محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (4)

[ 4 ] { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب ( 1 ) } .

{ يسألونك ماذا أحل لهم } أي : من المطاعم { قل أحل لكم الطيبات } أي : ما ليس بخبيث منها . وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة . و { الطيب } في اللغة هو المستلذ . و { الحلال } المأذون فيه ، يسمى طيبا تشبيها بما هو مستلذ . لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة { وما علمتم من الجوارح } عطف على { الطيبات } بتقدير مضاف . أي : وصيد ما علمتموه . أو مبتدأ ، على أن { ما } شرطية وجوابها { فكلوا } . و { الجوارح } : الكواسب من سباع البهائم والطير- كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين- لأنها تجرح لأهلها أي تكسب لهم . الواحدة جارحة . تقول العرب : فلان جرح أهله خيرا ، أي : كسبهم خيرا . وفلان لا جارح له . أي : لا كاسب . ومنه قوله تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار }{[2795]} . أي : كسبتم . وقيل : سميت { جوارح } لأنها تجرح الصيد عند إمساكه . وقوله تعالى : { مكلبين } أي : معلمين لها أن تستشلي إذا أشليت ، وتنزجر إذا زجرت ، وتجتنب عند الدعوة ، ولا تنفر عند الإرادة ، فتصير كأنها وكلاؤكم لتعلمهن . إلا إذا قتلت بأنفسها من غير تعليم ، فلا يحل صيدها .

قال الزمخشري : { المكلب } مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها / لذلك ، بما علم من الحيل ورق التأديب والتثقيف . واشتقاقه من ( الكلب ) لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب . فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه . أو لأن السبع يسمى كلبا . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك . فأكله الأسد " . ( الحديث حسن ، أخرجه الحاكم ) ، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة ، يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به . وانتصاب { مكلبين } على الحال من { علمتم } . فإن قلت : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى ب { علمتم } ؟ قلت : فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه ، مدربا فيه ، موصوفا بالتكليب . وقوله تعالى : { تعلمونهن } حال ثانية أو استئناف ، وفيه فائدة جليلة . وهي أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علما ، وأنحرهم دراية ، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه . وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل . فكم من آخذ ، عن غير متقن ، قد ضيع أيامه ، وعض عند لقاء النحارير أنامله { مما علمكم الله } أي : من علم التكليب . لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل . أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه . وانزجاره بزجره . وانصرافه بدعائه . وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه . انتهى .

وقال الناصر في ( الانتصاف ) : وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم . لأن تعليمها ، معناه لغة ، تحصيل العلم لها بطرقه . خلافا لمنكري ذلك .

{ فكلوا مما أمسكن عليكم } أي : صدن لكم وإن قتلنه بأن لم يأكلن منه { واذكروا اسم الله عليه } الضمير يرجع إلى { ما علمتم من الجوارح } أي : سموا عليه عند إرساله ، كما بينه حديث أبي ثعلبة وعدي الآتي . وجوز رجوعه إلى { ما أمسكن } على معنى : وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته { واتقوا الله } أي بالأكل مما فقد فيه شرط من هذه الشرائط استعجالا إليها { إن الله سريع الحساب } أي : المجازاة على كل ما جل ودق .

/ تنبيهات

الأول : روى ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين . سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : " يا رسول الله  ! قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } ؛ قال سعيد : يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم " ؛ وقال مقاتل : ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه ، وهو الحلال من الرزق . وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي ؟ فقال : ليس هو من الطيبات ، رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن وهب : سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس ؟ فقال : ليس هو من الطيبات . وروى ابن أبي حاتم في سبب نزولها أثرا آخر ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب فقتلت ، فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله  ! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ، فسكت . فأنزل الله : { يسألونك . . . } الآية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه ، فليأكل مما لم يأكل " .

وعند ابن جرير{[2796]} عن أبي رافع قال : " جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه ، فأذن له . فقال : قد أذنا لك يا رسول الله  ! قال : أجل . ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب . قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة . حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها . ثم جئت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته . فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاؤوا فقالوا : يا رسول الله  ! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأنزل الله عز وجل : { يسألونك . . . } الآية " .

/ ورواه الحاكم في ( مستدركه ) وقال : صحيح ولم يخرجاه .

وروى ابن جرير{[2797]} أيضا عن عكرمة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي . فجاء عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة فقالوا : ماذا أحل لنا يا رسول الله ؟ فنزلت الآية " . ورواه الحاكم أيضا عن عكرمة . وكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزولها : أنه في قتل الكلاب- أفاده ابن كثير .

