ولما ختم{[28772]} بصفتي الحكمة والخبرة ، كان كأنه قيل : فلم لم يعلم{[28773]} أنا نكذبك{[28774]} بخبرته فيرسل معك بحكمته من يشهد لك - على ما يقول من أنه أمرك أن{[28775]} تكون أول من أسلم ، ونهاك عن الشرك لنصدقك - من ملك كما تقدم سؤالنا لك{[28776]} فيه{[28777]} أو كتاب في قرطاس أو غيرهما ؟ فقال : قد فعل ، ولم يرض لي{[28778]} إلا بشهادته المقدسة فقال - أو يقال : إنه لما أقام الأدلة على الوحدانية والقدرة ووصل إلى صفة القهر المؤذن بالانتقام ، لم يبق إلا الإشهاد عليهم إيذاناً بما يستحقونه من سوء العذاب وإنذاراً به لئلا يقولوا إذا حل{[28779]} بهم : إنه لم يأتنا نذير ، فقال : { قل } أي يا أيها الرسول لهم { أي شيء أكبر } أي{[28780]} أعظم وأجل{[28781]} { شهادة } فإن أنصفوا وقالوا : الله ! فقل : هو الذي يشهد{[28782]} لي ، كما قال في النساء " لكن الله يشهد بما أنزل إليك{[28783]} " ولكنه قطع الكلام هنا إشارة إلى عنادهم أو سكوتهم ، أو إلى تنزيلهم منزلة المعاند ، أو العالم بالشيء العامل عمل الجاهل ، فقال آمراً له صلى الله عليه وسلم : { قل الله } أي الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة أكبر شهادة .
ولما كانوا بمعرض أن يسلموا ذلك ويقولوا : إنه لَكذلك ، ولكن هلم شهادته ! قال : { شهيد } أي هو أبلغ شاهد يشهد { بيني وبينكم } أي بهذا القرآن الذي ثبت بعجزكم{[28784]} عنه أنه كلامه ، وبغيره من الآيات التي عجزتم عن معارضتها ؛ ولما قرر أنه أعظم شهيد{[28785]} ، وأشار إلى شهادته بالآيات كلها ، نبه على أعظمها ، لأن إظهاره تعالى للقرآن على لسانه صلى الله عليه وسلم على وفق دعواه شهادة من الله له{[28786]} بالصدق ، فقال ذاكراً لفائدته في سياق تهديد متكفل بإثبات الرسالة وإثبات الوحدانية ، وقدم الأول لأنه المقرر للثاني والمفهم{[28787]} له بغايته{[28788]} ، عاطفاً على جملة{[28789]} " شهيد " بانياً للمفعول ، تنبيهاً على أن الفاعل معروف للإعجاز ، وبنى للفاعل في السواد : { وأوحي إلي }{[28790]} وحقق الموحى به وشخّصه بقوله{[28791]} : { هذا القرآن } ولما كان في سياق التهديد قال مقتصراً على ما{[28792]} يلائمه{[28793]} : { لأنذركم } أي أخوفكم وأحذركم من اعتقاد شائبة نقص في الإله لا سيما الشرك{[28794]} { به ومن } أي وأنذر به كل من { بلغ } أي بلغه ، {[28795]} قال الفراء{[28796]} : والعرب تضمر الهاء في صلات " الذي " و " من " و " ما " .
وقال البخاري في آخر الصحيح : { لأنذركم به } يعني أهل مكة ، ومن بلغ هذا القرآن فهو له نذير علقه بصيغة الجزم عن ابن عباس ووصله إليه ابن أبي حاتم كما أفاده شيخنا في شرحه{[28797]} . وقال عبد الرزاق في تفسيره : أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بلغوا عن الله ، فمن بلغته{[28798]} آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله . وقال الإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي{[28799]} في جواب سؤال ورد عليه سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل بعث إلى الجن - ومن خطه نقلتُ : الكتاب{[28800]} والسنة ناطقان{[28801]} بذلك ، والإجماع قائم عليه ، لا خلاف بين المسلمين فيه ؛ ثم أسند الإجماع إلى أبي طالب القضاعي وأبي عمر بن عبد البر في التمهيد وأبي محمد بن حزم في كتاب الفِصَل{[28802]} وغيرهم ثم قال : أما الكتاب فآيات إحداها { لأنذركم به ومن بلغ } قال محمد بن كعب القرظي{[28803]} : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عباس - فذكره ، وقال السدي : من بلغ{[28804]} القرآن فهو له نذير ، وقال ابن زيد : من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره . وهذه كلها أقوال متفقة المعنى ، وقد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا الكلام وأن{[28805]} ينذر بالقرآن كل من بلغه ، ولم يخص إنساً ولا جناً من أهل التكليف ، ولا خلاف أن الجن مكلفون - انتهى{[28806]} . وسيأتي مما{[28807]} ذكر من الآيات وغيرها ما يليق بالاستدلال على الإرسال إلى الملائكة عليهم السلام ، فالمعنى : فمن صدق هذا القرآن فقد أفلح ، ومن كذب فليأت بسورة من مثله ، ثم عجزه شاهد على نفسه بالكذب ، وهو شهادة الله لي بالصدق ، ولأجل أن الله هو الشاهد لم تنقض الشهادة بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، بل استمرت على مرّ الأيام{[28808]} وكرّ الأعوام لبقاء الشاهد وتعاليه عن شوائب النقص وسمات الحدث{[28809]} ، وإلى ذلك الإشارة بقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه . ولعل الاقتصار على الإنذار مع ما تقدم إشارة إلى أن أكثر الخلق هالك ، وقد ذكر في نزول هذه الآية أن أهل مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أما وجد الله رسولاً غيرك ؟ ما نرى أحداً يصدقك بما تقول ، ولقد سألنا عنك{[28810]} اليهود والنصارى{[28811]} فزعموا أنه ليس عندهم منك ذكر ، فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم ، فأنزلها الله .
ولما لم يبق لمتعنت شبهة ، ساق{[28812]} فذلكة ذلك وقطب دائرته - وهو لزوم التوحيد الذي جعلت الرسالة مُرَقَّى إليه ، فإذا ثبت في قلب فاضت أنواره بحسب{[28813]} ثباته حتى أنها ربما ملأت الأكوان وعلت على كيوان{[28814]} - مساق استفهام على طريقة الإنكار والتعجيب تعظيماً لشأنه وتفخيماً لمقامه{[28815]} وتنبيهاً لهم على أن يبعدوا عن الشرك فقال : أئنكم لتشهدون أن مع الله } أي الذي حاز جميع العظمة { آلهة } .
ولما كانوا لكثرة تعنتهم ربما أطلقوا على أسمائه سبحانه إله{[28816]} كما قالوا حين سمعوه صلى الله عليه وسلم يقول : " يا الله يا رحمن " كما سيأتي إن شاء الله تعالى آخر الحِجْر وآخر سبحان ، صرح بالمقصود على وجه{[28817]} لا يحتمل النزاع فقال : { أخرى } ولما كان كأنه قيل : إنهم{[28818]} ليقولون ذلك ، فماذا يقال لهم ؟ قال : { قل لا أشهد } أي معكم بشيء مما تقولونه لأنه باطل ، ولو كان حقاً لشهدت{[28819]} به .
