قوله تعالى : { بلى } . وبلى وبل : حرفا استدراك ومعناهما نفي الخبر الماضي وإثبات الخبر المستقبل .
قوله تعالى : { من كسب } . يعني الشرك .
قوله تعالى : { وأحاطت به خطيئته } . قرأ أهل المدينة خطيئته بالجمع ، والإحاطة الإحداق بالشيء من جميع نواحيه ، قال ابن عباس وعطاء والضحاك وأبو العالية والربيع ، وجماعة : هي الشرك يموت عليه ، وقيل : السيئة الكبيرة . والإحاطة به أن يصر عليها فيموت غير تائب ، قاله عكرمة و الربيع بن خيثم .
قال الواحدي رحمه الله في تفسيره الوسيط : المؤمنون لا يدخلون في حكم هذه الآية لأن الله تعالى أوعد بالخلود في النار من أحاطت به خطيئته وتقدمت منه سيئة وهي الشرك ، والمؤمن وإن عمل الكبائر لم يوجد منه الشرك . وقال مجاهد : هي الذنوب تحيط القلب ، كلما عمل ذنباً ارتفعت حتى تغشى القلب وهي الرين . قال الكلبي : أوبقته ذنوبه ، دليله قوله تعالى :{ إلا أن يحاط بكم } أي تهلكوا { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد ، يدخل به بنو إسرائيل وغيرهم ، وهو الحكم الذي لا حكم غيره ، لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين ، فقال : { بَلَى } أي : ليس الأمر كما ذكرتم ، فإنه قول لا حقيقة له ، ولكن { مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً } وهو نكرة في سياق الشرط ، فيعم الشرك فما دونه ، والمراد به هنا الشرك ، بدليل قوله : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } أي : أحاطت بعاملها ، فلم تدع له منفذا ، وهذا لا يكون إلا الشرك ، فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته .
{ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية ، وهي حجة عليهم كما ترى ، فإنها ظاهرة في الشرك ، وهكذا كل مبطل يحتج بآية ، أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه .
يقول تعالى : ليس الأمر كما تمنيتم ، ولا كما تشتهون ، بل الأمر : أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته ، وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة ، بل جميع عمله سيئات ، فهذا من أهل النار ، والذين آمنوا بالله ورسوله{[2086]} وعملوا الصالحات - من العمل الموافق للشريعة - فهم{[2087]} من أهل الجنة . وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } [ النساء : 123 ، 124 ] .
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد - أو عكرمة - عن ابن عباس : { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً } أي : عمل مثل أعمالكم ، وكفر بمثل ما كفرتم به ، حتى يحيط به كفره{[2088]} فما له من حسنة .
وفي رواية عن ابن عباس ، قال : الشرك .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي وائل ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحوه{[2089]} .
وقال الحسن - أيضًا - والسدي : السيئة : الكبيرة من الكبائر .
وقال ابن جريج ، عن مجاهد : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } قال : بقلبه .
وقال أبو هريرة ، وأبو وائل ، وعطاء ، والحسن : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } قالوا : أحاط به شركه .
وقال الأعمش ، عن أبي رزين ، عن الربيع بن خُثَيم : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } قال : الذي يموت على خطايا{[2090]} من قبل أن يتوب . وعن السدي ، وأبي رزين ، نحوه .
وقال أبو العالية ، ومجاهد ، والحسن ، في رواية عنهما ، وقتادة ، والربيع بن أنس : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } الكبيرة الموجبة .
وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى ، والله أعلم . ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عمرو بن قتادة{[2091]} عن عبد ربه ، عن أبي عياض ، عن عبد الله بن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إيَّاكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه " . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهُنَّ مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة ، فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سوادًا{[2092]} ، وأججوا نارًا ، فأنضجوا ما قذفوا فيها{[2093]} .
{ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }( 81 )
و { بلى } رد بعد النفي بمنزلة نعم بعد الإيجاب ، وقال الكوفيون : أصلها بل التي هل للإضراب عن الأول وزيدت عليها الياء ليحسن الوقف عليها وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام بما يأتي بعدها ، وقال سيبويه : هي حرف مثل بل وغيره ، وهي في هذه الآية رد لقول بني إسرائيل { لن تمسنا النار } فرد الله عليهم وبين الخلود في النار والجنة بحسب الكفر والإيمان ، و { من } شرط في موضع رفع بالابتداء ، و «أولئك » ابتداء ثان ، و
{ أصحاب } خبره ، والجملة خبر الأول ، والفاء موطئة أن تكون الجملة جواب الشرط .
وقالت طائفة : السيئة الشرك كقوله تعالى { ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار }( {[866]} ) [ النمل : 90 ] ، والخطيئات كبائر الذنوب ، وقال قوم : «خطيئته » بالإفراد ، وقال قوم : السيئةُ هنا الكبائر ، وأفردها وهي بمعنى الجمع لما كانت تدل على الجنس ، كقوله تعالى { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }( {[867]} ) [ إبراهيم : 34 ] ، والخطيئة الكفر ، ولفظة الإحاطة تقوي هذا القول وهي مأخوذة من الحائط المحدق بالشيء ، وقال الربيع بن خيثم والأعمش والسدي وغيرهم : معنى الآية مات بذنوب لم يتب منها ، وقال الربيع أيضاً : المعنى مات على كفره ، وقال الحسن بن أبي الحسن والسدي : المعنى كل ما توعد الله عليه بالنار فهي الخطيئة المحيطة ، والخلود في هذه الآية على الإطلاق والتأبيد في المشركين ، ومستعار بمعنى الطول والدوام في العصاة وإن علم انقطاعه ، كما يقال ملك خالد ويدعى للملك بالخلد .
وقوله : { بلى } إبطال لقولهم : { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } ، وكلمات الجواب تدخل على الكلام السابق لا على ما بعدها فمعنى بلى بل أنتم تمسكم النار مدة طويلة .
وقوله : { من كسب سيئة } سند لما تضمنته { بلى } من إبطال قولهم ، أي ما أنتم إلا ممن كسب سيئة إلخ ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار فأنتم منهم لا محالة على حد قول لبيد :
تمنَّى ابنتاي أن يعيش أبوهما . . . وهل أَنا إلا من ربيعةَ أو مُضَرْ
أي فلا أخلد كما لم يخلد بنو ربيعة ومضر ، فمَنْ في قوله : { من كسب سيئة } شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها وهي في الشرط من صيغ العموم فلذلك كانت مؤذنة بجملة محذوفة دل عليها تعقيب { بلى } بهذا العموم لأنه لو لم يرد به أن المخاطبين من زمر هذا العموم لكان ذِكر العموم بعدها كلاماً متناثراً ففي الكلام إيجاز الحذف ليكون المذكور كالقضية الكبرى لبرهان قوله : { بلى } .
والمراد بالسيئة هنا السيئة العظيمة وهي الكفر بدليل العطف عليها بقوله : { وأحاطبت به خطيئاته } .
وقوله : { وأحاطت به خطيئاته } الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء ، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء لأن ما يحيط بالمرء لا يترك له منفذاً للإقبال على غير ذلك قال تعالى : { وظنوا أنهم أحيط بهم } [ يونس : 22 ] وإحاطة الخطيئات هي حالة الكفر لأنها تجريء على جميع الخطايا ولا يعتبر مع الكفر عمل صالح كما دل عليه قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] . فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات بل هو لا يخلو من عمل صالح وحسبك من ذلك سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة .
والقصر المستفاد من التعريف في قوله : { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } قصر إضافي لقلب اعتقادهم .