قال بعض المفسرين : لما نزلت الآية ، أذن صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها . وأمر بقتل العقور وما يضر . انتهى .

أقول : روى الإمام أحمد ومسلم{[2798]} عن جابر قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب . حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله ، ثم نهى رسول الله عن قتلها وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النقطين فإنه شيطان " .

وروى الشيخان{[2799]} عن ابن عمر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب . إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية " .

وعن عبد الله بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها . فاقتلوا منها كل أسود بهيم " . رواه أبو داود{[2800]} والدارمي ، وزاد / الترمذي{[2801]} والنسائي{[2802]} : " وما من أهل بيت يرتبطون كلبا إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط . إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم " .

وظاهر هذه الأحاديث ؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان أمر بقتلها كلها . ثم رخص في استبقائها . إلا الأسود فإنه مستحق القتل .

وقول إمام الحرمين : ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جماع الكلاب حيث لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم- يحتاج إلى برهان .

قال ابن عبد البر : في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية . وكذلك للزرع . لأنها زيادة حافظ . وكراهة اتخاذها لغير ذلك . إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر ، اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسا ، فتمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة ، لما فيه من ترويع الناس ، وامتناع دخول الملائكة على البيت الذي الكلاب فيه .

ثم قال : ووجه الحديث عندي ؛ أن المعاني المتعبد بها في الكلاب . من غسل الإناء سبعا ، لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها ، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك .

وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث ؟ فلم يعرفه . فقال المنصور : لأنه ينبح الضيف ويروع السائل . انتهى .

وقال الخطابي : معنى ( قوله صلى الله عليه وسلم : لولا أن الكلاب أمة من الأمم . . . الخ ) . أنه صلى الله عليه وسلم كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق ، لأنه ما من خلق لله تعالى إلا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة . يقول : إذا كان الأمر على هذا ، ولا سبيل إلى قتلهن ، فاقتلوا أشرارهن وهي السود البهم . وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهن في الحراسة .

/ وقال الطيبي : قوله ( أمة من الأمم ) إشارة إلى قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم }{[2803]} . أي : أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له . قال تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده }{[2804]} . أي : يسبح بلسان القال أو الحال . حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وتنزيهه عما لا يجوز عليه ، فبالنظر إلى هذا المعنى ، لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء . ولكن إذا كان لدفع مضرة- كقتل الفواسق الخمس- أو جلب منفعة- كذبح الحيوانات المأكولة- جاز ذلك .

الثاني :

ذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة إلى أن الجوارح التي يحل صيدها ، ما قبل التعليم من ذي ناب ( كالكلب والفهد والنمر ) أو ذي مخلب ( كالطيور المذكورة قبل ) . قال في ( النهاية ) : حتى الهر إن تعلم ، واحتجوا بعموم الآية .

وروى أحمد{[2805]} وأبو داود عن مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه ، فكل ما أمسك عليك . قلت : وإن قتل ؟ قال : وإن قتل ولم يأكل منه شيئا . فإنما أمسكه عليك " .

/ قال البيهقي : تفرد مجالد بذكر الباز فيه ، وخالف الحفاظ .

أقول : روى ابن جرير بالسند المذكور إلى عدي قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي ؟ فقال : ما أمسك عليك فكل " . وعن ابن عمر ومجاهد : " لا يحل إلا صيد الكلب فقط " . روى ابن جرير{[2806]} بسنده ، أن ابن عمر قال : " أما ما صاد من الطير ( والبزاة من الطير ) فما أدركت فهو لك . وإلا فلا تطعمه " . وقال ابن أبي حاتم : كره مجاهد صيد الطير كله ، وقرأ قوله : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } . أي : فإن قوله تعالى { مكلبين } يشير إلى قصر ذلك على الكلب . وقال الحسن البصري والنخعي وأحمد وإسحاق : يحل من كل شيء إلا الكلب الأسود البهيم . لأنه قد أمر بقتله .

الثالث : قدمنا أن انتصاب { مكلبين } على الحال من { علمتم } . قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو { الجوارح } أي : وما علمتم من الجوارح في حال / كونهن مكلبات للصيد ، وذلك أن تصيد بمخالبها وأظفارها . فيستدل بذلك ، والحالة هذه ، على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره ، أنه لا يحل . كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء . ولهذا قال { تعلمونهن مما علمكم الله } وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا استشلاه استشلي ، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ، ولا يمسكه لنفسه . ولهذا قال تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } . فمتى كان الجارح معلما وأمسك على صاحبه- وكان ذكر اسم الله عليه وقت إرساله- حل الصيد وإن قتله ، بالإجماع .

وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة . كما ثبت في ( الصحيحين ) {[2807]}

/ عن عدي بن حاتم قال : " قلت : يا رسول الله  ! إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله ؟ فقال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك . قلت : وإن قتلن ؟ قال : وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس منها . فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره . قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد ؟ فقال : إذا رميت بالمعراض الصيد فخزق فكله ، فإن أصابه بعرض ، فإنه وقيذ ، فلا تأكله " . / وفي لفظ لهما : " إذا أرسلت كلبك فاذكر الله . فإن أمسك عليك فأدركته حيا ، فاذبحه . وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه ، فكله . وإن أخذ الكلب ذكاته " . وفي رواية لهما : " فإن أكل فلا تأكله . فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " . فهذا دليل للجمهور أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا . ولم يستفصلوا . كما ورد بذلك الحديث . وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقا . أكل أو لم يأكل .

/ روى ابن جرير{[2808]} عن سلمان الفارسي وأبي هريرة قالا : " كل وإن أكل ثلثيه " . وعن سعد بن أبي وقاص : " . . . وإن أكل ثلثيه " . وعنه : . . . " وإن لم يبق إلا بضعة " . وعن ابن عمر : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك . أكل أو لم يأكل " . وحكاه عن علي وابن عباس وغير واحد من التابعين .

وروي ذلك مرفوعا أيضا . أخرج أبو داود{[2809]} عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " أن أعرابيا ، يقال له أبو ثعلبة ، قال : يا رسول الله  ! إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها . /قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن كان لك كلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن عليك . فقال : ذكي وغير ذكي ، وإن أكل منه ؟ قال : نعم وإن أكل منه . فقال : يا رسول الله  ! أفتني في قوسي  ! فقال : كل ما وردت عليك قوسك . قال : ذكي وغير ذكي ؟ قال : وإن تغيب عنك ما لم يضل أو تجد فيه أثرا غير سهمك . قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها . قال : اغسلها وكل فيها " . هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي . وكذا رواه أبو داود{[2810]} عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله ، فكل وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك " .

وقد احتج بما ذكرنا من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه ، وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم . لحديث عدي ، وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم . وأما إن أمسكه ، ثم انتظر صاحبه ، فطال عليه ، وجاع فأكل منه لجوعه ، فإنه لا يؤثر في التحريم . وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة . وهذا تفريق حسن ، وجمع بين الحديثين ، صحيح .

وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه ( النهاية ) : أن لو فصل مفصل هذا التفصيل . وقد حقق الله أمنيته ، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب . أفاده ابن كثير .

قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : وسلك الناس في الجمع بين حديث عدي وأبي ثعلبة طرقا منها للقائلين بالتحريم ( الأولى ) حمل حديث أبي ثعلبة الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه ، و ( الثانية ) الترجيح ، فرواية عدي في ( الصحيحين ) ورواية الأعرابي في غيرهما . ومختلف في تضعيفها . وأيضا ، فرواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم . وهو خوف الإمساك على نفسه ، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم . فإذا / شككنا في السبب المبيح ، رجعنا إلى الأصل ولظاهر الآية المذكورة . فإن مقتضاها أن الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح . ويتقوى أيضا بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد : {[2811]} " إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد ، فلا تأكل . فإنما أمسك على نفسه . فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل ، فكل . فإنما أمسك على صاحبه " . وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس . وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع ، نحوه بمعناه . ولو كان مجرد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة { عليكم } في الآية . وأما القائلون بالإباحة ، فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه ، وحديث الأعرابي على بيان الجواز . قال بعضهم : ومناسبة ذلك أن عديا كان موسرا . فاختير له الحمل على الأولى . بخلاف أبي ثعلبة ، فإنه كان بعكسه . ولا يخفى ضعف هذا التمسك ، مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه . وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة : " إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يعلم ما علمته " . وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله ، دل على أنه ليس يعلم التعليم المشترط .

الرابع : في الآية مشروعية التسمية . قال ابن كثير : قوله تعالى : { اذكروا اسم الله عليه } ، أي عند إرساله له ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم{[2812]} لعدي بن حاتم : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك " . وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في ( الصحيحين ) {[2813]} أيضا : / " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك " . ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة ، كالإمام أحمد رحمه الله ، في المشهور عنه ، التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث . وهذا القول هو المشهور عند الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال . كما قال السدي وغيره . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، في هذه الآية : " إذا أرسلت جارحك فقل : بسم الله . وإن نسيت فلا حرج " . انتهى .