ولما كان هذا غير قاطع لطمعهم فيه ، اجتثَّه من أصله وبرمته بقوله : { قل إنما هو } أي الإله { إله واحد } وهو الله{[28820]} الذي لا يعجزه شيء وهو يعجز كل شيء ، لأنه واحد لا كفوء له ، فإنكم عجزتم عن الإتيان بسورة من مثل كلامه وأنتم أفصح الناس .
ولما كان معنى هذا البراءة من إنذارهم ، صرح به في قوله مؤكداً في جملة اسمية : { وإنني بريء مما تشركون * } أي الآن وفي مستقبل الزمان إبعاداً من تطمعهم أن تكون{[28821]} الموافقة بينه وبينهم باتخاذه الأنداد أو شيئاً منها ولياً ، فثبت التوحيد بهذه الآية بأعظم طرق البيان{[28822]} وأبلغ وجوه التأكيد{[28823]} ، ولقد امتثل{[28824]} صلى الله عليه وسلم الأمر بإنذار من يمكن إبلاغه القرآن ، فلما استراح{[28825]} عن حرب{[28826]} قريش وكثير ممن حوله من العرب في عام الحديبية ، وهو سنة ست{[28827]} من الهجرة ، وأعلمه{[28828]} الله تعالى أن ذلك فتح مبين ، أرسل إلى من يليه من ملوك الأمصار في ذلك العام وما بعده ، وكان أكثر{[28829]} عند منصرفه من ذلك{[28830]} الاعتمار يدعوهم إلى جنات وأنهار في دار القرار ، وينذرهم دار البوار ، قال أهل السير : خرج صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه من عمرة الحديبية التي صد عنها - على أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فقال : " أيها الناس ! إن الله بعثني رحمة وكافة ، وإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم " وقال ابن عبد الحكم في{[28831]} فتوح مصر عن عبد الرحمن بن عبد القادر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وتشهد ثم قال : " أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك العجم ، فأدوا عني يرحمكم الله ، ولا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون "
وقال ابن عبد الحكم : بنو إسرائيل - على عيسى ابن مريم عليهما السلام ، فقال المهاجرون : يا رسول الله ! والله لا نختلف عليك في شيء أبداً ، فمرنا وابعثنا ، فسألوه : كيف اختلف الحواريون على عيسى عليه السلام ؟ قال : دعاهم إلى الذي-{[28832]} وفي رواية{[28833]} لمثل الذي - دعوتكم إليه ، وقال ابن عبد الحكم : إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام أن ابعث إلى مقدس الأرض ، فبعث الحواريون - فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم ، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل - قال ابن عبد الحكم : وقال : لا أحسن كلام من تبعثني إليه - فشكا ذلك عيسى عليه السلام إلى الله عز وجل ، فأصبح كل رجل - وقال ابن عبد الحكم : فأوحى الله تعالى إليه أني سأكفيك ، فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم - يتكلم بلغة الأمة{[28834]} التي بعث إليها . فقال عيسى عليه السلام : هذا أمر قد عزم الله عليه{[28835]} فامضوا له{[28836]} . وقال الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي في القاموس : إن المكان الذي جمع فيه{[28837]} عيسى عليه السلام الحواريين وأنفذهم إلى النواحي{[28838]} قرية بناحية{[28839]} طبرية تسمى الكرسي{[28840]} . وقال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن أبي حبيب المصري أنه وجد كتاباً فيه ذكر من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البلدان وملوك العرب و{[28841]} العجم وما قال لأصحابه حين بعثهم ، قال : فبعث به إلى محمد بن شهاب الزهري فعرفه - فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال : قال ابن إسحاق : وكان من بعث عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم من الحواريين والأتباع الذين كانوا بعدهم{[28842]} في الأرض بطرس الحواري ومعه بولس{[28843]} - وكان بولس من الأتباع ولم يكن من الحواريين - إلى رومية{[28844]} ، وأندرائس{[28845]} ومنتا{[28846]} إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق وقيبليس{[28847]} إلى قرطاجنة{[28848]} ، وهي إفريقية ، ويحنس{[28849]} إلى أقسوس{[28850]} قرية الفتية{[28851]} أصحاب الكهف ، ويعقوبس إلى أوراشلم وهي إيلياء قرية بيت المقدس ، وابن ثلما{[28852]} إلى الأعرابية ، وهي أرض الحجاز ، وسيمن{[28853]} إلى أرض البربر ، ويهودا ولم يكن من الحواريين ، جُعل مكان يودس{[28854]} - انتهى . كذا رأيت في نسخة معتمدة مقابلة من تهذيب السيرة لابن هشام ، وكذا في مختصرها للامام جمال الدين محمد بن المكرم{[28855]} الأنصاري عدد رسله وأسمائهم ، وفي آخرهم : قوله : مكان يودس ، ولم يتقدم ليودس ذكر ، والذي حررته أنا من الأناجيل التي بأيدي النصارى غير هذا ، ولعله أصح ، وقد جمعت ما تفرق{[28856]} من ألفاظها ، قال{[28857]} في إنجيل متى ما{[28858]} نصه - ومعظم السياق له : ودعا يعني عيسى عليه السلام - تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطاناً على جميع الأرواح النجسة{[28859]} لكي يخرجوها ويشفوا كل الأمراض ؛ وفي إنجيل مرقس : وصعد إلى الجبل ودعا الذين أحبهم فأتوا إليه ، وانتخب اثني عشر ليكونوا معه ولكي يرسلهم ليكرزوا ، وأعطاهم سلطاناً على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين ، وفي إنجيل لوقا : وكان في تلك الأيام خرج إلى الجبل يصلي ، وكان ساهراً في صلاة الله{[28860]} ، فلما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر ؛ وقال في موضع آخر : ودعا الاثني عشر الرسل وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء المرضى ، وأرسلهم يكرزون بملكوت الله ويشفون{[28861]} الأوجاع ؛ وهذه أسماء{[28862]} الاثني عشر الرسل : سمعان المسمى بطرس - ونسبه في موضع{[28863]} من إنجيل متى{[28864]} : ابن يونا - وأندراوس أخوه{[28865]} ، ويعقوب بن زبدي{[28866]} ويوحنا أخوه- قال في إنجيل مرقس : وسماهما باسمي بوانرجس{[28867]} اللذين{[28868]} ابنا{[28869]} الرعد - وفيلبس{[28870]} وبرثولوماوس ، وتوما ومتى العشار ، ويعقوب بن حلفي ، ولباوس{[28871]} الذي يدعى تداوس{[28872]} ، وجعل في إنجيل مرقس بدل هذا : تدى ، وفي إنجيل لوقا بدلهما : يهوذا بن يعقوب ، ثم اتفقوا : وسمعان