تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

وقوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } ليس في السؤال بيان عم كان سؤالهم ؟ ولكن في الجواب البيان والمراد من سؤالهم فقال { قل أحل لكم الطيبات } دل قوله تعالى : { أحلت لكم الطيبات } أن سؤالهم كان عن الطيبات وما يصطاد من الجوارح .

ثم اختلف في قوله تعالى : { أحل لكم الطيبات } قال بعضهم هن المحللات لكنه بعيد لأنه قال تعالى : { لكم الطيبات } المحللات على هذا التأويل . لكن يحتمل الوجهين : أحدهما : أنه أحل لكم بأسباب تطيب بها أنفسكم من نحو الذبح والطبخ والخبز وغيره . لم يحل لكم ما تكره به أنفسكم : التناول منه غير مطبوخ ولا مذبوح ولا مشوي . ولكن أحل لكم بأسباب طابت بها أنفسكم : التناول منه ، والله أعلم .

ويحتمل وجها آخر ؛ أن أحل لكم ما تطيب به طباعكم لا مما تنكره منه طباعكم ، وتنفر عنه والله أعلم .

وقوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } كأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل من الجوارح ؟ فذكر لهم مع ما ذكر في بعض القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، فأتاه أناس ؛ فقالوا : ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ نزل قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } الآية .

وقيل : سمى الجوارح لما يكتسب بها ، والجوارح من الكواسب . قال الله تعالى : { أم حسب/123- ب/ الذين اجترحوا السيئات } [ الجاثية : 21 ] قيل : اكتسبوا ، وجرح كسب ، وقال أبو عبيد : سميت الجوارح لأنها صوائد ، وهو ما ذكرنا من الكسب ؛ يقال : فلان جارح أهله أي كاسبهم . وقال غيره سميت جوارح لأنها تجرح وهو من الجراحة ، فإذا لم يجرح لم يحل صيده ، واحتج محمد رحمه الله بهذا المعنى في صيد الكلب إذا قتل ولم يجرح .

مسألة من كتاب الزيادات : ومما يدل على صحة ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما المعراض ؟ فقال : ما أصيب بعرضه ، فلا تأكل ، فهو وقيذ ، وما أصيب بحده فكل » . [ البخاري : 5475 ] .

وقوله تعالى : { مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله } الآية . قال بعضهم : مكلبين ( هن الكلاب ، يكالبن الصيد ، وقال القتبي ( مكلبين ) أصحاب الكلاب . وكذلك قال الفراء والكسائي : المكلبون هم أصحاب الكلاب ، والمكلب : الكلب المعلم .

وقوله تعالى : { تعلمونهن } قال الحسن وأبو بكر تضرونهن ، ويقال : ( كليب ضاريات ) على كلاب الصيد ، وهما يبيحان الصيد وإن أكل منه الكلب فعلى قولهما يصح تأويل الإضراء ؛ إذ يبيحان التناول وإن أكل منه . ( وقال تؤدبونهن ليمسكن ) الصيد لكم . وهو عندنا على حقيقة التعلم لتعلم مسك الصيد لهم .

وقوله تعالى : { مما علمكم الله } يتوجه وجهين : أحدهما : { مما علمكم الله } أي مما جعل بنيتكم بحيث احتمال تعليم هؤلاء ولم يجعل غيركم من الخلائق محتملا لذلك ولا أهلا . ويحتمل قوله تعالى : { مما علمكم الله } أن قال : علموهن بكذا ، وافعلوا كذا . فكيفما كان ففيه دليل جعل العلم شرطا فيه .

ثم تخصيص الكلاب بالذكر دون غيرها من الأشياء ، وإن كانت الكلاب وغيرها سواء إذا علمت ، لخبث الكلاب ومخالطتها الناس حتى جاء النهي عن اقتنائها ، وجاء الأمر بقتلها في وقت لم يجيء بمثله في سائر السباع ليعلم أن ما كسب هؤلاء مع خبثها ، إذا كنا معلمات يحتمل التناول منه مما لم يجيء فيه ذلك أحرى .

وقوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } إنما أباح أكل ما أمسك على نفسه لأن الكلب وغيره من السباع من [ طباعها إذا أخذت الصيد تأخذها لنفسها ، ولا تصبر على ألا تتناول منه فإذا أخذت الصيد ، ولم تتناول منه دل أنه إنما أمسكت لصاحبه . وإذا تناولت منه لم تمسك لصاحبه لأن الباقي لا يدرى أنها أمسكته لصاحبه أو أمسكته لنفسها لوقت آخر لما شبعت ] .

