الأولى : قوله تعالى : " يسألونك " الآية نزلت بسبب عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل ، وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير ، قالا : يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما تقتله فلا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت الآية .
الثانية : قوله تعالى : " ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " " ما " في موضع رفع بالابتداء ، والخبر " أحل لهم " و " ذا " زائدة ، وإن شئت كانت بمعنى الذي ، ويكون الخبر " قل أحل لكم الطيبات " وهو الحلال ، وكل حرام فليس بطيب . وقيل : ما التذه آكله وشاربه ولم يكن عليه فيه ضرر في الدنيا ولا في الآخرة . وقيل : الطيبات الذبائح ؛ لأنها طابت بالتذكية .
الثالثة : قوله تعالى : " وما علمتم " أي وصيد ما علمتم ، ففي الكلام إضمار لا بد منه ، ولولاه لكان المعنى يقتضي أن يكون الحل المسؤول عنه متناولا للمعلم من الجوارح المكلبين ، وذلك ليس مذهبا لأحد ، فإن الذي يبيح لحم الكلب فلا يخصص الإباحة بالمعلم ، وسيأتي ما للعلماء في أكل الكلب في " الأنعام " {[5301]} إن شاء الله تعالى . وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تتناول ما علمناه من الجوارح ، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير ، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع ، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل ، وهو الأكل من الجوارح أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير ، وكان لعدي كلاب خمسة قد سماها بأسماء أعلام ، وكان أسماء أكلبه سلهب وغلاب والمختلس والمتناعس ، قال السهيلي : وخامس أشك ، قال فيه أخطب ، أو قال فيه وثاب .
الرابعة : أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم ، فينشلي إذا أشلي{[5302]} ويجيب إذ دعي ، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر ، وأن يكون لا يأكل من صيده الذي صاده ، وأثر فيه بجرح أو تنييب ، وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف ، فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف . فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير ، فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب . يقال : جرح فلان واجترح إذا اكتسب ، ومنه الجارحة لأنها يكتسب بها ، ومنه اجتراح السيئات . وقال الأعشى :
ذا جُبَار{[5303]} مُنْضِجًا مِيسَمُه *** يُذْكِرُ الجارح ما كان اجترحْ
وفي التنزيل " ويعلم ما جرحتم بالنهار{[5304]} " [ الأنعام : 60 ] وقال : " أم حسب الذين اجترحوا السيئات{[5305]} " [ الجاثية : 21 ] .
الخامسة : قوله تعالى : " مكلبين " معنى " مكلبين " أصحاب الكلاب وهو كالمؤدب صاحب التأديب . وقيل : معناه مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب . قال الرماني : وكلا القولين محتمل . وليس في " مكلبين " دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة ؛ لأنه بمنزلة قوله : " مؤمنين " وإن كان قد تمسك به من قصر الإباحة على الكلاب خاصة . روي عن ابن عمر فيما حكى ابن المنذر عنه قال : وأما ما يصاد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو لك حلال ، وإلا فلا تطعمه . قال ابن المنذر : وسئل أبو جعفر عن البازي يحل صيده قال : لا ، إلا أن تدرك ذكاته . وقال الضحاك والسدي : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " هي الكلاب خاصة ، فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي . وقال أحمد : ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما ، وبه قال إسحاق بن راهويه ، فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم ، أما من منع صيد الكلب الأسود فلقوله صلى الله عليه وسلم : ( الكلب الأسود شيطان ) ، أخرجه مسلم . احتج الجمهور بعموم الآية ، واحتجوا أيضا في جواز صيد البازي بما ذكر من سبب النزول ، وبما خرجه الترمذي عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال : ( ما أمسك عليك فكل ) . في إسناده مجالد ولا يعرف إلا من جهته وهو ضعيف . وبالمعنى وهو أن كل ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلا فلا فارق إلا فيما لا مدخل له في التأثير ، وهذا هو القياس في معنى الأصل ، كقياس السيف على المدية والأمة على العبد ، وقد تقدم .