القاناني ، وقال في إنجيل لوقا : المدعو الغيور ، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه - أي دل عليه في الليلة التي ادعى اليهود القبض عليه فيها -{[28873]} هؤلاء الاثنا عشر{[28874]} الرسل الذين أرسلهم يسوع - وفي إنجيل مرقس : ودعا الاثني عشر{[28875]} وجعل يرسلهم اثنين اثنين{[28876]} ، وأعطاهم السلطان على الأرواح النجسة - قائلاً : لا تسلكوا طريق الأمم ، ولا تدخلوا مدينة السامرة ، وانطلقوا خاصة إلى{[28877]} الخراف التي ضلت من بيت إسرائيل ، وإذا ذهبتم فاكرزوا وقولوأ : قد اقتربت ملكوت السماوات ، اشفوا المرضى ، أقيموا الموتى ، طهروا البرص ، أخرجوا الشياطين ، مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا ، لا تكنزوا{[28878]} ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم ولا همياناً{[28879]} في الطريق ولا ثوبين ولا حذاء ولا عصى ، والفاعل مستحق طعامه ، وفي إنجيل مرقس : وأمرهم أن لا يأخذوا{[28880]} في الطريق غير عصى فقط ولا همياناً{[28881]} ولا خبزاً{[28882]} ولا فضة{[28883]} ولا نحاساً في مناطقهم إلا نعالاً في أرجلهم ولا يلبسوا{[28884]} قميصين ؛ وفي إنجيل لوقا : وقال لهم{[28885]} لا تحملوا في الطريق{[28886]} شيئاً ، لا عصى ولا همياناً{[28887]} ولا خبزاً ولا فضة ، ولا يكون لكم{[28888]} ثوبان{[28889]} ، وأي مدينة أو قرية دخلتموها فحصوا{[28890]} فيها عمن يستحقكم ، وكونوا هناك حتى تخرجوا{[28891]} ، فإذا دخلتم إلى البيت فسلموا عليه ، فإن كان البيت مستحقاً لسلامكم{[28892]} فهو يحل عليه ، وإن كان لا يستحق فسلامكم راجع إليكم ، ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فإذا خرجتم من ذلك البيت وتلك القرية أو تلك المدينة انفضوا غبار أرجلكم ؛ وفي إنجيل مرقس : وقال لهم : أي بيت دخلتموه أقيموا فيه إلى أن تخرجوا{[28893]} منه ، وأي موضع لم يقبلكم ولم يسمع منكم فإذا خرجتم من هناك فانفضوا الغبار الذي تحت أرجلكم للشهادة عليهم ، الحق أقول{[28894]} لكم ! إن الأرض{[28895]} سدوم و{[28896]} عامورا{[28897]} راحة في يوم الدين أكثر من تلك المدينة{[28898]} ، هو ذا أنا مرسلكم كالخراف بين الذئاب ، كونوا حكماء كالحية وودعاء{[28899]} كالحمام{[28900]} ، احذروا من الناس ، فإنهم يسلمونكم إلى المحافل ، وفي مجامعهم{[28901]} يضربونكم ، ويقدمونكم إلى القواد والملوك من أجلى شهادة لهم{[28902]} وللأمم - وفي إنجيل مرقس{[28903]} : شهادة عليهم وعلى كل الأمم ، ينبغي أولاً أن يكرزوا بالإنجيل - فإذا أسلموكم فلا تهتموا بما تقولون{[28904]} - وفي إنجيل مرقس : ولا ماذا تجيبون - فإنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به ، ولستم أنتم المتكلمين لكن روح أبيكم - وفي إنجيل{[28905]} مرقس : لكن روح القدس يتكلم فيكم - وسيسلم الأخ أخاه إلى الموت والأب ابنه ، ويقوم الأبناء على آبائهم فيقتلونهم ، وتكونون{[28906]} مبغوضين من الكل من أجل اسمي ، والذي يصبر إلى المنتهى يخلص ، فإذا طردوكم{[28907]} من هذه المدينة اهربوا إلى أخرى ، الحق الحق{[28908]} أقول لكم ! إنكم لا تكلمون مدائن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان ، ليس تلميذ أفضل من معلمه ، ولا عبد أفضل من سيده ، وحسب التلميذ أن يكون مثل معلمه والعبد مثل سيده ، إن كانوا سموا رب البيت باعل زبول فكم بالحري أهل بيته ! فلا تخافوهم ، فليس خفي إلا سيظهر ولا مكتوم إلا سيعلم ، الذي أقول لكم في الظلمة قولوه أنتم في النور ، وما سمعتموه بآذانكم فاكرزوا به على السطوح ، و{[28909]} لا تخافوا ممن{[28910]} يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس{[28911]} ، خافوا ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد جميعاً في جهنم ، أليس{[28912]} عصفوران يباعان بفلس ، وواحد منهما لا يسقط على الأرض دون إرادة أبيكم ، وأنتم فشعور{[28913]} رؤوسكم كلها محصاة ، فلا تخافوا ، فإنكم أفضل من عصافير كثيرة ، لا تظنوا أني جئت لألقي على الأرض سلامة ، لكن سيفاً{[28914]} ، أتيت لأفرق الإنسان من أبيه والابنة{[28915]} من أمها ، والعروس من حماتها{[28916]} ، وأعداء الإنسان{[28917]} أهل بيته ، من أحب أباً أو{[28918]} أماً أكثر مني فما يستحقني ، ومن وجد نفسه فليهلكها ، ومن أهلك نفسه من أجلي وجدها ، ومن قبلكم فقد قبلني ، ومن قبلني فهو يقبل الذي أرسلني ، ومن يقبل نبياً باسم نبي فأجر نبي{[28919]} يأخذ ، ومن يأخذ صديقاً باسم صديق فأجر{[28920]} صديق يأخذ ، ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ {[28921]}- الحق أقول لكم{[28922]} - إن أجره لا يضيع ، ولما أكمل يسوع أمره لتلاميذه{[28923]} الاثني عشر ، انتقل من هناك ليعلم ويكرز في مدنهم{[28924]} ؛ وفي إنجيل مرقس : فلما خرجوا - يعني الرسل - كرزوا بالتوبة وأخرجوا شياطين كثيرة ومرضى عديدة{[28925]} يدهنونهم بالزيت فيشفون ؛ وفي إنجيل لوقا : ومن بعد هذا أيضاً ميز الرب سبعين آخرين{[28926]} وأرسلهم اثنين اثنين قدام وجهه إلى كل مدينة وموضع أزمَعَ أن يأتيه ، وقال لهم : إن الحصاد كثير والفعلة قليلون{[28927]} ، أطلبوا من{[28928]} رب الحصاد ليخرج فعلة لحصاده ؛ وفي إنجيل متى ما ظاهره أن هذا الكلام كان{[28929]} للاثني عشر ، فإنه{[28930]} قال قبل ذكر عددهم : فلما رأى الجمع تحنن عليهم لأنهم كانوا ضالين ومطرحين كالخراف التي ليس لها راع ، حينئذ قال لتلاميذه الاثني عشر - إلى آخر ما ذكرته عنه أولاً ، فيجمع بأنه قاله للفريقين{[28931]} - رجع إلى السياق الأول : اذهبوا ، وهو ذا أرسلكم كالخراف بين الذئاب ، لا تحملوا همياناً ولا حذاء ولا مزوداً و{[28932]} لا تقبلوا أحداً{[28933]} في الطريق ، وأي بيت دخلتموه فقولوا{[28934]} أولاً : سلام لأهل هذا البيت ، فإن كان هناك ابن سلامكم{[28935]} فإن سلامكم{[28936]} يحل عليه ، وإلا فسلامكم راجع إليكم ، وكونوا في ذلك البيت{[28937]} ، كلوا واشربوا من عندهم{[28938]} ، فإن الفاعل مستحق أجرته ، ولا تنتقلوا من بيت إلى بيت ، وأي مدينة دخلتموها ويقبلكم أهلها فكلوا مما يقدم