وعلى ذلك جاءت الآثار : روي عن عدي بن حاتم [ أنه ] قال : قلت : يا رسول الله إننا قوم نتصيد بهذه الكلاب والبزاة ، فهل يحل لنا منها ؟ فقال : «يحل لكم ما { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم } مما علمتم من كلب أو باز ، فذكرت اسم الله عليه ، قلت : وإن قتل [ الصيد ] ؟ قال : إذا قتلته ، ولم يأكله ، فإنما أمسك عليك ، وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك لنفسه . فقلت : يا رسول الله ، أرأيت إن خالطت كلابنا كلابا أخرى ؟ قال : إذا خالط كلبك كلابا فلا تأكل فإنك إنما ذكرت اسم الله على كلبك ولم تذكره على كلب غيرك »[ البخاري : 5487 ومسلم : 1929 ] .

عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إذا أكل الكلب فليس بمعلم . وعنه أيضا [ أنه ] قال : إذا أكل الكلب من الصيد فلا تأكله ، وإذا أكل الصقر فكل لأن الكلب تستطيع أن تضربه ، والصقر لا . وعن علي رضي الله عنه [ أنه ] قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل ، واضربه .

وقد ذكرنا من الأخبار مما يدل على أن الكلب إذا كان غير معلم يؤكل صيد في خبر عدي بحاتم قال : «قلت يا رسول الله : إننا قوم نتصيد بهذه الكلاب ، فقال : إذا أرسلت كلابك المعلمة ، وذكرت اسم الله عليها ، فكل مما أمسكن عليك ، وإن قتلن ، إلا أن يأكل الكلب ، فإن أكل فلا تأكل » [ بنحوه البخاري : 5487 ] .

وعلى هذا يخرج قولنا : إنه إذا أكل [ الكلب ] من دمه يؤكل لأنه لو أمسكه علينا كنا لا نأكله ؛ وذلك من غاية تعليمه لأنه تناول الخبيث ، وأمسك الطيبة على صاحبه . ولو كان صيد الكلب إذا أكل منه حلالا لكان المعلم وغير المعلم سوء ، وكان ما أمسك على نفسه وعلى صاحبه سواء ، لأن كل الكلاب تطلب الصيد إذا أرسلت عليه ، وتمسكه حتى يموت ، وتأكل منه ، إلا المعلم منها . فما معنى المعلم منها والممسك على صاحبه ؟ لو كان الأمر على ما قال مخالفنا .

وقد روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال : إن علم الكلب حتى صار لا يأكل من صيد ، ثم أكل من صيد يصيد لم يجز أن يؤكل من صيده الأول إذا كان باقيا .

ومذهبه عندنا ، والله أعلم ، أن صيد الكلب لا يؤكل حتى يكون معلما . وإن أمسك في أول ما يرسل ، فلم يأكل ، فإذا أمسك مرارا ، ثم أكل ، ولنا أكله على إمساكه عن الأكل ، لم يكن لأنه معلوم ؛ إذ قد يمسك غير المعلم للشبع ، ولو كان معلما ما أكله . فاستدل بأكله في الرابعة على أن إمساكه في الثالثة كان على غير حقيقة تعليم .

وهذا عندنا في صيد ، يقرب بعضه من بعض . فأما إذا كثر إمساكه ، ثم ترك إرساله مدة ، يجوز أن ينسى فيها ما علم ، ثم أرسل ، فأكل ، فليس فيها رواية عنه . ويجوز أن يقال : يؤكل ما بقي من صيده الأول ، ويفرق بين المسألتين بأن الثاني قد ينسى ، والأول يبعد من النسيان لتقارب ما بين الصيدين فلا وجه إلا أن يجعل غير مستحكم التعلم في صيد المتقدم .

وقد ذكرنا في ما تقدم أن الصقر والبازي من الجوارح ، واستدللنا على ذلك بما أوضحنا ما ليس بمعلم من الطير لا يؤكل إلا أن تدرك ذكاته . ثم يكون تعليم البازي والصقر بإجابته صاحبه ورجوعه إليه ، وتعليم الكلاب ترك الأكل منه ؛ لأن البازي ونحوه مستوحش عن الناس ، ينفر طبعه عنهم ، فدلت إلفة الناس وإجابة أصحابه على التعلم ، وإن أكل منه . ولا يحتمل أن يكون بالتناول منه يخرج عن حد التعليم لأنه إنما يعلم بالأكل من الصيد .

وأما الكلب فإنه يألف الناس ، ولا يستوحش ، ومن طبعه الأكل إذا أخذ الصيد . فدل إمساكه عن التناول منه على أنه معلم . وقد روي عن علي رضي الله عنه ما يدل على تأييد ما ذكرنا ؛ قال : إذا أكل الصقر فكل ، وإن أكل الكلب فلا تأكل . وعن سلمان كذلك .

وقوله تعالى : { واتقوا الله إن الله سريع الحساب } يحتمل قوله : { واتقوا الله } فلا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليها فإنها ميتة . ويحتمل : { واتقوا الله } في ترك ما أمر ونهى كله { إن الله سريع الحساب } وتحتمل السرعة كناية عن الشدة : { سريع الحساب } شديد العقاب .