القيامة ، وأن حسابه تعالى إياكم سريع إتيانه ، إذ يوم القيامة قريب .
أو يراد بالحساب المجازاة ، فتوعد مَن لم يتق بمجازاة سريعة قريبة ، أو لكونه تعالى محيطاً بكل شيء لا يحتاج في الحساب إلى مجادلة عدّ ، بل يحاسب الخلائق دفعة واحدة .