لكم{[28939]} ، واشفوا المرضى الذين فيها ، وقولوا لهم : قد قربت ملكوت الله ، وأي مدينة دخلتموها ولا يقبلكم أهلها فاخرجوا{[28940]} من{[28941]} شوارعها وقولوا لهم{[28942]} : نحن ننفض لكم الغبار الذي لصق بأرجلنا من مدينتكم ، لكن اعلموا أن ملكوت الله قد قربت ، أقول لكم : إن سدوم{[28943]} في ذلك اليوم لها راحة أكثر من تلك المدينة{[28944]} ، الويل لك يا كورزين{[28945]} ! والويل لك يا بيت صيدا ! لأنه لو كان في صور وصيدا القوات التي كنَّ فيكما{[28946]} جلسوا وتابوا بالمسوح والرماد ، وأما صور وصيدا فلهما راحة في الدينونة أكثر منكم ، وأنت يا كفرناحوم لو أنك ارتفعت إلى السماء سوف تهبطين{[28947]} إلى الجحيم ، من سمع منكم فقد سمع مني ، ومن جحدكم فقد جحدني ، ومن جحدني{[28948]} فقد شتم الذي أرسلني ؛ فرجع السبعون بفرح قائلين{[28949]} : يا رب ! الشياطين باسمك تخضع لنا{[28950]} يا رب{[28951]} فقال لهم : قد رأيت الشيطان{[28952]} سقط من السماء مثل البرق ، وهو ذا قد أعطيتكم سلطاناً لتدوسوا{[28953]} الحيات والعقارب وكل قوة العدو ، ولا يضركم شيء ، ولكن{[28954]} لا تفرحوا{[28955]} بهذا أن الأرواح تخضع لكم ، افرحوا لأن أسماءكم مكتوبة في السماوات ، وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح ، والتفت إلى تلاميذه خاصة وقال : طوبى للأعين التي ترى ما رأيتم ! أقول لكم : إن أنبياء كثيرين{[28956]} و{[28957]} ملوكاً اشتهوا أن ينظروا ما نظرتم فلم ينظروا ، ويسمعوا ما سمعتم فلم يسمعوا ؛ وفي إنجيل متى - بعد ما ادعى اليهود صلبه - أنه ظهر لتلاميذه الأحد عشر - وهم من تقدم غير يهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه - في الجليل في الجبل الذي أمرهم به يسوع ، وكلمهم قائلاً : أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض ، فاذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم ؛ وفي آخر إنجيل مرقس أنه ظهر لهم وهم مجتمعون ، وكانوا في تلك الأيام يبكون وينوحون فبكّتهم لقلة{[28958]} إيمانهم وقسوة قلوبهم وقال لهم : امضوا إلى العالم أجمع{[28959]} ، واكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلها ، فمن آمن واعتمد خلص ، ومن لم يؤمن يدان ، وهذه الآيات تتبع{[28960]} المؤمنين ، يخرجون الشياطين باسمي{[28961]} ويتكلمون بألسنة جديدة ، ويحملون بأيديهم الحيات ولا تؤذيهم .
ويشربون السم القاتل فلا يضرهم ، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون ، ومن بعد ما كلمهم يسوع ارتفع{[28962]} إلى السماء ، فخرج أولئك يكرزون في كل مكان ؛ وفي إنجيل لوقا : فلما خرجوا كانوا يطوفون في القرى ويبشرون ويشفون في كل موضع وفي آخره بعد أن ذكر تلامذته الأحد عشر{[28963]} وكلاماً كانوا يخوضون فيه بعد ادعاء اليهود لصلبه : وفيما هم يتكلمون وقف يسوع في وسطهم وقال لهم : السلام لكم{[28964]} ، أنا هو ! لا تخافوا ، فاضطربوا وظنوا أنهم ينظرون روحاً فقال : ما بالكم تضطربون ؟ ولِمَ تأتي الأفكار في قلوبكم ؟ انظروا يدي ورجلي فإني أنا هو ! جسّوني وانظروا ، إن الروح ليس له لحم ولا عظم كما ترون أنه لي ؛ ولما قال هذا أراهم{[28965]} يديه ورجليه ، وإذا هم غير مصدقين من الفرح ، قال لهم : أعندكم ههنا ما يؤكل ؟ فأعطوه{[28966]} جزءاً من حوت مشوي ومن شهد عسل ، فأخذ قدامهم وأكل ، وأخذ الباقي وأعطاهم ، وقال لهم : هذا الكلام الذي كلمتكم به إذ{[28967]} كنت معكم ، وأنه سوف يكمل كل شيء هو مكتوب في ناموس موسى والأنبياء والمزامير لأجلي ، وحينئذ فتح أذهانهم ليفهموا ، وقال لهم : اجلسوا أنتم في المدينة يروشليم حتى تتذرعوا{[28968]} لقوة من العلى ، ثم أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ، فرفع يديه وباركهم ، وكان فيما هو يباركهم انفرد عنهم{[28969]} وصعد إلى السماء أمامهم ، فرجعوا إلى يروشليم بفرح عظيم ، وكانوا في كل حين يسبحون ويباركون الله - انتهى ما نقلته من الأناجيل . وما{[28970]} كان فيه من لفظ يوهم نقصاً ما{[28971]} فقد تقدم في أول{[28972]} آل عمران أنه لا يجوز في شرعنا إطلاقه على الله تعالى وإن كان صح إطلاقه في شرعهم ، فهو مؤول وقد نسخ ؛ وقال الإمام محيي السنة البغوي في تفسير آل عمران فيما نقله عن وهب : فلما كان بعد سبعة أيام - أي من ادعاء اليهود لصلبه - قال الله تعالى لعيسى عليه السلام : اهبط على مريم المجدلانية في جبلها ، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها ، ولم يحزن عليك{[28973]} أحد حزنها ، ثم لتجمع لك الحواريين فتبثهم{[28974]} في الأرض دعاة إلى الله تعالى ، فأهبطه{[28975]} الله تعالى عليها فاشتعل{[28976]} الجبل حين هبط نوراً ، فجمعت له الحواريين فبثهم{[28977]} في الأرض دعاة ، ثم رفعه الله إليه ، وتلك الليلة هي التي تدخن{[28978]} فيها النصارى ، فلما أصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى عليه السلام إليهم ، فذلك قوله تعالى{ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين{[28979]} }[ آل عمران : 54 ] هذا ما ذكر{[28980]} من شأن رسل عيسى عليه السلام أنهم كانوا دعاة ، وأما رسل{[28981]} النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم{[28982]} كانوا مبلغين لكتبه صلى الله عليه وسلم ، فمن قبل ذلك كان حظه من الله ، ومن أبى كان جوابه السيف الماحق لدولته - كما ذكرته مستوفى في شرحي لنظمي للسيرة{[28983]} وهو مذكور في فتوح البلاد ؛ ولما بعث صلى الله عليه وسلم رسله اتخذ لأجل مكاتبة الملوك الخاتم ، أخرج أبو يعلى في مسنده عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر - وفي رواية : وأكيدر دومة و{[28984]} إلى كل جبار - يدعوهم إلى الله وأخرج الشيخان في صحيحهما - وهذا لفظ مسلم - عن أنس بن مالك أيضاً رضي الله عنه قال : لما{[28985]} أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم - وفي رواية : إلى العجم - قالوا : إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً ، فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقشه " محمد رسول الله " .
