غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

1

{ يسألونك ماذا أحل لهم } كأنهم حين تلي عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم والسؤال في معنى القول . وإنما لم يقل ماذا أحل لنا على حكاية قولهم نظراً إلى ضمير الغائب في : { يسألونك } ومثل هذا يجوز فيه الوجهان . تقول : أقسم زيد ليفعلن أو لأفعلن . أما سبب النزول فعن أبي رافع أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فلم يدخل ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جبريل : إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة . فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو . قال أبو رافع : فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلباً إلاّ قتلته حتى بلغت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني بقتله ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاء ناس فقالوا : يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي تقتلها فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية . فأمر بقتل الكلب الكلب والعقور وما يضر ويؤذي وأذن في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها . وقال سعيد بن جبير : نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير حين قالا : يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة وإنها تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما نقتل فلا ندرك وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزل : { قل أحل لكم الطيبات } أي ما ليس بخبيث منها وهو ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد ، أو أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى عند أهل المروءة والأخلاق الجميلة ، واعلم أن الأصل في الأعيان الحل لأنها خلقت لمنافع العباد { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً }[ البقرة :29 ] واستثنى من ذلك أصول : الأوّل : تنصيص الكتاب على تحريمه كالميتة والدم وغيرهما . الثاني : تنصيص السنة كما روي عن جميع من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية والبغال كالحمير . ولا تحرم الخيل عند الشافعي لما روي عن جابر أنه قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل . الثالث : ما هو في معنى المنصوص كالنبيذ فإنه مسكر كالخمر فيشاركها في التحريم . الرابع : كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور وقد مر معنى السبع عن قريب فلا يحل بموجب هذا الأصل الكلب والأسد والذئب والنمر والفهد والدب والببر والقرد والفيل لأنها تعدو بأنيابها ، ولا يحل من الطيور البازي والشاهين والصقر والعقاب وجميع جوارح الطير . الخامس : ما أمر بقتله من الحيوانات فهو حرام لأنّ الأمر بقتله إسقاط لحرمته ومنع من اقتنائه .

ولو كان مأكولاًَ لجاز اقتناؤه للتسمين وإعداده للأكل وقت الحاجة . ومنه الفواسق الخمس . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والفأرة والغراب الأبقع والكلب والحدأة " . السادس ما ورد النهي عن قتله فهو حرام لأنه لو كان مأكولاً لجاز ذبحه ليؤكل كما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الخطاطيف ، وكذا الصرد والنملة والنحلة والهدهد والخفاش . السابع : الاستطابة والاستخباث لقوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } قال العلماء : فيبعد الرجوع إلى طبقات الناس وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحل والحرمة وذلك يخالف موضوع الشرع . فالعرب أولى أمة بالاعتبار لأنّ الدين عربي وهم المخاطبون أوّلاً وليس لهم ترفه وتنعم يورث تضييق المطاعم على الناس ، ولكن المعتبر استطابة سكان القرى والبلاد دون أجلاف البوادي الذين لا تمييز لهم . وأيضاً يعتبر أصحاب اليسار والترفه دون أصحاب الضرورات والحاجات . وأيضاً المعتبر حال الخصب والرفاهية دون حال الجدب والشدة . والحشرات بأسرها مستخبثة كالذباب والخنفساء والجعلان وحمار قبان إلاّ الضب فإنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا آكله ولا أحرمه " . ومن الأصول أنه لا يجوز أكل الأعيان النجسة في حال الاختيار وكذا أكل الطاهر إذا نجس بملاقاة النجاسة كالدهن والسمن الذائب والدبس والخل . ومن الأصول الكسب بمخامرة النجاسة ولكن كسب الحجام حلال عند الشافعي ، ومن الأصول ما يضر كالزجاج والسم والنبات المسكر أو المجنن . قوله سبحانه : { وما علمتم من الجوارح } معناه أحل لكم صيد ما علمتم على حذف المضاف لدلالة { فكلوا مما أمسكن عليه } ويجوز أن تكون " ما " شرطية والجزاء { فكلوا } وعلى هذا يجوز الوقف على { الطيبات } . والجوارح الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والبازي والصقر . قال تعالى :{ ويعلم ما جرحتم بالنهار }[ الأنعام : 6 ] أي كسبتم . وجوّز بعضهم أن يكون من الجراحة . وقال : ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل . وانتصاب { مكلبين } على الحال من { علمتم } . وفائدة هذه الحال مع الاستغناء عنها ب { علمتم } أن معلم الجوارح ينبغي أن يكون ماهراً في علمه مدرباً فيه موصوفاً بالتكليب . نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي أن ما صادها غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله لأنّ قوله : { مكلبين } يدل على كون هذا الحكم مخصوصاً بالكلب . والجمهور على أنّ الجوارح يدخل فيه ما يمكن الاصطياد به من السباع . قالوا : المكلب مؤدب الجوارح ورائضها لأنّ تصطاد لصاحبها وإنما اشتق من الكلب لكثرة هذا المعنى في جنسه ، أو لأنّ كل سبع يسمى كلباً كقوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم سلّط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد " .

أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة . يقال : فلان كلب بكذا إذا كان حريصاً عليه . وهب أن المذكور في الآية إباحة الصيد بالكلب لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره لجواز الاصطياد بالرمي وبالشبكة ونحوها مع سكوت الآية عنها . { تعلمونهن } حال ثانية أو استئناف مما علمكم الله من علم التكليب لأنّ بعضه إلهام من الله أو مما عرفكم أن تعلموه من إتباع الصيد بإرسال صاحبه وإنزجاره بزجره . واعلم أنه يعتبر في صيرورة الكلب معلماً أمور منها : أن ينزجر بزجر صاحبه في ابتداء الأمر وكذا إذا انطلق واشتد عدوه وحدّته ، يشترط أن ينزجر بزجره أيضاً على الأشبه فبه يظهر التأدب . ومنها أن يسترسل بإرسال صاحبه أي إذا أغري بالصيد هاج . ومنها أن يمسك الصيد لقوله : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وفي هذا اعتبار وصفين : أحدهما أن يحفظه ولا يخليه ، والثاني أن لا يأكل منه لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : فإن أكل فلا تأكل منه فإنما أمسكه على نفسه . وجوارح الطير يشترط فيها أن تهيج عند الإغراء وأن تترك الأكل ولكن لا مطمع في انزجارها بعد الطيران . ويشترط عند الشافعي تكرر هذه الأمور بحيث يغلب على الظن تأدب الجارحة بها وأقله ثلاث مرات . ولم يقدر الأكثرون عدد المرات كأنهم رأوا العرف مضطرباً ، وطباع الجوارح مختلفة فيرجع إلى أهل الخبرة بطباعها . وعن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة أنه يحل وإن أكل فعندهم الإمساك هو أن يحفظه ولا يتركه . ومعنى الآية كلوا مما تبقي لكم الجوارح وإن كان بعد أكلها منه . و " من " في { مما أمسكن } قيل زائدة نحو { كلوا من ثمره }[ الأنعام :141 ] وقيل مفيدة وذلك أن بعض الصيد لا يؤكل كالعظم والدم والريش . وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني : يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب . والفرق أن تأديب الكلب بالضرب على الأكل ممكن وتأديب الطير غير ممكن . ولا خلاف أنه إذا كانت الجارحة معلمة ثم تصيد صيدا وجرحته وقتلته وأدركه الصائد ميتا فهو حلال ، وجرح الجارحة كالذبح وإن قتلته بالفم من غير جرح ففي حله خلاف . أما قوله سبحانه : { واذكروا اسم الله عليه } فالضمير إما أن يعود إلى { ما أمسكن } أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته ، أو إلى { ما علمتم } أي سموا عليه عند إرساله أو إلى الأكل ، وعلى هذا فلا كلام . وعلى الأول فالتسمية محمولة على الندب عند الشافعي ، وعلى الوجوب عند أبي حنيفة وسيجيء تمام المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى .

/خ11