السادسة : وإذا تقرر هذا فاعلم أنه لا بد للصائد أن يقصد عند الإرسال التذكية والإباحة ، وهذا لا يختلف فيه ؛ لقوله عليه السلام : ( إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل ) وهذا يقتضي النية والتسمية ، فلو قصد مع ذلك اللهو فكرهه مالك وأجازه ابن عبدالحكم ، وهو ظاهر قول الليث : ما رأيت حقا أشبه بباطل منه ، يعني الصيد ، فأما لو فعله بغير نية التذكية فهو حرام ؛ لأنه من باب الفساد وإتلاف حيوان لغير منفعة ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكلة . وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى أن التسمية لا بد منها بالقول عند الإرسال ؛ لقوله : ( وذكرت اسم الله ) فلو لم توجد على أي وجه كان لم يؤكل الصيد ؛ وهو مذهب أهل الظاهر وجماعة أهل الحديث . وذهبت جماعة من أصحابنا وغيرهم إلى أنه يجوز أكل ما صاده المسلم وذبحه وإن ترك التسمية عمدا ، وحملوا الأمر بالتسمية على الندب . وذهب مالك في المشهور إلى الفرق بين ترك التسمية عمدا أو سهوا فقال : لا تؤكل مع العمد وتؤكل مع السهو ؛ وهو قول فقهاء الأمصار ، وأحد قولي الشافعي ، وستأتي هذه المسألة في " الأنعام " {[5306]} إن شاء الله تعالى . ثم لا بد أن يكون انبعاث الكلب بإرسال من يد الصائد بحيث يكون زمامه بيده . فيخلي عنه ويغريه عليه فينبعث ، أو يكون الجارح ساكنا مع رؤيته الصيد فلا يتحرك له إلا بالإغراء من الصائد ، فهذا بمنزلة ما زمامه بيده فأطلقه مغريا له على أحد القولين ، فأما لو انبعث الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال ولا إغراء فلا يجوز صيده ولا يحل أكله عند الجمهور ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ؛ لأنه إنما صاد لنفسه من غير إرسال وأمسك عليها ، ولا صنع للصائد فيه ، فلا ينسب إرسال إليه ؛ لأنه لا يصدق عليه قوله عليه السلام : ( إذا أرسلت كلبك المعلم ) . وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي : يؤكل صيده إذا كان أخرجه للصيد .
السابعة : قرأ الجمهور " علمتم " بفتح العين واللام . وابن عباس ومحمد بن الحنفية بضم العين وكسر اللام ، أي من أمر الجوارح والصيد بها . والجوارح الكواسب ، وسميت أعضاء الإنسان جوارح ؛ لأنها تكسب وتتصرف . وقيل : سميت جوارح لأنها تجرح وتسيل الدم ، فهو مأخوذ من الجراح ، وهذا ضعيف ، وأهل اللغة على خلافه ، وحكاه ابن المنذر عن قوم . و " مكلبين " قراءة الجمهور بفتح الكاف وشد اللام ، والمكلب معلم الكلاب ومضريها{[5307]} . ويقال لمن يعلم غير الكلب : مكلب ؛ لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب ؛ حكاه بعضهم . ويقال للصائد : مكلب فعلى هذا معناه صائدين . وقيل : المكلب صاحب الكلاب ، يقال : كلب فهو مكلب وكلاب . وقرأ الحسن " مكلبين " بسكون الكاف وتخفيف اللام ، ومعناه أصحاب كلاب ، يقال : أمشى الرجل كثرت ماشيته ، وأكلب كثرت كلابه ، وأنشد الأصمعي{[5308]} :
وكُلٌّ فَتًى وإنْ أَمْشَى فَأَثْرَى *** سَتُخْلِجُهُ عن الدُّنْيَا مَنُونَ
الثامنة : قوله تعالى : " تعلمونهن مما علمكم الله " أنث الضمير مراعاة للفظ الجوارح ؛ إذ هو جمع جارحة . ولا خلاف بين العلماء في شرطين في التعليم وهما : أن يأتمر إذا أمر{[5309]} وينزجر إذا زجر ، لا خلاف في هذين الشرطين في الكلاب وما في معناها من سباع الوحوش .
واختلف فيما يصاد به من الطير ، فالمشهور أن ذلك مشترط فيها عند الجمهور . وذكر ابن حبيب أنه لا يشترط فيها أن تنزجر إذا زجرت ، فإنه لا يتأتى ذلك فيها غالبا ، فيكفي أنها إذا أمرت أطاعت . وقال ربيعة : ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري ؛ لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي{[5310]} . وقد شرط الشافعي وجمهور من العلماء في التعليم أن يمسك على صاحبه ، ولم يشترطه مالك في المشهور عنه . وقال الشافعي : المعلم هو الذي إذا أشلاه صاحبه انشلى ، وإذا دعاه إلى الرجوع رجع إليه ، ويمسك الصيد على صاحبه ولا يأكل منه ، فإذا فعل هذا مرارا وقال أهل العرف : صار معلما فهو المعلم . وعن الشافعي أيضا والكوفيين : إذا أشلي فانشلى وإذا أخذ حبس وفعل ذلك مرة بعد مرة أكل صيده في الثالثة . ومن العلماء من قال : يفعل ذلك ثلاث مرات ويؤكل صيده في الرابعة . ومنهم من قال : إذا فعل ذلك{[5311]} مرة فهو معلم ويؤكل صيده في الثانية .
