التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

وبعد أن بين - سبحانه - أنواعاً من : المحرمات . شرع في بيان ما أحله لهم من طيبات فقال - تعالى -

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات . . . }

أورد المفسرين في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين أنهما سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ، قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت هذه الآية .

والمعنى : يسألك أصحابك يا محمد ما الذي أحل لهم من المطاعم بعد أن عرفوا ما حرم منها ؟ قل لهم أحل لكم الطيبات .

والطيبات : جمع طيب وهو الشيء المستلذ . وفسره بعضهم بالحلال .

أي : قل لهم أحل الله لكم الأطعمة الطيبة التي تستلذها النفوس المستقيمة وتستطيبها ولا تستقذرها ، والتي لم يرد في الشرع ما يحرمها ويمنع من تناولها .

وفي قوله { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ } التفاوت من الحاضر إلى الغائب ، لأن في السياق حكاية عنهم كما يقال : أقسم فلان ليفعلن كذا ، لأن هذا الالتفات أدعى إلى تنبيه الأذهان ، وتوجيهها إلى ما يراد منها .

وقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتولى الجواب عن سؤالهم لأنه هو المبلغ للرسالة وهو المبين لهم ما خفى عليهم من أمور دينهم ودنياهم .

وقوله { مَاذَآ } اسم استفهام مبتدأ ، وقوله { أُحِلَّ لَكُمُ } خبره كقولك : أي شيء أحل لهم .

وجواب سؤالهم جاء في قوله تعالى : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } .

وقوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِين } معطوف على الطيبات بتقدير مضاف و { ما } موصولة . والعائد محذوف .

و { الجوارح } جمع جارحه . وهي - كما يقال ابن جرير - الكواسب من سباع البهائم والطير . سميت جوارح لجرحها لأربابها ، وكسبها إياهم أوقاتهم من الصيد . يقال منه : جرح فلان لأهله خيراً . إذا أكسبهم خيراً وفلان جارحه أهله . يعني بذلك : كاسبهم ، ويقال : لا جارحة لفلانه إذا لم يكن لها كاسب " .

ومنه قوله - تعالى - { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } أي : كسبتم بالنهار . وقيل : سميت جوارح لأنها تجرح الصيد عند إمساكه .

وقوله : { مُكَلِّبِين } أي : مؤدبين ومعودين لها على الصيد . فالتكليب : تعليم الكلاب وما يشبهها الصيد . فهو اسم فاعل مشتق من اسم هذا الحيوان المعروف لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب . أو هو مشتق من الكلب بمعنى الضراوة . يقال : كلب الكلب يكلب واستكلب أي : ضرى وتعود نهش غيره وهو حال من فاعل علمتم .

والمعنى : أحل الله لكم الطيبات ، وأهل لكم صيد ما علمتموه من الجوارح حال كونكم مؤدبين ومعودين لها على الصيد .

وقوله : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله } في محل نصب على أنه حال ثانية من فاعل { عَلَّمْتُمْ } أو من الضمير المستتر في { مُكَلِّبِينَ } .

أي : تعلمون هذه الجوارح بعض ما علمكم الله إياه من فنون العلم والمعرفة بأن تدربوهن على وسائل التحاليل وعلى الطرق المتنوعة للاصطياد وعلى الانقياد لأمركم عند الإِرسال وعند الطلب ، وعلى عدم الأكل من المصيد بعد صيده .

فالمقصود بهذه الجملة الكريمة بيان بعض مظاهر فضل الله على الناس ، حيث منحهم العلم الذي عن طريقه علموا غيرهم ما يريدونه منه ، وسخروا هذا الغير لمنفعتهم ومصلحتهم .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح } عطف على الطيبات : أي : أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح ، فحذف المضاف أو تجعل " ما " شرطية وجوابها { فَكُلُواْ } والجوارح : الكواسب من سباع البهائم والطير ، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي ، والمكلب : مؤدب الجوارح ومغريها بالصيد لصاحبها ، ورائضها ذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب .

وانتصاب { مُكَلِّبِينَ } على الحال من { عَلَّمْتُمْ } .

فإن قلت : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعملتم ؟ قلت : فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه ، مدربا فيه ، موصوفا بالتكليب .

قوله { تُعَلِّمُونَهُنَّ } حال ثانية أو استئناف . وفيه فائدة جليلة وهي أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من أبرع أهله علما وأكثرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإِبل . فكم من آخذ عن غير متقن ، قد ضيع أيامه ، وعض عند لقاء النحارير أنامله .

وقوله { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } جملة متفرعة على بيان حل صيد الجوارح المعلمة ، ومشيرة إلى نتيجة التعليم وأثره والأمر فيه للإِباحة .

و { من } في قوله { مِمَّآ أَمْسَكْنَ } تبعيضة ؛ إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد والعظم ونحوهما . ويحتمل أن تكون بيانية أي : فكلوا الصيد و هو ما أمسكن عليكم .

و { ما } موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي : أمسكنه .

وقوله { أمسكن } أي : حبس وصدن ، والضمير المؤنث يعود للجوارح .

