قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } وهذا أيضا متصل بما تقدم من ذكر المطاعم والمآكل ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف : في السؤال معنى القول ، فلذلك وقع بعده { ماذا أحل لهم } كأنه قيل : يقولون لك ماذا أحل لهم ، وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه .
واعلم أن هذا ضعيف لأنه لو كان هذا حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا ماذا أحل لهم ، ومعلوم أن هذا باطل لأنهم لا يقولون ذلك ، بل إنما يقولون ماذا أحل لنا ، بل الصحيح أن هذا ليس حكاية لكلامهم بعبارتهم ، بل هو بيان لكيفية الواقعة .
المسألة الثانية : قال الواحدي : { ماذا } إن جعلته اسما واحدا فهو رفع بالابتداء ، وخبره { أحل } وإن شئت جعلت { ما } وحدها اسما ، ويكون خبرها { ذا } و{ أحل } من صلة { ذا } لأنه بمعنى : ما الذي أحل لهم .
المسألة الثالثة : أن العرب في الجاهلية كانوا يحرمون أشياء من الطيبات كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام . فهم كانوا يحكمون بكونها طيبة إلا أنهم كانوا يحرمون أكلها لشبهات ضعيفة ، فذكر تعالى أن كل ما يستطاب فهو حلال ، وأكد هذه الآية بقوله { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } وبقوله { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } .
واعلم أن الطيب في اللغة هو المستلذ ، والحلال المأذون فيه يسمى أيضا طيبا تشبيها بما هو مستلذ ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة ، فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات هاهنا المحللات ، وإلا لصار تقدير الآية : قل أحل لكم المحلللات ، ومعلوم أن هذا ركيك ، فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهى ، فصار التقدير : أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى .
ثم اعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة ، فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات ، ويتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض ، إلا أنه أدخل التخصيص في ذلك العموم فقال { ويحرم عليهم الخبئث } ونص في هذه الآيات الكثيرة على إباحة المستلذات والطيبات فصار هذا أصلا كبيرا ، وقانون مرجوعا إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة ، منها أن لحم الخيل مباح عند الشافعي رحمه الله . وقال أبو حنيفة رحمه الله ليس بمباح . حجة الشافعي رحمه الله أنه مستلذ مستطاب ، والعلم به ضروري ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالا لقوله { أحل لكم الطيبات } ومنها أن متروك التسمية عند الشافعي رحمه الله مباح ، وعند أبي حنيفة حرام ، حجة الشافعي رحمه الله أنه مستطاب مستلذ ، فوجب أن يحل لقوله { أحل لكم الطيبات } ويدل أيضا على صحة قول الشافعي رحمه الله في هاتين المسألتين قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } استثنى المذكاة بما بين اللبة والصدر ، وقد حصل ذلك في الخيل ، فوجب أن تكون مذكاة ، فوجب أن تحل لعموم قوله : { إلا ما ذكيتم } وأما في متروك التسمية فالذكاة أيضا حاصلة لأنا أجمعنا على أنه لو ترك التسمية ناسيا فهي مذكاة ، وذلك يدل على أن ذكر الله تعالى باللسان ليس جزءا من ماهية الذكاة ، وإذا كان كذلك كان الإتيان بالذكاة بدون الإتيان بالتسمية ممكنا ، فنحن مثلكم فيما إذا وجد ذلك ، وإذا حصلت الذكاة دخل تحت قوله { إلا ما ذكيتم } ومنها أن لحم الحمر الأهلية مباح عند مالك وعند بشر المريسي وقد احتجا بهايتن الآيتين ، إلا أنا نعتمد في تحريم ذلك على ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر .
ثم قال تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله }
المسألة الأولى : في هذه الآية قولان : الأول : أن فيها إضمارا ، والتقدير أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين ، فحذف الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه ، وهو قوله { فكلوا مما أمسكن عليكم } . الثاني : أن يقال إن قوله { وما علمتم من الجوارح مكلبين } ابتداء كلام ، وخبره هو قوله { فكلوا مما أمسكن عليكم } وعلى هذا التقدير يصح الكلام من غير حذف وإضمار .
المسألة الثانية : في الجوارح قولان : أحدهما : أنها الكواسب من الطير والسباع ، واحدها جارحة ، سميت جوارح لأنها كواسب من جرح واجترح إذا اكتسب ، قال تعالى : { الذين اجترحوا السيئات } أي اكتسبوا ، وقال { ويعلم ما جرحتم بالنهار } أي ما كسبتم . والثاني : أن الجوارح هي التي تجرح ، وقالوا : أن ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل .
المسألة الثالثة : نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي ، أن ما صاده غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله ، وتمسكوا بقوله تعالى : { مكلبين } قالوا : لأن التخصيص يدل على كون هذا الحكم مخصوصا به ، وزعم الجمهور أن قوله { وما علمتم من الجوارح } يدخل فيه كل ما يمكن الإصطياد به ، كالفهد والسباع من الطير : مثل الشاهين والباشق والعقاب ، قال الليث : سئل مجاهد عن الصقر والبازي والعقاب والفهد وما يصطاد به من السباع ، فقال : هذه كلها جوارح . وأجابوا عن التمسك بقوله تعالى : { مكلبين } من وجوه : الأول : أن المكلب هو مؤدب الجوارح ومعلمها أن تصطاد لصاحبها ، وإنما اشتق هذا الاسم من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ، فاشتق منه هذا اللفظ لكثرته في جنسه . الثاني : أن كل سبع فإنه يسمى كلبا ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد » . الثالث : أنه مأخوذ من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة ، يقال فلان : كلب بكذا إذا كان حريصا عليه . والرابع : هب أن المذكور في هذه الآية إباحة الصيد بالكلب ، لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره ، بدليل أن الاصطياد بالرمي ووضع الشبكة جائز ، وهو غير مذكور في الآية والله أعلم .
المسألة الرابعة : دلت الآية على أن الاصطياد بالجوارح إنما يحل إذا كانت الجوارح معلمة ، لأنه تعالى قال : { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله } وقال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل » قال الشافعي رحمه الله : والكلب لا يصير معلما إلا عند أمور ، وهي إذا أرسل استرسل ، وإذا أخذ حبس ولا يأكل ، وإذا دعاه أجابه ، وإذا أراده لم يفر منه ، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم ، ولم يذكر رحمه الله فيه حدا معينا ، بل قال : أنه متى غلب على الظن أنه تعلم حكم به قال لأن الاسم إذا لم يكن معلوما من النص أو الإجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أظهر الروايات . وقال الحسن البصري رحمه الله : يصير معلما بمرة واحدة ، وعن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى أنه يصير معلما بتكرير ذلك مرتين ، وهو قول أحمد رحمه الله ، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله : أنه يصير معلما بثلاث مرات .
المسألة الخامسة : الكلاب والمكلب هو الذي يعلم الكلاب الصيد ، فمكلب صاحب التكليب كمعلم صاحب التعليم ، ومؤدب صاحب التأديب . قال صاحب الكشاف : وقرئ مكلبين بالتخفيف ، وأفعل وفعل يشتركان كثيرا .
المسألة السادسة : انتصاب مكلبين على الحال من { علمتم } .
فإن قيل : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم ؟
قلنا : فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح تحريرا في علمه مدربا فيه موصوفا بالتكليب { وتعلمونهن } حال ثانية أو استئناف ، والمقصود منه المبالغة في اشتراط التعليم .
ثم قال تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أنه إذا كان الكلب معلما ثم صاد صيدا وجرحه وقتله وأدركه الصائد ميتا فهو حلال ، وجرح الجارحة كالذبح ، وكذا الحكم في سائر الجوارح المعلمة . وكذا في السهم والرمح ، أما إذا صاده الكلب فجثم عليه وقتله بالفم من غير جرح فقال بعضهم : لا يجوز أكله لأنه ميتة . وقال آخرون : يحل لدخوله تحت قوله { فكلوا مما أمسكن عليكم } وهذا كله إذا لم يأكل ، فإن أكل منه فقد اختلف فيه العلماء ، فعند ابن عباس وطاوس والشعبي وعطاء والسدي أنه لا يحل ، وهو أظهر أقوال الشافعي ، قالوا : لأنه أمسك الصيد على نفسه ، والآية دلت على أنه إنما يحل إذا أمسكه على صاحبه ، ويدل عليه أيضا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي ابن حاتم : «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أدركته ولم يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه ، وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك ، وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئا فإنما أمسك على نفسه » وقال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم : إنه يحل وإن أكل ، وهو القول الثاني للشافعي رحمه الله . واختلفوا في البازي إذا أكل ، فقال قائلون : إنه لا فرق بينه وبين الكلب ، فإن أكل شيئا من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني : يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب ، الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب ، ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل .
المسألة الثانية : " من " قوله { مما أمسكن } فيه وجهان : الأول : أنه صلة زائدة كقوله { كلوا من ثمره إذا أثمر } والثاني : أنه للتبعيض ، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان : الأول : أن الصيد كله لا يؤكل فإن لحمه يؤكل ، أما عظمه ودمه وريشه فلا يؤكل . الثاني : أن المعنى كلوا مما تبقى لكم الجوارح بعد أكلها منه ، قالوا : فالآية دالة على أن الكلب إذا أكل من الصيد كانت البقية حلالا ، قالوا وإن أكله من الصيد لا يقدح في أنه أمسكه على صاحبه لأن صفة الإمساك هو أن يأخذ الصيد ولا يتركه حتى يذهب ، وهذا المعنى حاصل سواء أكل منه أو لم يأكل منه .
ثم قال تعالى { واذكروا اسم الله عليه } وفيه أقوال : الأول : أن المعنى : سم الله إذا أرسلت كلبك . وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل » وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله { عليه } عائد إلى { ما علمتم من الجوارح } أي سموا عليه عند إرساله .
القول الثاني : الضمير عائد إلى ما أمسكن ، يعني سموا عليه إذا أدركتم ذكائه .
الثالث : أن يكون الضمير عائدا إلى الأكل ، يعني واذكروا اسم الله على الأكل ، روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر ابن أبي سلمة «سم الله وكل مما يليك » .
واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله أن متروك التسمية عامدا يحل أكله ، فإن حملنا هذه الآية على الوجه الثالث فلا كلام ، وإن حملناه على الأول والثاني كان المراد من الأمر الندب توفيقا بينه وبين النصوص الدالة على حله ، وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى في تفسير قوله { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } .
ثم قال تعالى { واتقوا الله إن الله سريع الحساب } أي واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل ما أحله وتحريم ما حرمه .