التاسعة : قوله تعالى : " فكلوا مما أمسكن عليكم " أي حبسن لكم . واختلف العلماء في تأويله ؛ فقال ابن عباس وأبو هريرة والنخعي وقتادة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه : المعنى ولم يأكل ، فإن أكل لم يؤكل ما بقي ؛ لأنه أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه . والفهد عند أبي حنيفة وأصحابه كالكلب ولم يشترطوا ذلك في الطيور بل يؤكل ما أكلت منه . وقال سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر وسلمان الفارسي وأبو هريرة أيضا : المعنى وإن أكل ، فإذا أكل الجارح كلبا كان أو فهدا أو طيرا أكل ما بقي من الصيد وإن لم يبق إلا بضعة ، وهذا قول مالك وجميع أصحابه ، وهو القول الثاني للشافعي ، وهو القياس . وفي الباب حديثان بمعنى ما ذكرنا أحدهما : حديث عدي في الكلب المعلم ( وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ) أخرجه مسلم . الثاني : حديث أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب : ( إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك ) أخرجه أبو داود ، وروي عن عدي ولا يصح ؛ والصحيح عنه حديث مسلم ، ولما تعارضت الروايتان رام بعض أصحابنا وغيرهم الجمع بينهما فحملوا حديث النهي على التنزيه والورع ، وحديث الإباحة على الجواز ، وقالوا : إن عديا كان موسعا عليه فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بالكف ورعا ، وأبا ثعلبة كان محتاجا فأفتاه بالجواز . والله أعلم . وقد دل على صحة هذا التأويل قول عليه الصلاة والسلام في حديث عدي : ( فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ) هذا تأويل علمائنا . وقال أبو عمر في كتاب " الاستذكار " : وقد عارض حديث عدي هذا حديث أبي ثعلبة ، والظاهر أن حديث أبي ثعلبة ناسخ له ، فقوله : وإن أكل يا رسول الله ؟ قال : ( وإن أكل ) . قلت : هذا فيه نظر ؛ لأن التاريخ مجهول ، والجمع بين الحديثين أولى ما لم يعلم التاريخ ، والله أعلم . وأما أصحاب الشافعي فقالوا : إن كان الأكل عن فرط جوع من الكلب أكل وإلا لم يؤكل ؛ فإن ذلك من سوء تعليمه . وقد روي عن قوم من السلف التفرقة بين ما أكل منه الكلب والفهد فمنعوه ، وبين ما أكل منه البازي فأجازوه ، قاله النخعي والثوري وأصحاب الرأي وحماد بن أبي سليمان ، وحكي عن ابن عباس وقالوا : الكلب والفهد يمكن ضربه وزجره ، والطير لا يمكن ذلك فيه ، وحد تعليمه أن يدعى فيجيب ، وأن يشلى فينشلي ، لا يمكن فيه أكثر من ذلك ، والضرب يؤذيه .
العاشرة : والجمهور من العلماء عل أن الجارح إذا شرب من دم الصيد أن الصيد يؤكل ، قال عطاء : ليس شرب الدم بأكل ، وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري ، ولا خلاف بينهم أن سبب إباحة الصيد الذي هو عقر الجارح له لا بد أن يكون متحققا غير مشكوك فيه ، ومع الشك لا يجوز الأكل ، وهي :
الحادية عشرة : فإن وجد الصائد مع كلبه كلبا آخر فهو محمول على أنه غير مرسل من صائد آخر ، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه ، ولا يختلف في هذا ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : ( وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل - في رواية - فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره ) . فأما لو أرسله صائد آخر فاشترك الكلبان فيه فإنه للصائدين يكونان شريكين فيه . فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله ثم جاء الآخر فهو للذي أنفذ مقاتله ، وكذلك لا يؤكل ما رمي بسهم فتردى من جبل أو غرق في ماء ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي : ( وإن رميت بسهمك فأذكر اسم الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل ، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ) . وهذا نص .
