فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

هذا شروع في بيان ما أحله الله لهم ، بعد بيان ما حرمه الله عليهم ، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية . قوله : { مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } أي شيء أحلّ لهم ، أو ما الذي أحلّ لهم من المطاعم إجمالاً ومن الصيد ، ومن طعام أهل الكتاب ، ومن نسائهم ، قوله : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } هي ما يستلذه آكله ويستطيبه مما أحله الله لعباده . وقيل : هي الحلال ، وقد سبق الكلام في هذا . وقيل : الطيبات : الذبائح لأنها طابت بالتذكية ، وهو تخصيص للعام بغير مخصص ، والسبب والسياق لا يصلحان لذلك .

قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح } هو معطوف على الطيبات بتقدير مضاف لتصحيح المعنى : أي أحلّ لكم الطيبات وأحلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح ، وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية : «عُلِمتم » بضم العين وكسر اللام أي علمتم من أمر الجوارح والصيد بها . قال القرطبي : وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تناولت ما علمنا من الجوارح ، وهو يتضمن الكلب ، وسائر جوارح الطير ، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع فدلّ على جواز بيع الكلب ، والجوارح ، والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع ، إلا ما خصه الدليل وهو الأكل من الجوارح ، أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير . قال : أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود ، وعلمه مسلم ، ولم يأكل من صيده الذي صاده وأثر فيه بجرح ، أو تنييب ، وصاد به مسلم ، وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح ، يؤكل بلا خلاف ، فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف ، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه ، وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب ، يقال : جرح فلان واجترح : إذا اكتسب ، ومنه الجارحة لأنه يكتسب بها ، ومنه اجتراح السيئات ، ومنه قوله تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } . وقوله : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات } . قوله : { مُكَلّبِينَ } حال ، والمكلب : معلم الكلاب لكيفية الاصطياد ، والأخصّ معلم الكلاب وإن كان معلم سائر الجوارح مثله ، لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب ، ولم يكتف بقوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح } مع أن التكليب هو التعليم ، لقصد التأكيد لما لا بدّ منه من التعليم . وقيل : إن السبع يسمى كلباً فيدخل كل سبع يصادّ به . وقيل : إن هذه الآية خاصة بالكلاب . وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال : ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فهو لك حلال ، وإلا فلا تطعمه . قال ابن المنذر : وسئل أبو جعفر عن البازي هل يحلّ صيده ؟ قال لا ، إلا أن تدرك ذكاته .

وقال الضحاك والسدّي : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح مُكَلّبِينَ } هي الكلاب خاصة ، فإن كان الكلب الأسود بهيماً فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي . وقال أحمد : ما أعرف أحداً يرخص فيه إذا كان بهيماً ، وبه قال ابن راهويه . فأما عامة أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم ، واحتج من منع من صيد الكلب الأسود بقوله صلى الله عليه وسلم : «الكلب الأسود شيطان » أخرجه مسلم وغيره والحق أن يحلّ صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح ، من غير فرق بين الكلب وغيره ، وبين الأسود من الكلاب وغيره ، وبين الطير وغيره ، ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عديّ بن حاتم عن صيد البازي كما سيأتي .

قوله : { تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله } الجملة في محل نصب على الحال أي مما علمكم الله ، مما أدركتموه بما خلقه فيكم من العقل الذي تهتدون به إلى تعليمها ، وتدريبها ، حتى تصير قابلة لإمساك الصيد عند إرسالكم لها . قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } الفاء للتفريع ، والجملة متفرّعة على ما تقدّم من تحليل صيد ما علموه من الجوارح ، «ومن » في قوله : { مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } للتبعيض ، لأن بعض الصيد لا يؤكل كالجلد ، والعظم ، وما أكله الكلب ونحوه ، وفيه دليل على أنه لا بد أن يمسكه على صاحبه ، فإن أكل منه فإنما أمسكه على نفسه كما في الحديث الثابت في الصحيح .

وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحلّ أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال . وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي وهو مرويّ عن سلمان الفارسي ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة وعبد الله بن عمر ، وروي عن عليّ ، وابن عباس والحسن البصري ، والزهري وربيعة ، ومالك ، والشافعي في القديم ، أنه يؤكل صيده ، ويردّ عليهم قوله تعالى : { مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } ، وقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك » وهو في الصحيحين وغيرهما ، وفي لفظ لهما : «فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه » وأما ما أخرجه أبو داود ، بإسناد جيد ، من حديث أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه » وقد أخرجه أيضاً بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، وأخرجه أيضاً النسائي ، فقد جمع بعض الشافعية بين هذه الأحاديث بأنه إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عديّ بن حاتم ، وإن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه الانتظار ، وجاع فأكل من الصيد لجوعه ، لا لكونه أمسكه على نفسه ، فإنه لا يؤثر ذلك ، ولا يحرم به الصيد ، وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني ، وحديث عمرو بن شعيب ، وهذا جمع حسن .

وقال آخرون : إنه إذا أكل الكلب منه حرم لحديث عديّ ، وإن أكل غيره لم يحرم للحديثين الآخرين ؛ وقيل : يحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه ، ثم عاد فأكل منه .

وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح ، ولم يسلكوا طريق الجمع لما فيها من البعد ، قالوا : وحديث عديّ بن حاتم أرجح لكونه في الصحيحين . وقد قررت هذا المسلك في شرحي للمنتقي بما يزيد الناظر فيه بصيرة .

قوله : { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } الضمير في { عَلَيْهِ } يعود إلى { مَا عَلِمْتُمُ } أي سموا عليه عند إرساله ، أو لما أمسكن عليكم ، أي سموا عليه إذا أردتم ذكاته . وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح ، واستدلوا بهذه الآية . ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين ، وغيرهما بلفظ : «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله » وقال بعض أهل العلم : إن المراد التسمية عند الأكل . قال القرطبي : وهو الأظهر ، واستدلوا بالأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التسمية وهذا خطأ ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد وقت التسمية بإرسال الكلب وإرسال السهم ، ومشروعية التسمية عند الأكل حكم آخر . ومسألة غير هذه المسألة ، فلا وجه لحمل ما ورد في الكتاب والسنة هنا على ما ورد في التسمية عند الأكل ، ولا ملجئ إلى ذلك ، وفي لفظ في الصحيحين من حديث عديّ : «إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل » وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط ، وذهب آخرون إلى أنها سنة فقط ، وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي ، وهذا أقوى الأقوال وأرجحها . قوله : { واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } أي حسابه سبحانه ، سريع إتيانه ، وكل آت قريب .

/خ5