فبعث دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه إلى قيصر ملك الروم وأمره أن يوصل الكتاب إلى عظيم بصرى ليوصله إليه ، فعظم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وقبله وقرأه ووضعه على وسادة وعلم صدقه صلى الله عليه وسلم و{[28986]} أنه سيغلب على ملكه ، فجمع الروم وأمرهم بالإسلام فأبوا ، فخافهم{[28987]} فقال : إنما أردت أن أجربكم ، ثم لم يقدر الله له الإسلام ، فأزال الله حكمه عن الشام وكثير من الروم على يدي أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، ثم{[28988]} عن كثير من الروم أيضاً على يد من بعدهم ، ومكن بها الإسلام ، لكن أثابه{[28989]} الله على تعظيم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن أبقى ملكه في أطراف بلاده إلى الآن ، وبلغني أن الكتاب محفوظ عندهم إلى هذا الزمان ؛ وبعث شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه إلى الحارث بن أبي شمر الغساني - وقال القضاعي : المنذر بن أبي شمر عامل قيصر على تخوم الشام - ثم{[28990]} إلى جبلة بن الأيهم{[28991]} الغساني ، فأما الحارث أو المنذر فغضب من الكتاب وهمّ {[28992]} بالمسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقاتله ، زعم فنهاه{[28993]} عن ذلك قيصر ، فأكرم شجاعاً ورده وأسلم{[28994]} حاجبه مري الرومي{[28995]} بما عرف من صفة النبي صلى الله عليه وسلم{[28996]} في الإنجيل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم{[28997]} : " باد ملك الحارث ، وفاز مري " فقلّ ما لبث الحارث حتى مات ، وولي بعده في مكانه{[28998]} جبلة بن الأيهم{[28999]} الغساني ، وهو آخر ملوك غسان على نواحي الشام ، فرد{[29000]} إليه النبي صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب رضي الله عنه ، فرد{[29001]} على النبي صلى الله عليه وسلم رداً جميلاً ولم يسلم ، واستمر يتربص حتى أسلم في خلافة عمر رضي الله عنه لما رأى من ظهور نور الإسلام وخمود نار الشرك ، ثم إنه ارتد - ولحق ببلاد الروم - في لطمة أريد أن يقتص منه فيها{[29002]} ، فسبحان الفاعل لما يشاء ! وبعث عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه إلى كسرى ملك الفرس ، وأمره أن يدفع الكتاب إلى عظيم البحرين ليوصله إليه ، فلما رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ{[29003]} باسمه الشريف مزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه ، فرجع عبد الله ، فلما سكن غضب الخبيث التمسه فلم يجده فأرسل في طلبه فسبق الطلب ، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن تمزيق الكتاب ، دعا على كسرى أن يمزق كل ممزق ، فأجاب الله دعوته فشتت شملهم وقطع وصلهم على يد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ثم قتل يزدجرد آخر ملوكهم في خلافة عثمان رضي الله عنه ، فأصبح ملك الأكاسرة كأمس الدابر{[29004]} ، وعم بلادهم الإسلام وظهرت بها كلمة الإيمان ، بل تجاوز الإسلام ملكهم{[29005]} إلى ما وراء النهر وإلى بلاد الخطا .
وبعث حاطب بن أبي بلتعة{[29006]} رضي الله عنه إلى المقوقس صاحب مصر والإسكندرية ، فعلم من صدق النبي صلى الله عليه وسلم ما علمه قيصر من الإنجيل ، فأكرم الرسول وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ورد رداً جميلاً ولم يسلم ، فأباد الله ملكه على يد عمرو بن العاص أمير لعمر رضي الله عنهما . وبعث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى النجاشي فآمن رضي الله عنه وقال : أشهد أنه النبي صلى الله عليه وسلم الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل عليهم السلام .
وأن العيان ليس بأشفى من الخبر{[29007]} ، وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدايا{[29008]} كثيرة ، وأرسل ابنه بإسلامه في سبعين من الحبشة ، وقال في كتابه : وإني لا أملك إلا نفسي ومن آمن بك من قومي ، وإن أحببت أن آتيك يا رسول الله فعلتُ ؛ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي واستغفر له ؛ وبعث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين وإلى أسيحت{[29009]} مرزبان هجر بكتاب يدعوهما{[29010]} فيه إلى الإسلام أو الجزية ، وأرض البحرين من بلاد العرب ، لكن كان الفرس قد غلبوا عليها ، وبها خلق كثير من عبد القيس وبكر بن وائل وتميم فأسلم المنذر وأسيحت{[29011]} وجميع من هناك من العرب وبعض العجم ، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على عمله ؛ وبعث سليط بن عمرو العامري رضي الله عنه إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة ، وكان عاملاً لقيصر على قومه ، فقرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورد رداً دون رد ، فصادف أن قدم عليه راهب من دمشق ، فأخبره أنه لم يجب إلى الإسلام ، فقال : لم ؟ قال : ضننت بملكي{[29012]} ، قال الراهب : لو تبعته لأقرك والخير لك في اتباعه ، فإنه النبي صلى الله عليه وسلم ، بشر به عيسى عليه السلام ، قال هوذة للراهب : فما لك{[29013]} لا تتبعه ؟ فقال : أجدني{[29014]} أحسده وأحب الخمر ، فكتب هوذة كتاباً وبعث{[29015]} إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهدية مكانه ذلك ، وشعر به قومه فأتوه{[29016]} فهددوه{[29017]} ، فرد الرسول واستمر{[29018]} على نصرانيته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع إليه سليط :
" باد هوذة وباد ما في يده " ! فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من فتح مكة{[29019]} جاءه{[29020]} جبرئيل عليه السلام بأن هوذة مات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي " ، فكان{[29021]} كذلك كما هو مشهور من أمر مسيلمة الكذاب ، وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن ، فلما بلغه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قال الحارث : قد كان هذا النبي عرض نفسه عليّ فخطئت{[29022]} عنه ، وكان ذخراً لمن صار إليه ، وسأنظر ، وتباطأ به الحال إلى أن أسلم عند رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك سنة الوفود ، وكاتب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ؛ وبعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى جيفر{[29023]} وعبد{[29024]} ابني الجلندي{[29025]} الأزديين ملكي عمان ، فتوقفا واضطرب{[29026]} رأيهما ، ثم عزم الله لهما على الرشد فقال جيفر : إنه والله قد دلني على هذا النبي صلى الله عليه وسلم الأمي أنه لا يأمر بخير إلاّ كان أول آخذ به ، ولا{[29027]} ينهى عن شر إلا كان أول تارك له ، وأنه يغلب فلا يبطر{[29028]} ، ويغلب فلا يفجر{[29029]} ، وأنه يوفى بالعهد وينجز الوعد ، ولا يزال يطع على سر قوم يساوي فيه أهله ، وإني أشهد أنه رسول الله ، وأسلم أخوه أيضاً ، وكتبا{[29030]} إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهما ، فقال خيراً وأثنى خيراً ، وكان في سير هؤلاء الرسل لعمري غير ما ذكر أحاديث عجائب وأقاصيص غرائب من دلائل النبوة وأعلام الرسالة ، خشيت من ذكرها الإطالة وأن تمل وإن لم يكن فيها ما يقتضي{[29031]} ملاله ، وقد شفيت في شرحي لنظمي للسيرة باستيفائها القليل في ترتيب جميل ونظم أسلوبه لعمري جليل ، هؤلاء رسل البشر ، وأما الرسل من الجن فقد روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :{ وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن{[29032]} يستمعون القرآن{[29033]} }[ الجن : 29 ] قال : كانوا{[29034]} تسعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم قال الهيثمي : وفي سنده النضر أبو عمر وهو متروك ، ويؤيد عموم هذه الآية في تناولها الملائكة عليهم السلام قوله تعالى{ ليكون للعالمين نذيراً{[29035]} }[ الفرقان : 1 ] وإذا تأملت سياق الآيات التي بعدها مع آخر السورة التي قبلها قطعت بذلك