الثانية عشرة : لو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير بضع لم يؤكل ؛ لأنه مات خنقا فأشبه أن يذبح بسكين كالة فيموت في الذبح قبل أن يفرى حلقه . ولو أمكنه أخذه من الجوارح وذبحه فلم يفعل حتى مات لم يؤكل ، وكان مقصرا في الذكاة ؛ لأنه قد صار مقدورا على ذبحه ، وذكاة المقدور عليه تخالف ذكاة غير المقدور عليه . ولو أخذه ثم مات قبل أن يخرج السكين ، أو تناولها وهي معه جاز أكله ، ولو لم تكن السكين معه فتشاغل بطلبها لم تؤكل . وقال الشافعي : فيما نالته الجوارح ولم تدمه قولان أحدهما : إلا يؤكل حتى يجرح ؛ لقوله تعالى : " من الجوارح " وهو قول ابن القاسم ؛ والآخر : أنه حر وهو قول أشهب ، قال أشهب : إن مات من صدمة الكلب أكل .
الثالثة عشرة : قوله : ( فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل ) ونحوه في حديث أبي ثعلبة الذي خرجه أبو داود ، غير أنه زاد ( فكله بعد ثلاث ما لم ينتن ) يعارضه قوله عليه السلام : ( كل ما أصميت ودع ما أنميت ) . فالإصماء ما قتل مسرعا وأنت تراه ، والإنماء أن ترمي الصيد فيغيب ، عنك فيموت وأنت لا تراه ، يقال : قد أنميت الرمية فنمت تنمي إذا غابت ثم ماتت ، قال امرؤ القيس :
فهو لا تنمِي رمِيَّتُه *** ماله لا عُدَّ من نفَرِهْ
وقد اختلف العلماء في أكل الصيد الغائب على ثلاثة أقوال : يؤكل ، وسواء قتله السهم أو الكلب . الثاني : لا يؤكل شيء من ذلك إذا غاب ؛ لقوله : ( كل ما أصميت ودع ما أنميت ) . وإنما لم يؤكل مخافة أن يكون قد أعان على قتله غير السهم من الهوام . الثالث : الفرق بين السهم فيؤكل وبين الكلب فلا يؤكل ، ووجهه أن السهم يقتل على جهة واحدة فلا يشكل ، والجارح على جهات متعددة فيشكل ، والثلاثة الأقوال لعلمائنا .
وقال مالك في غير الموطأ : إذا بات الصيد ثم أصابه ميتا لم ينفذ البازي أو الكلب أو السهم مقاتله لم يأكله ، قال أبو عمر : فهذا يدلك على أنه إذا بلغ مقاتله كان حلالا عنده أكله وإن بات ، إلا أنه يكرهه إذا بات ؛ لما جاء عن ابن عباس : " وإن غاب عنك ليلة فلا تأكل " ونحوه عن الثوري قال : إذا غاب عنك يوما كرهت أكله . وقال الشافعي : القياس ألا يأكله إذا غاب عنه مصرعه . وقال الأوزاعي : إن وجده من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا من كلبه فليأكله ، ونحوه قال أشهب وعبدالملك وأصبغ ، قالوا : جائز أكل الصيد وإن بات إذا نفذت مقاتله ، وقوله في الحديث : ( ما لم ينتن ) تعليل ؛ لأنه إذا أنتن لحق بالمستقذرات التي تمجها الطباع فيكره أكلها ، فلو أكلها لجاز ، كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم الإهالة{[5312]} السنخة وهي المنتنة . وقيل : هو معلل بما يخاف منه الضرر على آكله ، وعلى هذا التعليل يكون أكله محرما إن كان الخوف محققا ، والله أعلم .
الرابعة عشرة : واختلف العلماء من هذا الباب في الصيد بكلب اليهودي والنصراني إذا كان معلما ، فكرهه الحسن البصري ، وأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبدالله والحسن وعطاء ومجاهد والنخعي والثوري وإسحاق ، وأجاز الصيد بكلابهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إذا كان الصائد مسلما . قالوا : وذلك مثل شفرته . وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك ، وفرق بين ذلك وبين ذبيحته ، وتلا : " يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم{[5313]} " [ المائدة : 94 ] ، قال : فلم يذكر الله في هذا اليهود ولا النصارى . وقال ابن وهب وأشهب : صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته ، وفي كتاب محمد : لا يجوز صيد الصابئ ولا ذبحه ، وهم قوم بين اليهود والنصارى ولا دين لهم . وأما إن كان الصائد مجوسا فمنع من أكله مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور الناس . وقال أبو ثور فيها قولان : أحدهما : كقول هؤلاء ، والآخر : أن المجوس من أهل الكتاب وأن صيدهم جائز . ولو اصطاد السكران أو ذبح لم يؤكل صيده ولا ذبيحته ؛ لأن الذكاة تحتاج إلى قصد ، والسكران لا قصد له .
