غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{بَلَىٰۚ مَن كَسَبَ سَيِّئَةٗ وَأَحَٰطَتۡ بِهِۦ خَطِيٓـَٔتُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (81)

75

{ بلى } إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله { لن تمسنا النار } أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله تعالى { هم فيها خالدون } عن ابن عباس : وجد أهل الكتاب ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا : لن نعذب في النار إلا ما وجدنا في التوراة ، وإذا كان يوم القيامة أقحموا في النار فساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شفير سقر وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة قال لهم خزنة أهل النار : يا أعداء الله ، زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياماً معدودة ، فقد انقضى العدد وبقي الأبد .

قلت : وفي مثل حالهم ضلال الفلاسفة القائلين بأن الأرواح وإن صارت مكدرة بقبائح أفعال الأشباح ، إلا أنها بعد المفارقة ورجوع العناصر إلى أصلها تصير إلى حظائر القدس ، ولا يزاحمها شيء من قبائح الأعمال إلا أياماً معدودة بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتعات الحيوانية ، ثم تتخلص من العذاب وترجع إلى حسن المآب . ومنهم من زعم أن استيفاء اللذات الحسية يقلل التعلقات الدنيوية ويسهل عروج الروح إلى عالمه العلوي ، وكل هذا خيال فاسد ومتاع كاسد ، وإنه قول من لم يجرب ولم يجد من نفسه أنها كيف تتدنس وتتكدر بالأخلاق الذميمة البهيمية والسبعية ، وكيف تتصفى وتتطهر بالأخلاق الحميدة الروحانية الملكية ، فغمر بصدإ مرآة القلب بحيث لا يبقى فيه شيء من الصفاء الفطري { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [ المطففين : 14 ] فلا يجلوها إلا مرور الدهور وكرور الأعصار . وقد ينضم الكفر إلى تلك الأخلاق فيبقى خالداً مخلداً في النار ، في ويل طويل وزفير وعويل ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . والسيئة أصلها سيوئة من ساءه يسوءه سوأ ومساءة ، فقلبت الواو ياء وأدغمت ، وهي من الصفات الغالبة . وقوله { سيئة } يتناول جميع المعاصي صغرت أو كبرت ، فضم إليها شرط آخر وهو كون السيئة محيطة به ليختص بالكبيرة . ولفظ الإحاطة حقيقة في المجسمات إحاطة السور بالبلد والظرف بالمظروف ، فنقل إلى الخطيئة وهي عرض لمعنيين من جهة أن المحيط يستر المحاط به . والكبيرة تستر الطاعات ، ومن جهة أن الكبيرة تحبط الطاعات وتستولي عليها إحاطة العدو بالإنسان بحيث لا يتمكن الإنسان من الخلاص عنهم . والآية وإن وردت في اليهود فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وبمثلها تتمسك المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر إذا ماتوا قبل التوبة ، وفسر غيرهم الخطيئة المحيطة بالكفر فيه تتحقق الإحاطة التامة . واعلم أن في المسألة خلافاً لأهل القبلة . منهم من قطع بوعيدهم إما مؤبداً - وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج - وإما منقطعاً - وهو قول بشر المريسي والخالدي ومنهم من قطع بأنه وعيد لهم وينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر . والذي عليه أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والإمامية ، القطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العصاة ، وأنه إذا عذب أحدهم فلا يعذبه أبداً ، لكنا نتوقف في حق البعض المعفو عنه والبعض المعذب على التعيين . أما المعتزلة فاستدلوا بعمومات وردت في وعيد الفساق كقوله { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها } [ النساء : 14 ] وقوله { وإن الفجار لفي جحيم }

[ الإنفطار : 14 ] وقوله { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً } [ النساء : 10 ] ومن الحديث " من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة ، ومن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " وعن أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا دخل النار " وإذا استحقوا النار ببغضهم فلأن يستحقوا النار بقتلهم أولى . وأجيب بالمنع من أن هذه الصيغ للعموم بدليل صحة إدخال الكل والبعض عليها نحو : كل من دخل داري فله كذا ، أو بعض من دخل . ولا يلزم منه تكرير ولا تناقض ، ولأن الأكثر قد يطلق عليه لفظ الكل ، ولاحتمال المخصصات . القاطعون بنفي العقاب عن أهل الكبائر احتجوا بنحو قوله تعالى { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } [ النحل : 27 ] { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } [ الرعد : 6 ] { لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى } [ الليل : 15 ، 16 ] وبالعمومات الواردة في الوعد مثل { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } [ البقرة : 3 ] الآية . حكم بالفلاح على كل من آمن . وعورض بعمومات الوعيد . أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض والتوقف في البعض ، فقد تمسكوا بنحو قوله عز من قائل { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }

[ النساء : 48 ] وبأن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضتا فلابد من الترجيح لجانب الوعد بصرف التأويل إليه ، لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف ، وإهمال الوعد باضد . وأيضاً القرآن مملوء من قوله { عفواً غفوراً } { رحيماً } { كريماً } . وكذا الأخبار في هذا المعنى تكاد تبلغ حد التواتر . وأيضاً إن صاحب الكبيرة أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان ، ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر ، ولا يهدمه ما سوى الكفر من المعاصي ، ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي : إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة ، فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة ؟ إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات ، كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي ، وإذا دلت الآيات على الوعد والوعيد فلابد من التوفيق بينهما . فإما أن يصل العبد إلى دار الثواب ثم إلى دار العقاب وهو باطل بالإجماع ، أو يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب . واعلم أن مذهب الأصحاب إلى الأدب أقرب من حيث إنهم يصفونه بصفات الجمال كالعفو والمغفرة ، وبصفات الجلال كالقهر والانتقام ، ولكن لا يوجبون عليه ثواباً ولا عقاباً ، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . ومن حيث إنهم لا يعينون البعض المستحق للثواب ولا البعض المستحق للعقاب من المسلمين ، لأن فعله مبرأ عن التعلل بلواحق الغايات وسوابق البواعث . ومذهب المعتزلة إلى الاحتياط أقرب ، فإن من خوّفك حتى تبلغ الأمن خير ممن أمنك حتى تبلغ الجوف .