( لينذر من كان حياً }[ يس : 70 ] ، { إنما تنذر من اتبع الذكر }[ يس : 11 ] إذ هم من جملة العالمين وممن بلغه القرآن وممن هو حي وممن{[29036]} اتبع الذكر{[29037]} ، والخطاب بالإنذار وارد مورد التغليب ، إذ الإنس والجن أهل له ، فانتفى ما يقال : إن الملائكة في غاية الخوف من الله تعالى مع عصمتهم فليسوا{[29038]} ممن يخوف ، ويزيد ذلك وضوحاً قوله تعالى :{ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين{[29039]} }[ الأنبياء : 29 ] ولا إنذار أعظم من ذلك ، وإن عيسى عليه السلام من هذه الأمة وممن شملته الآيات الدالة على عموم الرسالة بغير شك ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ! لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي " أخرجه الإمام أحمد والدارمي والبيهقي في الشعب عن جابر رضي الله عنه ، ومذهب أهل السنة أن رسل البشر أفضل من رسل الملائكة ، وقد ثبتت{[29040]} رسالته إلى الأفضل المعصوم بالفعل لعيسى ، وبالتعليق بالحياة لموسى عليه السلام ، وقد أخذ الله سبحانه ميثاق النبيين كلهم عليهم السلام إن أدركوه ليؤمنن به ، وقد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم - وهو أشرف الخلق وأكملهم - بالإنذار في غير آية ، فمهما أول به ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم قيل مثله في حقهم عليهم السلام ، ومما يرفع{[29041]} النزاع ويدفع{[29042]} تعلل المتعلل بالإنذار قوله تعالى{ لتنذر به وذكرى للمؤمنين{[29043]} }[ الأعراف : 2 ] فخذف مفعول " تنذر " دال على عموم رسالته ، وتعليق الذكرى{[29044]} بالمؤمنين مدخل لهم بلا ريب لأنهم من رؤوسهم - عليهم السلام ، وقوله تعالى{ لتبشر به المتقين{[29045]} }[ مريم : 97 ] إلى غيرها من الآيات ، فيكون عموم رسالته لهم زيادة شرف له ، وهو واضح{[29046]} ، وزيادة شرف لهم بحمل أنفسهم على طاعته والتقيد بما حده لهم من أعمال ملته طاعة لله{[29047]} تعالى زيادة في أجورهم ورفعة درجاتهم ، وذلك مثل ما قال أبو حيان{[29048]} في قوله تعالى{[29049]}{ فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين{[29050]} }[ الأعراف : 144 ] : إن في{[29051]} الأمر له بذلك مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال ؛ وقال القاضي عياض{[29052]} في الفصل السابع من الباب الأول من القسم الأول من الشفا في قوله تعالى{[29053]}{ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب{[29054]} وحكمة{[29055]} }[ آل عمران : 81 ] قال المفسرون : أخذ الله الميثاق بالوحي ، فلم يبعث نبياً إلا ذكر له محمداً ونعته{[29056]} وأخذ عليه ميثاقه إن أدركه ليؤمنن به ، ويعضد ذلك ما قال في أول الباب الأول : وحكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبرئيل عليه السلام : " هل أصابك من هذه الرحمة المذكورة في قوله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين{[29057]} } شيء ؟ قال نعم ! كنت أخشى العاقبة{[29058]} فآمنت لثناء الله عز وجل عليّ بقوله { ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين{[29059]} } [ التكوير : 20 ، 21 ] " وروى مسلم في كتاب الصلاة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون " وحمل من حمل الخلق على الناس - للرواية التي فيها " إلى الناس " تحكم ، بل العكس أولى لمطابقة الآيات{[29060]} ، وقد خرج من هذا العموم من لا يعقل بالدليل العقلي ، فبقي غيرهم داخلاً في اللفظ ، لا يحل لأحد أن يخرج منه أحداً منهم إلا بنص صريح ودلالة قاطعة ترفع النزاع ، وقال عياض في الباب الثالث من القسم الأول : وذكر البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لما أراد الله تعالى أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان - فذكر المعراج وسماع الأذان من وراء الحجاب ثم قال : ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم{[29061]} فقدمه ، فأمّ بأهل السماء فيهم آدم ونوح - انتهى . وروى عبد الرزاق عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان الرجل بأرض قيّ{[29062]} فحانت الصلاة فليتوضأ ، فإن لم يجد الماء فليتيمم ، فإن أقام صلى معه ملكاه ، وإن{[29063]} أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه " قال المنذري : القيّ - بكسر القاف وتشديد الياء ، وهي الأرض{[29064]} القفر . وروى مالك والستة إلا الترمذي وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال{[29065]} : " إذا قال الإمام { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فقولوا آمين " -وفي رواية إذا أمن الإمام فأمنوا - فإنه من وافق تأمينه{[29066]} - تأمين الملائكة - وفي رواية : من وافق قوله قول الملائكة - غفر له ما تقدم من ذنبه . وفي رواية في{[29067]} الصحيح : " إذا قال أحدكم في الصلاة : آمين ، وقالت الملائكة في السماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم له من ذنبه " وفي رواية{[29068]} لأبي يعلى : إذا قال الإمام { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال الذين{[29069]} خلفه : آمين ، التقت{[29070]} من أهل السماء وأهل الأرض آمين{[29071]} ، غفر للعبد ما تقدم من ذنبه . وللشيخين عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا{[29072]} لك الحمد ، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " ؛ وفي رواية : فإذا وافق قول أهل السماء قول{[29073]} أهل الأرض غفر له ما تقدم من ذنبه ؛ في أشكال ذلك مما يؤذن بائتمام الملائكة بأئمتنا ، وذلك ظاهر في التقيد{[29074]} بشرعنا ؛ وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم وجزم ابن معين والذهلي بصحته - عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة " وأدل من جميع ما مضى ما روى مالك والشيخان وأبو داود وابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة{[29075]} الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ، ومن راح في الساعة{[29076]} الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون{[29077]} الذكر " ؛ وفي رواية : " فإذا قعد الإمام طويت الصحف " ؛ وفي رواية لأحمد عن أبي سعيد : فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طويت الصحف{[29078]} ودخلوا المسجد يستمعون الذكر . فإن تركهم لكتابة الناس وإقبالهم على الاستماع دليل واضح على الائتمام ، بما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت ، والإمام يخطب{[29079]} فقد لغوت{[29080]} " قال الحليمي في الرابع من شعب الإيمان في الجواب عما أورد على قوله :
{ لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله{[29081]} }[ الإسراء : 87 ] من أن التخصيص بالإنس والجن لا يمنع قدرة الملائكة على المعارضة ما نصه : وأما الملائكة فلم يتحدوا{[29082]} على ذلك لأن الرسالة إذا لم تكن إليهم لم يكن القرآن حجة عليهم ، فسواء كانوا قادرين على مثله أو عاجزين ، وهم عندنا عاجزون ؛ وقال في الخامس عشر في أن من أنواع تعظيمه{[29083]} الصلاة عليه فأمر الله عباده أن يصلوا عليه ويسلموا ، وقدم قبل ذلك إخبارهم بأن ملائكته يصلون عليه ، {[29084]} فأمر الله عباده{[29085]} لنبيهم بذلك على ما في الصلاة عليه من الفضل إذا كانت الملائكة مع انفكاكهم عن شريعته تتقرب{[29086]} إلى الله تعالى بالصلاة والتسليم عليه{[29087]} ، ليعلموا أنهم بالصلاة والتسليم عليه أول وأحق - هذا نصه في الموضعين ، ولم يذكر لذلك دليلاً ، ونسب الجلال المحلي في شرحه لجمع الجوامع مثل ذلك إلى البيهقي في الشعب فإنه قال : وصرح الحليمي والبيهقي في الباب الرابع من شعب الإيمان بأنه عليه الصلاة والسلام لم يرسل إلى الملائكة ، وفي الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه ، قال : وفي{[29088]} تفسير الإمام الرازي والبرهان النسفي{[29089]} حكاية الإجماع{[29090]} في تفسير الآية{[29091]} الثانية - أي{ ليكون للعالمين نذيراً }[ الفرقان : 1 ] أنه لم يكن رسولاً إليهم - انتهى . وهو شهادة نفي كما ترى ، لا ينهض بما ذكرته من النصوص على أن الحليمي لم يقل بذلك إلا لقوله بأن لملائكة أفضل من الأنبياء - كما نقله عنه الإمام فخر الدين في كتاب الأربعين والشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد وغيرهما ، ولم يوافقه على ذلك أحد من أهل السنة إلا القاضي ابو بكر الباقلاني ، فكما لم يوافق على الأصل لا يوافق على الفرع ، وأما البيهقي فإنما نقله عن الحليمي وسكوته عليه لا يوجب القطع برضاه{[29092]} ، قال الزركشي في شرح جمع الجوامع : وهي مسألة وقع النزاع فيها بين فقهاء مصر مع فاضل درس عندهم وقال لهم : الملائكة ما دخلت{[29093]} في دعوته ، فقاموا عليه ، وقد ذكر الإمام فخر الدين في تفسير سورة الفرقان{[29094]} الدخول محتجاً بقوله تعالى { ليكون{[29095]} للعالمين نذيراً } : والملائكة داخلون في هذا العموم - انتهى .