الخامسة عشرة : واختلف النحاة في " من " في قوله تعالى : " مما أمسكن عليكم " فقال الأخفش : هي زائدة كقوله : " كلوا من ثمره{[5314]} " [ الأنعام : 141 ] . وخطأه البصريون وقالوا : " من " لا تزاد في الإثبات وإنما تزاد في النفي والاستفهام ، وقوله : " من ثمره " ، " يكفر عنكم من سيئاتكم{[5315]} " [ البقرة : 271 ] و " يغفر لكم من ذنوبكم{[5316]} " [ الأحقاف : 31 ] للتبعيض ، أجاب فقال : قد قال : " يغفر لكم من ذنوبكم " [ نوح : 4 ] بإسقاط " من " فدل على زيادتها في الإيجاب ، أجيب بأن " من " ههنا للتبعيض ؛ لأنه إنما يحل من الصيد اللحم دون الفرث والدم .
قلت : هذا ليس بمراد ولا معهود في الأكل فيعكر على ما قال . ويحتمل أن يريد " مما أمسكن " أي مما أبقته الجوارح لكم ، وهذا على قول من قال : لو أكل الكلب الفريسة لم يضر وبسبب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل الجارح منه على ما تقدم .
السادسة عشرة : ودلت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد ، وثبت ذلك في صحيح السنة وزادت الحرث والماشية ، وقد كان أول الإسلام أمر بقتل الكلاب حتى كان يقتل كلب المرية{[5317]} من البادية يتبعها ، روى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان ) . وروي أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط ) . قال الزهري : وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال : يرحم الله أبا هريرة ، كان صاحب زرع ، فقد دلت السنة على ما ذكرنا ، وجعل النقص من أجر من أقتناها على غير ذلك من المنفعة ، إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه - كما قال بعض شعراء البصرة ، وقد نزل بعمار فسمع لكلابه نباحا فأنشأ يقول :
نزلنا بِعَمَّارٍ{[5318]} فأشْلَى كلابَهُ *** علينا فكدنا بين بيتيه نُؤْكَلُ
فقلت لأصحابي أسِرُّ إليهم *** أَذَا اليوم أم يوم القيامة أطولُ ؟
أو لمنع دخول الملائكة البيت ، أو لنجاسته على ما يراه الشافعي ، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه ، والله أعلم . وقال في إحدى الروايتين : ( قيراطان ) وفي الأخرى ( قيراط ) وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر ، كالأسود الذي أمر عليه الصلاة والسلام بقتله ، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها فقال : ( عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان ) أخرجه مسلم . ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع ، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان ، وبغيرهما قيراط ، والله أعلم . وأما المباح اتخاذه فلا ينقص أجر متخذه كالفرس والهر ، ويجوز بيعه وشراؤه ، حتى قال سحنون : ويحج بثمنه . وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها لا الذي يحفظها في الدار من السراق . وكلب الزرع هو الذي يحفظه من الوحوش بالليل والنهار لا من السراق . وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع والدار في البادية .
السابعة عشرة : وفي هذه الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل ؛ لأن الكلب إذا علم يكون له فضيلة على سائر الكلاب ، فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس ، لا سيما إذا عمل بما علم ، وهذا كما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال : لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يحسنه .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : " واذكروا اسم الله عليه " أمر بالتسمية ؛ قيل : عند الإرسال على الصيد ، وفقه الصيد والذبح في معنى{[5319]} التسمية واحد ، يأتي بيانه في " الأنعام " {[5320]} . وقيل : المراد بالتسمية هنا التسمية عند الأكل ، وهو الأظهر . وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن أبي سلمة : ( يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ) . وروي من حديث حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان ليستحل الطعام إلا يذكر اسم الله عليه ) الحديث . فإن نسي التسمية أول الأكل فليسم آخره ، وروى النسائي عن أمية بن مخشي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل ولم يسم الله ، فلما كان في آخر لقمة قال : بسم الله أوله وآخره ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما زال الشيطان يأكل معه فلما سمى قاء ما أكله ) .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : " واتقوا الله " أمر بالتقوى على الجملة ، والإشارة القريبة هي ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر . وسرعة الحساب هي من حيث كونه تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا ، فلا يحتاج إلى محاولة عد ولا عقد كما يفعله الحساب ؛ ولهذا قال : " وكفى بنا حاسبين{[5321]} " [ الأنبياء : 47 ] فهو سبحانه يحاسب الخلائق دفعة واحدة . ويحتمل أن يكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال : إن حساب الله لكم سريع إتيانه ؛ إذ يوم القيامة قريب ، ويحتمل أن يريد بالحساب المجازاة ؛ فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتقوا الله .