وقوله { عليكم } متعلق بأمسكن ، وهو هنا بمعنى لكم ، والاستعلاء مجازي .

والتقييد بذلك ، لإِخراج ما أمسكنه لأنفسهن لا لأصحابهن .

والمعنى : إذا علمتم الجوارح وتوفرت شروط الحل فيما تصيده ، فكلوا مما أمسكنه محبوسا عليكم ولأجلكم .

والضمير في { عليه } من قوله : { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } يعود إلى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح } أي : عند إرسالكم الجوارح للصيد فسموا عليها ، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : " وإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم - الله تعالى - فكل مما أمسك عليك " .

وقال بعضهم إنه يعود على المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل . فكأنه قيل : واذكروا اسم الله عند الأكل مما صدن لكم . وقيل : يعود على قوله { مِمَّآ أَمْسَكْنَ } أي : اذكروا اسم الله على ما أدركتم ذكاته مما أمسكن عليكم الجوارح . ولا بأس من عود الضمير إلى كل ما ذكر ، بأن يذكر اسم الله عند إرسال الجوارح ، وعند الأكل مما صادته .

وعند تذكية الحيوان الذي صادته الجوارح .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .

أي : واتقوا الله وراقبوه واخشوه في كل شئونكم واحذروا مخالفة أمره فيما شرع لكم وفيما كلفكم به فإنه - تعالى - لا يعجزه شيء ، وسيجازي كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر .

فالجملة الكريمة تذييل قصد به التحذير من مخالفة أمر الله ، وانتهك محارمه . هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتي :

1 - إباحة التمتع بالطيبات التي أحلها الله - تعالى - لعباده ، والتي تستطيبها النفوس الكريمة ، والعقول القويمة ، من مطعومات ومشروبات وغير ذلك مما أحله - سبحانه - لعباده . وفي هذا المعنى وردت آيات كثيرة منها ، قوله - تعالى - : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } 2 - إباحة الصيد بالجوارح بشرط كونها معلمة ، وعلامة كونها معملة أن تسترسل إذا أرسلت ، وتنزجر إذا زجرت ، وتمسك الصيد ولا تأكل منه ، وتعود إلى صاحبها متى دعاها .

ويدخل في الجوارح - عند جمهور الفقهاء - كل يحوان ينصع صنيع الكلب ، وكل طير كذلك ، لأن قوله - تعالى - { مِّنَ الجوارح } ، يعم كل يحوان يصنع صنيع الكلب . وكان التعبير بمكلبين ، لأن الكلاب أكثر الحيوانات استعمالا للصيد .

وقد جاء في حديث عدي بن حاتم الذي رواه الإِمام أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك " .

ويرى بعض الفقهاء أن الصيد لا يكون إلا بالكلاب خاصة .

قال القرطبي ما ملخصه : وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإِباحة تتناول ما علمناه من الجوارح وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير . وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع ، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها وبسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل . وهو الأكل من الجوارح . أي : الكواسب من الكلاب وسباع الطير .

وليس في قوله { مُكَلِّبِينَ } دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة ، وإن كان قد تمسك به من قصر الإِباحة على الكلاب خاصة .

3 - استدل بعض الفقهاء بقوله - تعالى - { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } على أن الكلب وما يشبهه من الجوارح إذا أكل من الصيد الذي أمسكه ، فإنه في هذه الحالة لا يحل الأكل منه ، لأنه لم يمسك لمن أرسله وإنما أمسك لنفسه وبهذا قال الشافعية والحنابلة .

ويرى المالكية أن الجارح ما دام قد عاد بالصيد ولو مأكولا منه ، فإنه يجوز الأكل منه ، لأنه بعودته بما صاده قد أمسكه على صاحبه .

أما الأحناف فقالوا : إن عاد بأكثره جاز الأكل منه ، لأنه في هذه الحالة يكون قد أمسك لصاحبه ، وإن عاد بأقله لا يجوز الأكل منه ، لأنه يكون قد أمسك لنفسه . وهذه المسألة بأدلتها الموسعة مبسوطة في كتب الفقه وفي بعض كتب التفسير .

4 - استدل بعض العلماء بقوله - تعالى - { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } على وجوب التسمية عند إرسال الجوارح للصيد ، ولقوله - تعالى - في آية أخرى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } ويرى بعضهم أن الأمر للندب ، ويرى فريق ثالث أن التسمية إن تركت عمدا لا يحل الأكل من الصيد .

قال القرطبي : وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى أن التسمية لا بد منها بالقول عند الإِرسال لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك " فلو لم توجد التسمية على أي وجه كان لم يؤكل الصيد . وهو مذهب أهل الظاهر وجماعة أهل الحديث .

وذهب جماعة من أصحابنا وغيرهم إلى أنه يجوز أكل ما صاده المسلم وذبحه وإن ترك التسمية عمدا ، وحملوا الأمر بالتسمية على الندب .

وذهب مالك في المشهور إلى الفرق بين ترك التسمية عمدا أو سهوا فقال لا تؤكل مع العمد ، وتؤكل مع السهو ، وهو قول فقهاء الأمصار ، وأحد قولي الشافعي .