وهذا يقدح فيما نقل عنه من نقل الإجماع ، وعلى تقدير صحته ففيه أمور ، أما أولاً فالإجماع لا يرجع إلا{[29096]} إلى أهل الاطلاع على المنقولات من حفاظ الآثار وأقاويل السلف فيه{[29097]} ، وأما ثانياً فإنه نقل{[29098]} يحتمل التصحيح والتضعيف ، لأنه بطرقه احتمال أن يكون نقل{[29099]} عمن لا يعتد به ، أو يكون أخذه عن أحد مذاكرة{[29100]} وأحسن الظن به ، أو حصل له{[29101]} سهو ، ونحو ذلك ، فلا وثوق إلا بعد معرفة المنقول عنه وسند النقل والاعتضاد بما يوجب الثقة ليقاوم هذه الظواهر{[29102]} الكثيرة ، و{[29103]} أما ثالثاً{[29104]} فإنه سيأتي عن الإمام تقي الدين السبكي أن بعض المفسرين قال بالإرسال إلى الملائكة ، وقال الإمام ولي الدين أبو زرعة أحمد ابن الحافظ زين الدين العراقي في شرحه لجمع الجوامع : وأما كونه مبعوثاً إلى الخلق أجمعين فالمراد المكلف منهم ، وهذا يتناول الإنس والجن والملائكة ، فأما الأولان{[29105]} فبالإجماع ، وأما الملائكة فمحل خلاف فأين الإجماع ! هذا على تقدير صحة هذا النقل وأنى لمدعي ذلك به فإني راجعت تفسير الإمام للآية المذكورة فلم أجد فيه نقل الإجماع ، وإنما قال : ثم قالوا : هذه الآية تدل على أحكام : الأول أن العالم كل ما سوى الله ، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة ، لكنا نبئنا أنه عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الملائكة ، فوجب أن ينفى كونه رسولاً إلى الجن{[29106]} والإنس{[29107]} جميعاً ، وبطل قول من قال : إنه كان رسولاً إلى البعض دون البعض ، الثاني أن لفظ { العالمين } يتناول جميع المخلوقات ، فتدل الآية على أنه رسول إلى المكلفين إلى يوم القيامة ، فوجب أن يكون خاتم الأنبياء والرسل - هذا لفظه في أكثر النسخ ، وفي بعضها : لكنا{[29108]} أجمعنا - بدل : نبئنا - وهي غير صريحة في إجماع الأمة كما ترى ، ولم يعين الموضع الذي أحال عليه في النسخ الأخرى - فليطلب من مظانه ويتأمل{[29109]} ، وأما النسفي فمختصر له - والله الموفق ؛ ثم رأيت في خطبة كتاب{[29110]} الإصابة في أسماء الصحابة لشيخنا حافظ عصره أبي الفضل بن حجر في تعريف الصحابي : وقد نقل الإمام فخر الدين في أسرار التنزيل الإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مرسلاً إلى الملائكة ، ونوزع{[29111]} في هذا النقل ، بل رجح الشيخ تقي الدين السبكي أنه كان مرسلاً إليهم واحتج بأشياء يطول شرحها - انتهى .
والعجب من الرازي في نقل هذا الذي لا يوجد لغيره مع أنه قال في أسرار التنزيل في أواخر الفصل الثاني من الباب الثالث في الاستدلال بخلق الآدمي على وجود الخالق : الوجه الرابع - أي في تكريم بني آدم - أنه جعل أباهم رسولاً إلى الملائكة حيث قال{ أنبئهم بأسمائهم{[29112]} }[ البقرة : 31 ] وقد تقرر أن كل كرامة كانت لنبي من الأنبياء فلنبينا صلى الله عليه وسلم مثلها أو أعظم{[29113]} منها ، وقال في تفسيره الكبير في{ وعلم آدم الأسماء{[29114]} }[ البقرة : 31 ] : ولا يبعد أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى من يوجه التحذير إليهم من الملائكة ، لأن جميعهم وإن كانوا رسلاً فقد يجوز الإرسال إلى الرسول لبعثة إبراهيم إلى لوط عليهما السلام - انتهى . وأنت خبير بأمر عيسى عليه السلام بعد نزوله من السماء{[29115]} ، والحاصل أن رسالته صلى الله عليه وسلم إليهم صلوات الله عليهم - رتبة فاضلة ودرجة عالية كاملة جائزة له{[29116]} ، لائقة بمنصبه ، مطابقة لما ورد من القواطع لعموم{[29117]} رسالته وشمول دعوته ، وقد دلت على حيازته لها ظواهر الكتاب والسنة مع أنه لا يلزم من إثباتها{[29118]} له إشكال في الدين ولا محذور في الاعتقاد ، فليس لنا التجريء{[29119]} على نفيها إلا بقاطع كما قال إمامنا الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة في آية الأنعام { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً }[ الأنعام : 145 ] قال : فاحتملت معنيين{[29120]} : أحدهما أن{[29121]} لا يحرم على طاعم يطعمه{[29122]} أبداً إلا ما استثنى الله عز وجل ، وهذا المعنى الذي إذا وُوجه{[29123]} رجل مخاطباً به كان الذي يسبق إليه أنه لا يحرم عليه{[29124]} غير{[29125]} ما سمى الله{[29126]} عز وجل محرماً ، وما كان هكذا فهو الذي يقال{[29127]} له أظهر المعاني وأعمها وأغلبها والذي{[29128]} لو احتملت الآية معاني سواه - كان هو المعنى الذي يلزم أهل العلم القول به إلا أن تأتي سنة للنبي صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - تدل على معنى غيره مما{[29129]} تحتمله الآية ، فنقول{[29130]} : هذا معنى ما أراد الله عزّ وجلّ ، ولا يقال بخاص في كتاب الله ولا سنة إلا بدلالة فيهما أو في واحد منهما{[29131]} ، ولا يقال بخاص حتى تكون الآية{[29132]} تحتمل أن تكون{[29133]} أريد بها ذلك الخاص ، فأما ما لم تكن محتملة له فلا يقال فيها بما لا تحتمل{[29134]} الآية - انتهى . وشرحه الإمام أبو محمد بن حزم في المحلى فقال : ولا يحل لأحد أن يقول في آية{[29135]} أو في خبر : هذا منسوخ{[29136]} أو{[29137]} مخصوص في بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه ، ولا أن لهذا النص تأويلاً غير مقتضى ظاهر لفظه ، ولا أن هذا الحكم غير واجب علينا من حين وروده{[29138]} إلا بنص آخر وأرد بأن هذا النص كما ذكر{[29139]} ، أو بإجماع