قال بعض الزيدية : والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة . فمن قائل بوجوبها على الذاكر لا الناسي . لحديث{[2814]} : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " . ومن قائل بأنها مستحبة . ومن قائل بأنها شرط مطلقا . والمشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة . فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث . ثم قال : لقائل أن يقول : يحتمل أن يرجع قوله تعالى : { واذكروا اسم الله عليه } إلى الأكل . أي : فسموا عند الأكل . فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية . انتهى . وهذا الاحتمال حكاه ابن كثير ونصه :

/ وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل . كما ثبت في ( الصحيحين ) {[2815]} ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ربيبه ، عمر بن أبي سلمة ، فقال : " سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك " . وفي " صحيح البخاري ) {[2816]} عن عائشة ؛ " أنهم قالوا : يا رسول الله  ! إن قوما يأتوننا ، حديث عهد بكفر ، بلحمان ، لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا ؟ فقال : سموا الله أنتم وكلوا أنتم " . وقال الترمذي : حسن صحيح .

الخامس : في الآية جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة . لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك . كذا في ( الإكليل ) . وتقدم عن الزمخشري والناصر ما في الآية أيضا من الأخذ عن النحرير ، وأن البهائم لها علم . واستدل بالآية على إباحة اتخاذ الكلب للصيد وللحراسة ، بالسنة . كما تقدم .


[2795]:- [6/ الأنعام/ 60] ونصها: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم غليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون(60)}.
[2796]:- الأثر رقم 11134.
[2797]:- الأثر رقم 11135.
[2798]:- أخرجه مسلم في: 22- كتاب المساقاة، حديث 47 (طبعتنا).
[2799]:- أخرجه مسلم في: 22- كتاب المساقاة، حديث 46 (طبعتنا).
[2800]:- أخرجه أبو داود في: 16- كتاب الأضاحي، 21- باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره، حديث 2845.
[2801]:- أخرجه الترمذي في: 16- كتاب الصيد، 16- باب ما جاء في قتل الكلاب.
[2802]:- أخرجه النسائي في: 42- كتاب الصيد، 10- باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها.
[2803]:- [6/ الأنعام/ 38] {... ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون(38)}.
[2804]:- [17/ الإسراء/ 44] ونصها: {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)}.
[2805]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة 257 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي) ونصه: عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمني الإسلام. ونعت لي الصلاة وكيف أصل كل صلاة لوقتها. ثم قال عن لي: "كيف أنت يا ابن حاتم ! إذا ركبت من قصور اليمن لا تخاف إلا الله حتى تنزل قصور الحيرة؟ " قال قلت: يا رسول الله ! فأين مقانب طيء ورجالها؟ قال: "يكفيك الله طيئا ومن سواها" قال قلت: يا رسول الله ! إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب والبزاة. فما يحل لنا منها؟ قال: "يحل لكم ما علمتم من الجوارح تعلمونهن مما علمكم الله. فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه. فما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلت وذكرت اسم الله عليه، فكل مما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال: "وإن قتل، ولم يأكل منه شيئا. فإنما أمسكه عليك. قلت: أفرأيت إن خالط كلابنا كلاب أخرى حين نرسلها؟ قال: "لا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك عليك" قلت: يا رسول الله ! إنا قوم نرمي بالمعراض، فما يحل لنا؟ قال: "لا تأكل ما أصبت بالمعراض، إلا ما ذكيت". وأبو داود في: 16- كتاب الأضاحي، 22- باب في الصيد، حديث 2851.
[2806]:- الأثر رقم 11155.
[2807]:- إني رأيت، حرصا على نص الحديث، أن آتي بجميع طرقه، منقولة من كتاب (جامع مسانيد البخاري) وهاهيه: 4- كتاب الوضوء، 33- باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل. وإذا أكل فلا تأكل. فإنما أمسكه على نفسه" قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: "فلا تأكل. فإنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب آخر". 34- كتاب البيوع، 3- باب تفسير المشبهات. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المعراض؟ فقال: "إذا أصاب بحده فكل، وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل، فإنه وقيذ" قلت: يا رسول الله ! أرسل كلبي وأسمي، فأجد معه على الصيد كلبا آخر لم أسم عليه، ولا أدري أيهما أخذ؟ قال: "لا تأكل. إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر". عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض؟ فقال: "ما أصاب بحده فكل، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ" وسألته عن صيد الكلب؟ فقال: "ما أمسك عليك فكل، فإن أخذ الكلب ذكاة. وإن وجدت مع كلبك أو كلابك كلبا غيره، فخشيت أن يكون أخذه معه، وقد قتله، فلا تأكل. فإنما ذكرت اسم الله على كلبك ولم تذكره على غيره". 72- كتاب الذبائح والصيد، 2- باب صيد المعراض. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض؟ فقال: "إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل" فقلت: أرسل كلبي؟ فقال: "إذا أرسلت كلبك وسميت فكل" قلت: فإن أكل؟ قال: "فلا تأكل، فإنه لم يمسك عليك وإنما أمسك على نفسه" قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: "لا تأكل. فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على آخر". 72- كتاب الذبائح والصيد، 3- باب ما أصاب المعراض بعرضه. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ! إنا نرسل الكلاب المعلمة؟ قال: "كل ما أمسكن عليك" قلت: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن" قلت: وإنا نرمي بالمعراض؟ قال: "كل ما خزق، وما أصاب بعرضه فلا تأكل". 72- كتاب الذبائح والصيد، 7- باب إذا أكل الكلب. عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب؟ فقال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليكم وإن قتلن إلا أن يأكل الكلب. فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه. وإن خالطها كلاب من غيرها، فلا تأكل". 72- كتاب الذبائح والصيد، 8- باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك وسميت، فأمسك وقتل، فكل. وإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن، فلا تأكل. فإنك لا تدري أيها قتل. وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس له إلا أثر سهمك فكل. وإن وقع في الماء فلا تأكل". وعن عدي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يرمي الصيد، فيقتفر أثره اليومين والثلاثة ثم يجده ميتا، وفيه سهمه؟ قال: "يأكل إن شاء". 72- كتاب الذبائح والصيد، 9- باب إذا وجد مع الصيد كلبا آخر. عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله ! إني أرسل كلبي وأسمي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فأكل، فلا تأكل. فإنما أمسك على نفسه" قلت: إني أرسل كلبي، أجد معه كلبا آخر لا أدري أيها أخذه؟ قال: "لا تأكل. فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره". وسألته عن صيد المعراض؟ فقال: "إذا أصبت بحده فكل. وإذا أصبت بعرضه فقتل، فإنه وقيذ، فلا تأكل". 72- كتاب الذبائح والصيد، 10- باب ما جاء في التصيد. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب؟ فقال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله، فكل مما أمسكن عليك. إلا أن يأكل الكلب، فلا تأكل. فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه. وإن خالطها كلب من غيرها فلا تأكل". 97- كتاب التوحيد- 13- باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها. عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أرسل كلابي المعلمة؟ قال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة، فذكرت اسم الله فأمسكن فكل. وإن رميت بالمعراض، فخزق، فكل" ورقم الحيدث141. وأخرجه مسلم في: 34- كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، حديث 1-7 (طبعتنا).
[2808]:- الأثر رقم 11187- 1193 عن سلمان الفارسي. والأثر رقم 11198 عن أبي هريرة. والأثر رقم 11195 عن سعد بن أبي وقاص. والأثر رقم 11202 عن ابن عمر.
[2809]:- أخرجه أبو داود في: 16- كتاب الأضاحي، 22- باب في الصيد، حديث 2857.
[2810]:- أخرجه أبو داود في: 16- كتاب الأضاحي، 22- باب في الصيد، حديث 2852.
[2811]:- أخرجه في المسند بالصفحة 231 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) وحديث 2049 (طبعة المعارف).
[2812]:- انظر الحاشية رقم 1 بالصفحة 43.
[2813]:- أخرجه البخاري في: 72- كتاب الذبائح والصيد، 4- باب صيد القوس، حديث 2198 ونصه: عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا نبي الله ! إنا بأرض قوم أهل الكتاب. أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد، أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: "أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها. وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله، فكل. وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل. وما صدت بكلبك غير المعلم، فأدركت ذكاته، فكل". وأخرجه أيضا في: 10- باب ما جاء في التصيد. وفي: 14- باب آنية المحبوس والميتة. وأخرجه مسلم في: 34- كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، حديث 8 (طبعتنا).
[2814]:- أخرجه ابن ماجة في: 10- كتاب الطلاق، 16- باب طلاق المكره والناسي، حديث 2043 (طبعتنا) ونصه: عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه".
[2815]:- أخرجه البخاري في: 70- كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، حديث 2173 ونصه: عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام ! سم الله وكل بيمينك وكل ما يليك". فما زالت تلك طعمتي بعد.
[2816]:- أخرجه البخاري في: 72- كتاب الذبائح والصيد، 21- باب ذبيحة الأعراب ونحوهم. حديث 1038 ونصه: عن عائشة رضي الله عنها؛ أن قوما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتونا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: "سموا عليه أنتم وكلوه". قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر.