تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يسألونك ماذا أحل لهم} من الصيد، وذلك أن زيد الخير، وهو من بني المهلهل وعدي بن حاتم الطائيان، سألا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله، كلاب آل درع وآل حورية يصدن الظباء والبقر والحمر، فمنها ما تدرك ذكاته فيموت، وقد حرم الله عز وجل الميتة، فماذا يحل لنا؟ فنزلت: {يسألونك ماذا أحل لهم} من الصيد {قل أحل لكم الطيبات}، يعني الحلال، وذبح ما أحل الله لهم من الصيد مما أدركت ذكاته. ثم قال: {وما علمتم من الجوارح مكلبين}: الكلاب معلّمين للصيد، {تعلمونهن مما علمكم الله}: تؤدبوهن كما أدبكم الله، فيعرفون الخير والشر، وكذا الكاتم أيضا، فأدبوا كلابكم في أمر الصيد، {فكلوا مما أمسكن عليكم}: فكلوا مما أمسكن، يعني حبسن عليكم الكلاب المعلمة، {واذكروا اسم الله عليه} إذا أرسلتم بعد أن أمسك عليكم، {واتقوا الله}، فلا تستحلوا أكل الصيد من الميتة، إلا ما ذكي من صيد الكلب المعلّم، ثم خوفهم، فقال: {إن الله سريع الحساب} لمن يستحل أكل الميتة من الصيد إلا من اضطر.
{وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله} [المائدة: 4]. 322- يحيى عن مالك أنه سمع بعض أهل العلم يقولون في البازي والعقاب والصقر وما أشبه ذلك: إنه إذا كان يفقه كما تفقه الكلاب المعلمة، فلا بأس بأكل ما قتلت مما صادت إذا ذكر اسم الله على إرسالها. قال مالك: وأحسن ما سمعت في الذي يتخلص الصيد من مخالب البازي أو من الكلب ثم يتربص به فيموت، أنه لا يحل أكله. قال مالك: وكذلك كل ما قدر على ذبحه، وهو في مخالب البازي، أو في الكلب فيتركه صاحبه وهو قادر على ذبحه، حتى يقتله البازي أو الكلب فإنه لا يحل أكله. قال مالك: وكذلك الذي يرمي الصيد، فيناله وهو حي، فيفرط في ذبحه حتى يموت، فإنه لا يحل أكله.
... لما ذكر الله عز وجل أمره بالذبح وقال: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} كان معقولا عن الله عز وجل أنه إنما أمر به: فيما يمكن فيه الذبح والذكاة وإن لم يذكره. فلما كان معقولا في حكم الله عز وجل ما وصفتُ: انبغى لأهل العلم عندي أن يعلموا ما حل من الحيوان. فذكاة المقدور عليه منه مثلُ الذَّبح، أو النحر، وذكاة غير المقدور عليه منه ما يُقْتَلُ به جارحٌ أو سلاحٌ. قال: الكلب المعَلَّمُ: الذي إذا أُشْلِيَ: اسْتشلَى، وإذا أخذ: حَبَس ولم يأكل، فإذا فعل هذا مرة بعد مرة كان مُعَلَّمًا، يأكل صاحبه مما حبس عليه ـ وإن قتل ـ ما لم يأكل. قال الشافعي: وقد تسمى جوارحَ: لأنها تجرح؛ فيكون اسما لازما. وأُحِلَّ ما أَمْسَكْنَ مطلقًا. (أحكام الشافعي: 2/80-82. ون أحكام الشافعي: 1/125-126.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يسألك يا محمد أصحابك ما الذي أُحلّ لهم أكله من المطاعم والمآكل، فقل لهم: أحلّ منها الطيبات، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح، وأحلّ لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح، وهن الكواسب من سباع البهائم والطير، سميت جوارح لجرحها لأربابها وكسبها إياهم أقواتهم من الصيد، يقال منه: جرح فلان لأهله خيرا: إذا أكسبهم خيرا، وفلان جارحة أهله: يعني بذلك: كاسبهم، ولا جارحة لفلانة إذا لم يكن لها كاسب... وترك من قوله:"وَما عَلّمْتُمْ": «وصيد» ما علمتم من الجوارح اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام على ما ترك ذكره. وذلك أن القوم فيما بلغنا كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بقتل الكلاب عما يحلّ لهم اتخاذه منها وصيده، فأنزل الله عزّ ذكره فيما سألوا عنه من ذلك هذه الآية فاستثنى مما كان حرم اتخاذه منها، وأمر بقُنية كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث، وأذن لهم باتخاذ ذلك... ثم اختلف أهل التأويل في الجوارح التي عنى الله بقوله: "وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ"؛ فقال بعضهم: هو كلّ ما علّم الصيد فتعلمه من بهيمة أو طائر... من كلب، أو صقر، أو فَهِد، أو غيره.
وقال آخرون: إنما عنى الله جلّ ثناؤه بقوله: "وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ": الكلاب دون غيرها من السباع.
وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: كلّ ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح، وإن صيد جميع ذلك حلال إذا صاد بعد التعليم، لأن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله: "وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ": كلّ جارحة، ولم يخصص منها شيئا، فكل جارحة كانت بالصفة التي وصف الله من كل طائر وسبع فحلال أكل صيدها... فإن ظنّ ظانّ أن في قوله "مُكَلّبِينَ "دلالة على أن الجوارح التي ذكرت في قوله: "وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ": هي الكلاب خاصة، فقد ظنّ غير الصواب، وذلك أن معنى الآية: قل أحلّ لكم أيها الناس -في حال مصيركم أصحاب كلاب- الطيبات وصيد ما علّمتموه الصيد من كواسب السباع والطير. فقوله: "مُكَلّبِينَ" صفة للقانص، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه، وهو نظير قول القائل يخاطب قوما: أحلّ لكم الطيبات، وما علمتم من الجوارح مكلبين مؤمنين فمعلوم أنه إنما عنى قائل ذلك إخبار القوم أن الله جلّ ذكره أحلّ لهم في حال كونهم أهل إيمان الطيبات، وصيد الجوارح التي أعلمهم أنه لا يحلّ لهم منه إلا ما صادوه بها، فكذلك قوله: "أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مكَلّبِينَ" لذلك نظيره في أن التكليب للقانص بالكلاب كان صيده أو بغيرها، لا أنه إعلام من الله عزّ ذكره أنه لا يحلّ من الصيد إلا ما صادته الكلاب.
"تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ": تؤدّبون الجوارح، فتعلمونهنّ طلب الصيد لكم مما علمكم الله، يعني بذلك: من التأديب الذي أدبكم الله والعلم الذي علمكم... قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: هو أن يُسْتَشْلَى لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه، ويمسك عليه إذا أخذه فلا يأكل منه، ويستجيب له إذا دعاه، ولا يفرّ منه إذا أراده، فإذا تتابع ذلك منه مرارا كان معلّما...قال عطاء: كل شيء قتله صائدك قبل أن يعلّم ويمسك ويصيد فهو ميَتة، ولا يكون قتله إياه ذكاة حتى يعلّم ويُمسك ويصيد، فإن كان ذلك ثم قَتَل فهو ذكاته.
عن ابن عباس، قال: المعلّم من الكلاب أن يمسك صيده فلا يأكل منه حتى يأتيه صاحبه، فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فلا يأكل من صيده.
وقال آخرون نحو هذه المقالة، غير أنهم حدّوا لمعرفة الكَلاّب بأن كلبه قد قبل التعليم، وصار من الجوارح الحلال صيدها أن يفعل ذلك كلبه مرّات ثلاثا، وهذا قول محكيّ عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن.
وقال آخرون ممن قال هذه المقالة: لا حدّ لعلم الكلاّب بذلك من كلبه أكثر من أن يفعل كلبه ما وصفنا أنه له تعليم قالوا: فإذا فعل ذلك فقد صار معلّما حلالاً صيده. وهذا قول بعض المتأخرين.
وفرّق بعض قائلي هذه المقالة بين تعليم البازي وسائر الطيور الجارحة، وتعليم الكلب وضاري السباع الجارحة، فقال: جائز أكل ما أكل منه البازي من الصيد. قالوا: وإنما تعليم البازي أن يطير إذا استُشْلي، ويجيب إذا دُعي، ولا ينفر من صاحبه إذا أراد أخذه. قالوا: وليس من شروط تعليمه أن لا يأكل من الصيد. وقال آخرون منهم: سواء تعليم الطير والبهائم والسباع، لا يكون نوع من ذلك معلّما إلا بما يكون به سائر الأنواع معلما. وقالوا: لا يحلّ أكل شيء من الصيد الذي صادته جارحة فأكلت منه، كائنة ما كانت تلك الجارحة بهيمة أو طائرا. قالوا: لأن من شروط تعليمها. الذي يحلّ به صيدها، أن تمسك ما صادت على صاحبها فلا تأكل منه.
وقال آخرون: تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد، قالوا: وتعليمه الذي يحلّ به صيده أن يُشْلَى على الصيد فيَسْتَشْلِي ويأخذ الصيد، ويدعوه صاحبه فيجيب، أو لا يفرّ منه إذا أخذه. قالوا: فإذا فعل الجارح ذلك كان معلما داخلاً في المعنى الذي قال الله: "وَما عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعْلّمونهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ" قالوا: وليس من شرط تعليم ذلك أن لا يأكل من الصيد، قالوا: وكيف يجوز أن يكون ذلك من شرطه وهو يؤدّب بأكله؟... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا في تأويل قوله: "تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ" أن التعليم الذي ذكره الله في هذه الآية للجوارح، إنما هو أن يعلم الرجل جارحه الاستشلاء إذا أُشلي على الصيد، وطلبه إياه أغري، أو إمساكه عليه إذا أَخذ من غير أن يأكل منه شيئا، وألا يفرّ منه إذا أراده، وأن يجيبه إذا دعاه، فذلك هو تعليم جميع الجوارح طيرها وبهائمها. وإن أكل من الصيد جارحة صائد، فجارحه حينئذٍ غير معلم. فإن أدرك صاحبه حيّا فذكّاه حلّ له أكله، وإن أدركه ميتا لم يحلّ له، لأنه مما أكله السبع الذي حرّمه الله تعالى بقوله: "وَما أكَلَ السّبُع" ولم يدرك ذكاته.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما: حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا ابن المبارك، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن الشعبيّ، عن عديّ بن حاتم، أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصيد، فقال: «إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ فاذْكُرِ اسْمَ اللّه عَلَيْهِ، فإنْ أدْرَكْتَهُ وقد قَتَلَ وأَكَلَ مِنْهُ، فلا تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئا، فإنّما أمْسَكَ على نَفْسِهِ»...
"فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ": فكلوا أيها الناس مما أمسكتْ عليكم جوارحكم. واختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله حلال أكل كل ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلمة من الصيد الحلال أكله، أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه، أدركت ذكاته فذُكي أو لم تدرك ذكاته حتى قتلته الجوارح بجرحها إياه أو بغير جرح. وهذا قول الذين قالوا: تعليم الجوارح الذي يحلّ به صيدها أن تعلّم الاستشلاء على الصيد وطلبه إذا أُشليت عليه وأخذَه، وترك الهرب من صاحبها دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته.
وقال آخرون: بل ذلك على الخصوص دون العموم، قالوا: ومعناه: فكلوا مما أمسكن عليكم من الصيد جميعه دون بعضه. قالوا: فإن أكلت الجوارح منه بعضا وأمسكت بعضا، فالذي أمسكت منه غير جائز أكله وقد أكلت بعضه لأنها إنما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه على أنفسها لا علينا، والله تعالى ذكره إنما أباح لنا كل ما أمسكته جوارحنا المعلّمة عليه بقوله: "فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ" دون ما أمسكته على أنفسها، وهذا قول من قال: تعليم الجوارح الذي يحلّ به صيدها، أن تَسْتَشْلي للصيد إذا أُشليت فتطلبه وتأخذه، فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئا، ولا تفرّ من صاحبها...
"وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ": واذْكُرُوا اسْمَ الله على ما أمسكت عليكم جوارحكم من الصيد... عن ابن عباس، قوله: "واذكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ" يقول: إذا أرسلت جارحك فقل: بسم الله، وإن نسيت فلا حرج.
"وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ": واتقوا الله أيها الناس فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلّمة أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها، أو تَطعَموا ما لم يسمّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الأوثان وعبدة الأصنام ومن لم يوحد الله من خلقه، أو ذبحوه، فإن الله قد حرّم ذلك عليكم فاجتنبوه. ثم خوّفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره فقال: اعلموا أن الله سريع حسابه لمن حاسبه على نعمته عليه منكم وشكر الشاكر منكم ربه، على ما أنعم به عليه بطاعته إياه فيما أمر ونهى، لأنه حافظ لجميع ذلك فيكم فيحيط به، لا يخفى عليه منه شيء، فيجازي المطيع منكم بطاعته والعاصي بمعصيته، وقد بين لكم جزاء الفريقين.
اسم الطيبات يطلق على الحلال وعلى المستلذ وقوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} اسم الطيبات يتناول معنيين، أحدهما: الطيب المستلذ، والآخر: الحلال؛ وذلك لأن ضد الطيّب هو الخبيث، والخبيثُ حرامٌ، فإذاً الطيب حلال؛ والأصل فيه الاستلذاذ، فشبه الحلال به في انتفاء المضرة منهما جميعاً؛ وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} [المؤمنون: 51] يعني الحلال، وقال: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] فجعل الطيبات في مقابلة الخبائث، والخبائثُ هي المحرمات؛ وقال تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] وهو يحتمل: ما حلَّ لكم، ويحتمل: ما استطبتموه. يحتج بظاهر هذه الآية في إباحة جميع المستلذات إلا ما خصه الدليل فقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} جائز أن يريد به ما استطبتموه واستلذذتموه مما لا ضرر عليكم في تناوله من طريق الدين، فيرجع ذلك إلى معنى الحلال الذي لا تَبِعَةَ على متناوله، وجائز أن يحتج بظاهره في إباحة جميع الأشياء المستلذة إلاّ ما خصه الدليل...
{مُكَلِّبِينَ} قد قيل فيه وجهان، أحدهما: أن المُكَلِّبَ هو صاحبُ الكلب الذي يعلّمه الصيد ويؤدّبه. وقيل معناه: مضرِّين على الصيد كما تُضَرَّى الكلاب؛ والتكليب هو التضرية يقال: كَلْبٌ كَلِبٌ إذا ضَرَّى بالناس. وليس في قوله: {مُكَلِّبِينَ} تخصيص للكلاب دون غيرها من الجوارح، إذ كانت التَّضْرِيةُ عامة فيهن، وكذلك إن أراد به تأديب الكلب وتعليمه كان ذلك عموماً في سائر الجوارح.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} كأنه قيل: يقولون لك ماذا أحلّ لهم... أي شيء أحلّ لهم؟ ومعناه: ماذا أحلّ لهم من المطاعم كأنهم حين تلا عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحلّ لهم منها، فقيل: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} أي ما ليس بخبيث منها، وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد.
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح} عطف على الطيبات أي أحلّ لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف. أو تجعل (ما) شرطية، وجوابها (فكلوا)، والجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. والمكلب: مؤدّب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها، ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف، واشتقاقه من الكلب، لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتقّ من لفظه لكثرته من جنسه. أو لأن السبع يسمى كلباً. ومنه قوله عليه السلام:"اللَّهم سلط عليه كلباً من كلابك" فأكله الأسد. أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة. يقال: هو كلب بكذا، إذا كان ضارياً به. وانتصاب {مُكَلّبِينَ} على الحال من علمتم.
فإن قلت: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها ب"علمتم"؟ قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه مدرّباً فيه، موصوفاً بالتكليب. و {تُعَلّمُونَهُنَّ} حال ثانية أو استئناف. وفيه فائدة جليلة، وهي أن على كلّ آخذ علماً أن لا يأخذهُ إلا من أقتل أهله علماً وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل، فكم من آخذ عن غير متقن، قد ضيع أيامه وعضّ عند لقاء النحارير أنامله. {مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} من علم التكليب، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل. أو مما عرَّفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه، وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه، وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه...
فإن قلت: إلام رجع الضمير في قوله: {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ}؟ قلت: إمَّا أن يرجع إلى ما أمسكن، على معنى: وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى ما علمتم من الجوارح، أي سموا عليه عند إرساله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أمر تعالى بالتقوى على الجملة والإشارة الغريبة هي إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر وسرعة الحساب هي من أنه تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء علماً فلا يحتاج إلى محاولة عد ويحاسب جميع الخلائق دفعة واحدة، وتحتمل الآية أن تكون وعيداً بيوم القيامة كأنه قال إن حساب الله لكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب، ويحتمل أن يريد ب {الحساب} المجازاة فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتق الله.
قوله تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} وهذا أيضا متصل بما تقدم من ذكر المطاعم والمآكل، وفي الآية مسائل:
المسألة الثالثة: أن العرب في الجاهلية كانوا يحرمون أشياء من الطيبات كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فهم كانوا يحكمون بكونها طيبة إلا أنهم كانوا يحرمون أكلها لشبهات ضعيفة، فذكر تعالى أن كل ما يستطاب فهو حلال، وأكد هذه الآية بقوله {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} وبقوله {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}.
واعلم أن الطيب في اللغة هو المستلذ، والحلال المأذون فيه يسمى أيضا طيبا تشبيها بما هو مستلذ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة، فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات هاهنا المحللات، وإلا لصار تقدير الآية: قل أحل لكم المحلللات، ومعلوم أن هذا ركيك، فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهى، فصار التقدير: أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى.
ثم اعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة، فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات، ويتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعا} فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض، إلا أنه أدخل التخصيص في ذلك العموم فقال {ويحرم عليهم الخبائث} ونص في هذه الآيات الكثيرة على إباحة المستلذات والطيبات فصار هذا أصلا كبيرا وقانونا مرجوعا إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وفي هذه الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل؛ لأن الكلب إذا علم يكون له فضيلة على سائر الكلاب، فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس، لا سيما إذا عمل بما علم، وهذا كما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يحسنه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان تعليم الجوارح أمراً خارجاً عن العادة في نفسه وإن كان قد كثر، حتى صار مألوفاً، وكان الصيد بها أمراً تُعجب شرعته وتهز النفوس كيفيتُه، ختم الآية بما هو خارج عن عادة البشر وطرقها من سرعة الحساب ولطف العلم بمقدار الاستحقاق من الثواب والعقاب، فقال محذراً من إهمال شيء مما رسمه: {واتقوا} أي حاسبوا أنفسكم واتقوا {الله} أي عالم الغيب والشهادة القادر على كل شيء فيما أدركتم ذكاته وما لم تدركوها، وما أمسكه الجارح عليكم وما أمسكه على نفسه -إلى غير ذلك من أمور الصيد التي لا يقف عندها إلا من غلبت عليه مهابة الله واستشعر خوفه، فاتقاه فيما أحل وما حرم، ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الجامع لمجامع العظمة {سريع الحساب} أي عالم بكل شيء وقادر عليه في كل وقت، فهو قادر على كل جزاء يريده، لا يشغله أحد عن أحد ولا شأن عن شأن.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الناصر في (الانتصاف): وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم. لأن تعليمها، معناه لغة تحصيل العلم لها بطرقه. خلافا لمنكري ذلك.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ْ} من الأطعمة؟ {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ْ} وهي كل ما فيه نفع أو لذة، من غير ضرر بالبدن ولا بالعقل، فدخل في ذلك جميع الحبوب والثمار التي في القرى والبراري، ودخل في ذلك جميع حيوانات البحر وجميع حيوانات البر، إلا ما استثناه الشارع، كالسباع والخبائث منها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والله يذكر المؤمنين بنعمته عليهم في هذه الجوارح المكلبة؛ فقد علموها مما علمهم الله. فالله هو الذي سخر لهم هذه الجوارح؛ وأقدرهم على تعليمها؛ وعلمهم هم كيف يعلمونها.. وهي لفتة قرآنية تصور أسلوب التربية القرآني، وتشي بطبيعة المنهج الحكيم الذي لا يدع لحظة تمر، ولا مناسبة تعرض، حتى يوقظ في القلب البشري الإحساس بهذه الحقيقة الأولى: حقيقية أن الله هو الذي أعطى كل شيء. هو الذي خلق، وهو الذي علم، وهو الذي سخر؛ وإليه يرجع الفضل كله، في كل حركة وكل كسب وكل إمكان، يصل إليه المخلوق.. فلا ينسى المؤمن لحظة، أن من الله، وإلى الله، كل شيء في كيانه هو نفسه؛ وفيما حوله من الأشياء والأحداث؛ ولا يغفل المؤمن لحظة عن رؤية يد الله وفضله في كل عزمة نفس منه، وكل هزة عصب، وكل حركة جارحة.. ويكون بهذا كله "ربانيًا "على الاعتبار الصحيح. والله يعلم المؤمنين أن يذكروا اسم الله على الصيد الذي تمسك به الجوارح. ويكون الذكر عند إطلاق الجارح إذ أنه قد يقتل الصيد بنابه أو ظفره؛ فيكون هذا كالذبح له؛ واسم الله يذكر عند الذبح، فهو يذكر كذلك عند إطلاق الجارح سواء. ثم يردهم في نهاية الآية إلى تقوى الله؛ ويخوفهم حسابه السريع.. فيربط أمر الحل والحرمة كله بهذا الشعور الذي هو المحور لكل نية وكل عمل في حياة المؤمن؛ والذي يحول الحياة كلها صلة بالله، وشعورا بجلاله، ومراقبة له في السر والعلانية: (واتقوا الله إن الله سريع الحساب)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...والذي يظهر لي: أنّ الله قد ناط إباحة الأطعمة بوصف الطيّب فلا جرم أن يكون ذلك منظوراً فيه إلى ذات الطعام، وهو أن يكون غير ضارّ ولا مستقذر ولا مناف للدين، وأمارة اجتماع هذه الأوصاف أن لا يحرّمه الدّين، وأن يكون مقبولاً عند جمهور المُعتدلين من البشر، من كلّ ما يعدّه البشر طعاماً غير مستقذر، بقطع النظر عن العوائد والمألوفات، وعن الطبائع المنحرفات، ونحن نجد أصناف البشر يتناول بعضهم بعض المأكولات من حيوان ونبات، ويترك بعضهم ذلك البعض. فمن العرب من يأكل الضبّ واليربوع والقنافذ، ومنهم من لا يأكلها. ومن الأمم من يأكل الضفادع والسلاحف والزواحف ومنهم من يتقذّر ذلك. وأهل مدينة تونس يأبون أكل لحم أنثى الضأن ولحم المعز، وأهل جزيرة شريك يستجيدون لحم المعز، وفي أهل الصحاري تُستجاد لحوم الإبل وألبانُها، وفي أهل الحضر من يكره ذلك، وكذلك دوابّ البحر وسلاحفه وحيّاته. والشريعة أوسع من ذلك كله فلا يقضي فيها طبع فريق على فريق. والمحرمات فيها من الطعوم ما يضر تناوله بالبدن أو العقل كالسموم والخمور والمخدرات كالأفيون والحشيشة المخدرة وما هو نجس الذات بحكم الشرع وما هو مستقذر كالنخامة وذرق الطيور وأرواث النعام وما عدا ذلك لا تجد فيه ضابطا للتحريم إلا المحرمات بأعيانها وما عداها فهو في قسم الحلال لمن شاء تناوله. والقول بأن بعضها حلال دون بعض بدون نص ولا قياس هو من القول على الله بما لا يعلمه القائل فما الذي سوغ الظبي وحرم الأرنب وما الذي سوغ السمكة وحرم حية البحر وما الذي سوغ الجمل وحرم الفرس وما الذي سوغ الضب والقنفذ وحرم السلحفاة وما الذي أحل الجراد وحرم الحلزون إلا أن يكون له نص صحيح أو نظر رجيح وما سوى ذلك فهو ريح. وغرضنا من هذا تنوير البصائر إذا اعترى التردد لأهل النظر في إناطة حظر أو إباحة بما لا نص فيه أو في مواقع المتشابهات.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في ذلك كلّه، وذلك بالوقوف عند حدوده تعالى في نوع الحيوان الَّذي يحل أكله، وفي شروط الصَّيد، فلا تبتعدوا عن شريعته في ذلك، فإنَّ للأكل تقواه في الحلال والحرام منه، كما لكل شيء تقواه في أعمال الإنسان العامة، ولا بُدَّ للإنسان من أن يحرّك التقوى في كل تفاصيل حياته ليكون في خط العبوديّة في حياته كلها. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} في ما يُحصيه من أعمال عباده ويُحاسبهم عليها لموافقتها أو مخالفتها لأوامره ونواهيه.