التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

قوله تعالى : { يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب } .

نزلت هذه الآية بسبب عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير بدلا من اسمه زيد الخيل ، فقد قالا : يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما نقتله فلا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت الآية{[899]} .

قوله : { ماذا } ما في محل رفع مبتدأ ، وخبره { أحل لهم } وذا زائدة .

قوله : { أحل لكم الطيبات } يعني الحلال . وهو ما ليس بخبيث وكل ما لم يأت تحريمه في كتاب ولا سنة ولا قياس . وقيل : الحلال ما التذ به آكله وشاربه ولم يصبه به ضرر في الدنيا ولا في الآخرة . وقيل : الطيبات هي الذبائح ، لأنها بالتذكية تطيب .

قوله : { ما علمتم من الجوارح } معطوف على الطيبات أي أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم . فقد حذف المضاف وهو " صيد " والجوارح معناها الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين ، كقوله تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } أي يعلم ما كسبتم من خير ومن شر .

وقوله : { مكلبين } في محل نصب على الحال من علمتم . ومكلبين جمع وفرده مكلب . وهو مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها دون غيره ومروضها لذلك . وذلك مشتق من الكلب ، لأن التعليم أو التأديب أكثر ما يكون في الكلاب . فاشتق من لفظه لكثرة حصوله في جنسه ، أو لأن السباع تسمى كلابا . ومنه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على ابن أبي لهب " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " وفي رواية " من كلاب الشام " فأكله الأسد وهو في أرض الشام .

على أن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب ، لأنها تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب بأنيابها ، وهو قول المذاهب الأربعة وغيرهم من أهل العلم . فقد روى عن عدي ابن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال : " ما أمسك عليك فكل " .

وقوله : { تعلمونهن مما علمكم الله } تعلمونهن في محل نصب حال أخرى وقيل : جملة استئنافية . وتعليمهن بالتضرية والترويض على إمساك الصيد لصاحبه . وقوله : { مما علمكم الله } أي مما علمكم من الحيل وطرق التعليم والتأديب ، فإذا أرسله استرسل ، وإذا زجره انزجر وإذا أخذ الصيد فلا يأكل منه وإنما يمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه .

وعلى هذا إذا كان الجارح معلما وأمسك على صاحبه وكان قد ذكر اسم الله عليه عند إرساله فقد حل الصيد وإن قتله ، وذلك بالإجماع . ويؤكد ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله ، فقال : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك " قلت : وإن قتلن ؟ قال : " وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها ، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره " قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؟ فقال : " إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصابه فإنه وقيذ فلا تأكله " وفي لفظ لهما " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاته " وهذا دليل على أنه إذا أكل الكلب من الصيد فإنه يحرم مطلقا . وهو قول أكثر أهل العلم .

وذلك بمقتضى قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } أي كلوا مما حبسن لكم من الصيد ولم يأكلن منه . فإن أكلن منه لم يؤكل ما بقي ، لأن الكلب بذلك أمسك على نفسه ولم يمسك على صاحبه وقوله : { واذكروا اسم الله عليه } أي سموا عليه عند إرساله . وقيل : سموا عليه إذا أدركتم ذكاته . والأمر هنا للندب عند الإمام الشافعي . وهو للوجوب عند أبي حنيفة .

قوله : { واتقوا الله إن الله سريع الحساب } أي خافوا الله باجتناب نواهيه ومنها أكل صيد الجوارح غير المعلمة ، فإن الله حسابه سريع إتيانه أو أنه سريع إتمامه ، فيوم القيامة قريب إذا شرع فيه فإن الله يحاسب الخلائق دفعة واحدة .

ويستفاد من هذه الآية جواز اتخاذ الكلاب واقتناؤها للصيد وكذلك للحراسة قياسا على كلب الصيد ، ولما رواه مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان " . وعلى هذا فإن المباح اتخاذه من الكلاب مما يجوز بيعه وشراؤه ، فضلا عن كلب الصيد فهو الذي يحرس الماشية والزرع والدار . أما اقتناؤها على غير ذلك من المنفعة فهو منهي عنه . ولعل الحكمة في النهي عن ذلك ما في الكلاب من ترويع للمسلمين والتشويش عليهم بنباحها ، أو لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب{[900]} .


[899]:- تفسير القرطبي ج 6 ص 65 وتفسير ابن كثير ج 2 ص 16.
[900]:- الكشاف ج 1 ص 594 وتفسير القرطبي ج 6 ص 72-75 وروح المعاني ج 6 ص 63-65 وتفسير ابن كثير ج 2 ص 15،16.