متيقن بأنه كما ذكر ، أو بضرورة حس{[29140]} موجبة أنه كما ذكر ، برهانه : وما أرسلنا من رسول{[29141]} إلا ليطاع بإذن الله{[29142]} }[ النساء : 64 ] { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم{[29143]} }[ إبراهيم : 4 ] وقال{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم{[29144]} فتنة }[ النور : 63 ] ، ومن ادعى أن المراد بالنص بعض ما يقتضيه في اللغة العربية ، لا كل ما يقتضيه{[29145]} فقد أسقط بيان النص ، {[29146]} وأسقط{[29147]} وجوب الطاعة له بدعواه الكاذبة ، وليس بعض ما يقتضيه النص بأولى بالاقتصار عليه من سائر ما يقتضيه - انتهى . وقال أهل الأصول : إن الظاهر ما{[29148]} دل على المعنى دلالة ظنية أي راجحة ، والتأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح ، {[29149]} فإن حمل عليه لدليل فصيح{[29150]} - أو لما نظن دليلاً وليس في الواقع بدليل - فاسد{[29151]} ، أو لا لشيء فلعب لا تأويل ، قال الإمام الغزالي في كتاب المحبة من الإحياء في الكلام على أن رؤية الله تعالى في الآخرة هل هي بالعين أو بالقلب : والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ، ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجرى على ظاهره إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلاّ لضرورة - انتهى{[29152]} ، وقال الإمام تقي الدين السبكي في جواب السؤال عن الرسالة إلى الجن الذي تقدم في أول الكلام على هذه الآية أني رأيته بخطه{[29153]} : الآية العاشرة :{ ليكون للعالمين نذيراً{[29154]} }[ الفرقان : 1 ] قال المفسرون كلهم في تفسيرها : للجن والإنس ، وقال بعضهم : والملائكة . {[29155]} الثانية عشرة{[29156]}{ وما أرسلناك إلا كافة للناس{[29157]} }[ سبأ : 28 ] قال المفسرون : معناها{[29158]} : إلا إرسالاً عاماً شاملاً لجميع الناس ، أي ليس بخاص ببعض الناس ، فمقصود الآية نفي{[29159]} الخصوص وإثبات العموم ، ولا مفهوم لها فيما وراء الناس ، بل قوتها في العموم يقتضي عدم{[29160]} الخصوصية فيهم وحينئذ يشمل الجن ، ولو كان مقصود الآية حصر{[29161]} رسالته في الناس لقال : وما أرسلناك إلا إلى الناس ، فإن كلمة " إلا " تدخل على ما يقصد الحصر فيه ، فلما أدخلها على { كافة } دل على أنه المقصود بالحصر ، ويبقى قوله { للناس } لا مفهوم له ، أما أولاً فلأنه مفهوم قلب{[29162]} وأما ثانياً فلأنه لا يقصد بالكلام ، أما ثالثاً فلأنه{[29163]} قد قيل : إن { الناس } يشمل الإنس والجن ، أي على القول بأنه مشتق من النوس ، وهو التحرك ، وهو على هذا شامل للملائكة أيضاً ، وممن صرح من أهل اللغة بأن { الناس } يكون{[29164]} من الإنس ومن الجن{[29165]} الإمام أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي في كتابه ديوان الأدب{[29166]} ، قال السبكي : السابعة عشرة{[29167]}
إن هو إلا ذكر للعالمين{[29168]} }[ ص : 87 ] الثامنة عشرة{[29169]}{ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب{[29170]} }[ يس : 11 ] ونحوهما كقوله{[29171]}{ لتنذر من كان حياً{[29172]} }[ يس : 70 ] وكذا قوله { هدى للمتقين } ، وأما السنة فأحاديث : الأول حديث مسلم{[29173]} عن أبي هريرة رضي الله عنه " وأرسلت إلى الخلق كافة " ، " إلى الخلق " عام يشمل الجن بلا شك ، ولا يرد على هذا أنه ورد في روايات هذا الحديث من طرق أخرى في صحيح البخاري وغيره " الناس " موضع " الخلق " لأنا نقول : ذلك من رواية جابر ، وهذا من رواية أبي هريرة ؛ فلعلهما حديثان ، وفي رواية الخلق زيادة معنى على الناس ، فيجب الأخذ به{[29174]} إذ لا تعارض{[29175]} بينهما ، ثم جوز أن يكون من روى " الناس " روى بالمعنى فلم يوف به ، قال : وهذا الحديث يؤيد قول من قال : إنه مرسل إلى الملائكة ولا يستنكر هذا ، فقد يكون ليلة الإسراء يسمع{[29176]} من الله كلاماً فبلغه لهم في السماء أو لبعضهم ، وبذلك يصح أنه مرسل إليهم ، ولا يلزم من كونه مرسلاً إليهم من حيث الجملة أن يلزمهم جميعُ الفروع التي تضمنتها شريعته ، فقد يكون مرسلاً إليهم في بعض الأحكام أو في بعض الأشياء التي ليست بأحكام ، أو يكون يحصل لهم بسماع القرآن زيادةُ إيمان ، ولهذا جاء فيمن قرأ سورة الكهف : فنزلت عليه مثل الظلة ، ثم قال في أثناء كلام : بخلاف{[29177]} الملائكة ، لا يلتزم أن هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قيل بعموم الرسالة لهم ، بل يحتمل ذلك ويحتمل في شيء خاص كما أشرنا إليه فيما قبل - انتهى . قلت : ولا ينكر اختصاص الأحكام ببعض المرسل إليهم دون بعض في شرع واحد في الأحرار والعبيد والنساء والرجال والحطّابين والرعاء بالنسبة إلى بعض أعمال الحج وغير ذلك مما يكثر تعداده - والله الموفق ؛ ومن تجرأ{[29178]} على نفي الرسالة إليهم من أهل زماننا بغير نص صريح يضطره إليه ، كان ضعيف العقل{[29179]} مضطرب الإيمان مزلزل اليقين سقيم{[29180]} الدين ، ولو كان حاكياً لما قيل على وجه الرضى به ، {[29181]} فما كل{[29182]} ما يُعلَم يقال ، وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع ، ولعمري ! إن الأمر لعلى ما قال صاحب البردة وتلقته{[29183]} الأمة بالقبول ، وطرب عليه في المحافل والجموع :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم *** واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم