قوله تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة } ؟ الآية ، قال الكلبي : أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أرنا من يشهد أنك رسول الله ، فإنا لا نرى أحداً يصدقك ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس عندهم ذكر ، فأنزل الله تعالى : { قل أي شيء أكبر } ، أعظم ، { شهادة } فإن أجابوك ، وإلا .
قوله تعالى : { قل الله شهيد بيني وبينكم } ، على ما أقول ، ويشهد لي بالحق ، وعليكم بالباطل .
قوله تعالى : { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به } ، لأخوفكم به يا أهل مكة .
قوله تعالى : { ومن بلغ } ، ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم من الأمم إلى يوم القيامة .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن الحنفي ، أنا محمد بن بشر بن محمد المزني ، أنا أبو بكر محمد بن الحسن بن بشر النقاش ، أنا أبو شعيب الحراني ، أنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلي ، أنا الأوزاعي ، حدثني حسان بن عطية ، عن أبي كبشة السلولي ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) .
أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن مسعود ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ، ووعاها ، وأداها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم أبدا : إخلاص العمل لله ، والنصيحة للمسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم .
قال مقاتل : من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له ، وقال محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم وسمع منه .
قوله تعالى : { أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى } . ولم يقل آخر ، لأن الجمع يلحقه التأنيث كقوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف :180 ] ، وقال : { فما بال القرون الأولى } . [ طه :51 ]
قوله تعالى : { قل } ، يا محمد إن شهدتم أنتم .
قوله تعالى : { لا أشهد } . أنا أن معه إلهاً .
قوله تعالى : { قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } .
{ قُلْ } لهم -لما بينا لهم الهدى ، وأوضحنا لهم المسالك- : { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } على هذا الأصل العظيم . { قُلِ اللَّهُ } أكبر شهادة ، فهو { شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فلا أعظم منه شهادة ، ولا أكبر ، وهو يشهد لي بإقراره وفعله ، فيقرني على ما قلت لكم ، كما قال تعالى { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } فالله حكيم قدير ، فلا يليق بحكمته وقدرته أن يقر كاذبا عليه ، زاعما أن الله أرسله ولم يرسله ، وأن الله أمره بدعوة الخلق ولم يأمره ، وأن الله أباح له دماء من خالفه ، وأموالهم ونساءهم ، وهو مع ذلك يصدقه بإقراره وبفعله ، فيؤيده على ما قال بالمعجزات الباهرة ، والآيات الظاهرة ، وينصره ، ويخذل من خالفه وعاداه ، فأي : شهادة أكبر من هذه الشهادة ؟ "
وقوله : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } أي وأوحى الله إليَّ هذا القرآن الكريم لمنفعتكم ومصلحتكم ، لأنذركم به من العقاب الأليم . والنذارة إنما تكون بذكر ما ينذرهم به ، من الترغيب ، والترهيب ، وببيان الأعمال ، والأقوال ، الظاهرة والباطنة ، التي مَن قام بها ، فقد قبل النذارة ، فهذا القرآن ، فيه النذارة لكم أيها المخاطبون ، وكل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة ، فإن فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب الإلهية .
لما بيّن تعالى شهادته التي هي أكبر الشهادات على توحيده ، قال : قل لهؤلاء المعارضين لخبر الله ، والمكذبين لرسله { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ } أي : إن شهدوا ، فلا تشهد معهم .
فوازِنْ بين شهادة أصدق القائلين ، ورب العالمين ، وشهادة أزكى الخلق المؤيدة بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة ، على توحيد الله وحده لا شريك له ، وشهادة أهل الشرك ، الذين مرجت عقولهم وأديانهم ، وفسدت آراؤهم وأخلاقهم ، وأضحكوا على أنفسهم العقلاء .
بل خالفوا بشهادة فطرهم ، وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع الله آلهة أخرى ، مع أنه لا يقوم على ما قالوه أدنى شبهة ، فضلا عن الحجج ، واختر لنفسك أي : الشهادتين ، إن كنت تعقل ، ونحن نختار لأنفسنا ما اختاره الله لنبيه ، الذي أمرنا الله بالاقتداء به ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : منفرد ، لا يستحق العبودية والإلهية سواه ، كما أنه المنفرد بالخلق والتدبير .
{ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } به ، من الأوثان ، والأنداد ، وكل ما أشرك به مع الله . فهذا حقيقة التوحيد ، إثبات الإلهية لله ونفيها عما عداه .
{ قل أي شيء أكبر شهادة } نزلت حين قالت قريش : يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى ، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله . والشيء يقع على كل موجود ، وقد سبق القول فيه في سورة " البقرة " . { قل الله } أي الله أكبر شهادة ثم ابتدأ { شهيد بيني وبينكم } أي هو شهيد بيني وبينكم ، ويجوز أن يكون الله شهيد هو الجواب لأنه سبحانه وتعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شيء شهادة . { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به } أي بالقرآن ، واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة . { ومن بلغ } عطف على ضمير المخاطبين ، أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر ، أو من الثقلين ، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن بلغه إلى يوم القيامة ، وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم ، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه . { أئنكم لتشهدون مع الله آلهة أخرى } تقرير لهم مع إنكار واستبعاد . { قل لا أشهد } بما تشهدون . { قل إنما هو إله واحد } أي بل أشهد أن لا إله إلا هو . { وإنني بريء مما تشركون } يعني الأصنام .
{ أي } استفهام ، وهي معربة مع إبهامها ، وإنما كان ذلك لأنها تلتزم الإضافة ولأنها تتضمن علم جزء من المستفهم عنه غير معين ، لأنك إذا قلت أي الرجلين جاءنا فقد كنت تعلم أن أحدهما جاء غير معين فأخرجها هذان الوجهان عن غمرة الإبهام فأعربت ، وتتضمن هذه الآية أن الله عز وجل يقال عليه { شيء } كما يقال عليه موجود ، ولكن ليس كمثله تبارك وتعالى شيء{[4850]} ، و { شهادة } نصب على التمييز ويصح على المفعول بأن يحمل { أكبر } على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل وهذه الآية مثل قوله تعالى { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله }{[4851]} في أن استفهم على جهة التوقيف والتقدير ، ثم بادر إلى الجواب إذ لا تتصور فيه مدافعة ، وهذا كما تقول لمن تخاصمه وتتظلم منه من أقدر من في البلد ؟ ثم تبادر وتقول :السلطان فهو يحول بيننا ، ونحو هذا من الأمثلة{[4852]} ، فتقدير الآية أنه قال لهم أي شيء أكبر شهادة ؟ الله أكبر شهادة ، فهو شهيد بيني وبينكم ، ف { الله } رفع بالابتداء وخبره مضمر يدل عليه ظاهر الكلام كما قدرناه ، و { شهيد } خبر ابتداء مضمر{[4853]} .
وقال مجاهد المعنى : أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام : قل لهم : أي شيء أكبر شهادة ؟ وقل لهم : الله شهيد بيني وبينكم لما عيوا عن الجواب ، ف { شهيد } على هذا التأويل خبر لله وليس في هذا التأويل مبادرة من السائل إلى الجواب المراد بقوله : { شهيد ، بيني وبينكم } أي في تبليغي . وقرأت فرقة : «وأوحى إليّ هذا القرآن » على الفعل الماضي ونصب القرآن وفي «أوحى » ضمير عائد على الله تعالى من قوله { قل الله } ، وقرأت فرقة «وأوحي » على بناء الفعل للمفعول «القرآن » رفعاً ، { لأنذركم } معناه لأخوفكم به العقاب والآخرة ، { ومن } عطف على الكاف والميم في قوله : { لأنذركم } و { بلغ } معناه على قول الجمهور بلاغ القرآن ، أي لأنذركم وأنذر من بلغه ، ففي بلغ ضمير محذوف لأنه في صلة من ، فحذف لطول الكلام ، وقالت فرقة ومن بلغ الحكم ، ففي { بلغ } على هذا التأويل ضمير مقدر راجع إلى { من } ، وروي في معنى التأويل الأول أحاديث ، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية ، فإنه من بلغ آية من كتاب الله تعالى فقد بلغه أمر الله تعالى أخذه أو تركه »{[4854]} ، ونحو هذا من الأحاديث كقوله «من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره »{[4855]} وقرأت فرقة «آينكم » بزيادة ألف بين الهمزة الأولى والثانية المسهلة عاملة بعد التسهيل المعاملة قبل التسهيل{[4856]} ، وقرأت فرقة «أينكم » بهمزتين الثانية مسهلة دون ألف بينهما ، وقرأت فرقة «أإنكم » استثقلت اجتماع الهمزتين فزادت ألفاً بين الهمزتين{[4857]} ، وقرأت فرقة «أنكم » بالإيجاب دون تقدير وهذه الآية مقصدها التوبيخ وتسفيه الرأي .
و { أخرى } صفة [ لآلهة ] ، وصفة جمع ما لا يعقل تجري في الإفراد مجرى الواحدة المؤنثة كقوله { مآرب أخرى }{[4858]} وكذلك مخاطبته جمع ما لا يعقل كقوله : { يا جبال أوبي معه }{[4859]} ونحو هذا ، ولما كانت هذه الآلهة حجارة وعيداناً أجريت هذا المجرى ثم أمره الله تعالى أن يعلن بالتبري من شهادتهم ، والإعلان بالتوحيد لله عز وجل والتبري من إشراكهم ، { وإنني } إيجاب ألحقت فيه النون التي تلحق الفعل لتبقى حركته عند اتصال الضمير به في قوله ضربني ونحوه ، وظاهر الآية أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنه قد ورد من وجه لم يثبت صحته أنها نزلت في قوم من اليهود ، وأسند إلى ابن عباس قال : جاء النحام بن زيد وفردم بن كعب وبحري بن عمرو ، فقالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلهاً غيره ؟ فقال لهم : لا إله إلا الله بذلك أمرت ، فنزلت الآية فيهم .
{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لنذركم به ومن بلغ }
انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات ، إلى إثبات صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى جعْلِ الله حكماً بينه وبين مكذّبيه ، فالجملة استئناف ابتدائي ، ومناسبة الانتقال ظاهرة .
روى الواحدي في « أسباب النزول » عن الكلبي : أنّ رؤساء مكّة قالوا : يا محمد ما نرى أحداً مصدّقَك بما تقول ، وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرُك ولا صفتك فأرِنا من يشهد أنّك رسول الله . فنزلت هذه الآية .
وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بيّنته عند قوله تعالى : { قل لمن ما في السماوات والأرض } [ الأنعام : 12 ] ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقّي ما يرد بعد الاستفهام .
و ( أي ) اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام ، والمضاف إليه هنا هو { شيء } المفسّر بأنَّه من نوع الشهادة .
و { شَيء } اسم عامّ من الأجناس العالية ذات العموم الكثير ، قيل : هو الموجود ، وقيل : هو ما يعلم ويصحّ وجوده . والأظهر في تعريفه أنّه الأمر الذي يعلم . ويجري عليه الإخبار سواء كان موجوداً أو صفة موجود أو معنى يتعقّل ويتحاور فيه ، ومنه قوله تعالى : { فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجْع بعيد } [ ق : 2 ، 3 ] .
وقد تقدّم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة ( شيء ) ومواقع ضعفها عند قوله تعالى : { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } في سورة [ البقرة : 155 ] .
( { وأكبَرُ } هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات ، وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى ، كقوله تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] وقوله : { قل قتال فيه كبير } وقد تقدّم في سورة [ البقرة : 217 ] .
وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها .
وقوله : { شهادة } تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ماصْدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة . فالمعنى : أيّة شهادة هي أصدق الشهادات ، فالمستفهم عنه بِ { أي } فرد من أفراد الشهادات يطلب عِلم أنَّه أصدق أفراد جنسه .
والشهادة تقدّم بيانها عند قوله تعالى : { شهادة بينكم } في سورة [ المائدة : 106 ] .
ولمّا كانت شهادة الله على صدق الرسول غير معلومة للمخاطبين المكذّبين بأنّه رسول الله ، صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الكاذبين } [ النور : 8 ] أي أن تُشهد الله على كذب الزوج ، أي أن تحلف على ذلك بسم الله ، فإنّ لفظ ( أشهد الله ) من صيغ القسم إلاّ أنّه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازاً مرسلاً ، وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم ، وبذلك يظهر موقع قوله : { الله شهيد بيني وبينكم } ، أي أشهده عليكم .
وقريب منه ما حكاه الله عن هود { قال إنّي أشهد الله } [ هود : 54 ] .
وقوله : { قل الله شهيد بيني وبينكم } جواب للسؤال ، ولذلك فصلت جملته المصدّرة ب { قل } . وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير وكون الجواب ممّا لا يسع المقرّر إنكاره ، على نحو ما بيّنّاه في قوله : { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله } [ الأنعام : 12 ] ووقع قوله : { الله شهيد بيني وبينكم } جواباً على لسانهم لأنّه مرتّب على السؤال وهو المقصود منه فالتقدير : قل شهادة الله أكبر شهادة ، فالله شهيد بيني وبينكم ، فحذف المرتّب عليه لدلالة المرتّب إيجازاً كما هو مقتضى جزالة أسلوب الإلجاء والجدل . والمعنى : أنّي أشهد الله الذي شهادته أعظم شهادة أنّني أبلغتكم أنّه لا يرضى بأن تشركوا به وأنذرتكم .
وفي هذه الآية ما يقتضي صحة إطلاق اسم ( شيء ) على الله تعالى لأنّ قوله : { الله شهيد } وقع جواباً عن قوله : { أي شيء } فاقتضى إطلاق اسم ( شيء ) خبراً عن الله تعالى وإن لم يدلّ صريحاً . وعليه فلو أطلقه المؤمن على الله تعالى لما كان في إطلاقه تجاوز للأدب ولا إثم . وهذا قول الأشعرية خلافاً لجهم بن صفوان وأصحابه .
ومعنى : { شهيد بيني وبينكم } أنّه لمّا لم تنفعهم الآيات والنذر فيرجعوا عن التكذيب والمكابرة لم يبق إلاّ أن يكلهم إلى حساب الله تعالى . والمقصود : إنذارهم بعذاب الله في الدنيا والآخرة . ووجه ذكر { بيني وبينكم } أنّ الله شهيد له ، كما هو مقتضى السياق . فمعنى البيْن أنّ الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق لردّ إنكارهم رسالته كما هو شأن الشاهد في الخصومات .
وقوله : { وأوحي إليّ هذا القرآن } عطف على جملة { الله شهيد بيني وبينكم } ، وهو الأهمّ فيما أقسم عليه من إثبات الرسالة . وينطوي في ذلك جميع ما أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما أقامه من الدلائل . فعطف { وأوحي إلي هذا القرآن } من عطف الخاصّ على العامّ ، وحُذف فاعل الوحي وبني فعله للمجهول للعلم بالفاعل الذي أوحاه إليه وهو الله تعالى .
والإشارة ب { هذا القرآن } إلى ما هو في ذهن المتكلّم والسامع . وعطف البيان بعد اسم الإشارة بيَّن المقصود بالإشارة .
واقتصر على جعل علّة نزول القرآن للنذارة دون ذكر البشارة لأنّ المخاطبين في حال مكابرتهم التي هي مقام الكلام لا يناسبهم إلاّ الإنذار ، فغاية القرآن بالنسبة إلى حالهم هي الإنذار ، ولذلك قال { لأنذركم به } مصرَّحاً بضمير المخاطبين . ولم يقل : لأنذر به ، وهم المقصود ابتداء من هذا الخطاب وإن كان المعطوف على ضميرهم ينذر ويبشّر . على أنّ لام العلّة لا تؤذن بانحصار العلّة في مدخولها إذ قد تكون للفعل المعدّى بها علل كثيرة .
{ ومن بلغ } عطف على ضمير المخاطبين ، أي ولأنذر به من بلغه القرآن وسمعه ولو لم أشافهه بالدعوة ، فحذف ضمير النصب الرابط للصلة لأنّ حذفه كثير حسن ، كما قال أبو علي الفارسي .
وعموم { مَن } وصلتها يشمل كلّ من يبلغه القرآن في جميع العصور .
{ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله ءَالِهَةً أخرى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله واحد وَإِنَّنِى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .
جملة مستأنفة من جملة القول المأمور بأن يقوله لهم . فهي استئناف بعد جملة { أيّ شيء أكبر شهادة } . خصّ هذا بالذكر لأنّ نفي الشريك لله في الإلهية هو أصل الدعوة الإسلامية فبعد أن قرّرهم أنّ شهادة الله أكبر شهادة وأشهد الله على نفسه فيما بلّغ ، وعليهم فيما أعرضوا وكابروا ؛ استأنف استفهاماً على طريقة الإنكار استقصاء في الإعذار لهم فقال : أتشهدون أنتم على ما أصررتم عليه أنّ مع الله آلهة أخرى كما شهدت أنا على ما دعوتكم إليه ، والمقرّر عليه هنا أمر ينكرونه بدلالة المقام .
وإنّما جعل الاستفهام المستعمل في الإنكار عن الخبر الموكّد ب ( إنّ ) ولام الابتداء ليفيد أنّ شهادتهم هذه ممَّا لا يكاد يصدَّق السامعون أنّهم يشهدونها لاستبعاد صدورها من عقلاء ، فيحتاج المخبر عنهم بها إلى تأكيد خبره بمؤكّديْن فيقول : إنّهم ليشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى ، فهنالك يحتاج مخاطبهم بالإنكار إلى إدخال أداة الاستفهام الإنكاري على الجملة التي من شأنها أن يحكى بها خبرهم ، فيفيد مثلُ هذا التركيب إنكارين : أحدهما صريح بأداة الإنكار ، والآخر كنائي بلازم تأكيد الإخبار لغرابة هذا الزعم بحيث يشكّ السامع في صدوره منهم .
ومعنى { لتشهدون } لتدّعونا دعوى تحقَّقونها تحقيقاً يشبه الشهادة على أمر محقّق الوقوع ، فإطلاق { تشهدون } مشاكلة لقوله { قل الله شهيد بيني وبينكم } .
والآلهة جمع إله ، وأجري عليه الوصف بالتأنيث تنبيهاً على أنّها لا تعقل فإنّ جمع غير العاقل يكون وصفه كوصف الواحدة المؤنّثة .
وقوله : { قل لا أشهد } جواب للاستفهام الذي في قوله : { أإنّكم لتشهدون } لأنّه بتقدير : قل أإنّكم ، ووقعت المبادرة بالجواب بتبرّىء المتكلّم من أن يشهد بذلك لأنّ جواب المخاطبين عن هذا السؤال معلوم من حالهم أنّهم مقرّون به فأعرض عنهم بعد سؤالهم كأنّه يقول : دعْنا من شهادتكم وخذوا شهادتي فإنّي لا أشهد بذلك . ونظير هذا قوله تعالى : { فإن شهدوا فلا تشهد معهم } [ الأنعام : 15 ] .
وجملة : { قل إنّما هو إله واحد } بيان لجملة { لا أشهد } فلذلك فصلت لأنّها بمنزلة عطف البيان ، لأنّ معنى لا أشهد بأنّ معه آلهة هو معنى أنّه إله واحد ، وأعيد فعل القول لتأكيد التبليغ .
وكلمة { إنّما } أفادت الحصر ، أي هو المخصوص بالوحدانية : ثم بالغ في إثبات ذلك بالتبرّىء من ضدّه بقوله : { وإنّني بريء ممَّا تشركون } . وفيه قطع للمجادلة معهم على طريقة المتاركة .
و ( ما ) في قوله : { ممّا تشركون } يجوز كونها مصدرية ، أي من إشراككم . ويجوز كونها موصولة ، وهو الأظهر ، أي من أصنامكم التي تشركون بها ، وفيه حذف العائد المجرور لأنّ حرف الجرّ المحذوف مع العائد متعيّن تقديره بلا لبس ، وذلك هو ضابط جواز حذف العائد المجرور ، كقوله تعالى : { أنسجد لما تأمرنا } [ الفرقان : 60 ] أي بتعظيمه ، وقوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر } أي بالجهر به . وظاهر كلام « التسهيل » أنّ هذا ممنوع ، وهو غفلة من مؤلّفه اغترّ بها بعض شرّاح كتبه .