البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{بَلَىٰۚ مَن كَسَبَ سَيِّئَةٗ وَأَحَٰطَتۡ بِهِۦ خَطِيٓـَٔتُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (81)

بلى : حرف جواب لا يقع إلا بعد نفي في اللفظ أو المعنى ، ومعناها : ردّه ، سواء كان مقروناً به أداة الإستفهام ، أو لم يكن ، وقد وقع جواباً للاستفهام في مثل : هل يستطيع زيد مقاومتي ؟ إذا كان منكراً لمقاومة زيد له ، لما كان معناه النفي ، ومما وقعت فيه جواباً للاستفهام قول الحجاف بن حكيم :

بل سوف نبكيهم بكل مهند *** ونبكي نميراً بالرماح الخواطر

وقعت جواباً للذي قال له ، وهو الأخطل :

ألا فاسأل الحجاف هل هو ثائر *** بقتلي أصيبت من نمير بن عامر

وبلى عندنا ثلاثي الوضع ، وليس أصله بل ، فزيدت عليها الألف خلافاً للكوفيين .

السيئة : فيعلة من ساء يسوء مساءة ، إذا حزن ، وهي تأنيث السيىء ، وقد تقدّم الكلام على هذا الوزن عند الكلام على قوله : { أو كصيب } فأغنى عن إعادته .

{ بلى } : حرف جواب يثبت به ما بعد النفي ، فإذا قلت : ما قام زيد ، فقلت : نعم ، كان تصديقاً في نفي قيام زيد .

وإذا قلت : بلى ، كان نقضاً لذلك النفي .

فلما قالوا : { لن تمسنا النار } ، أجيبوا بقوله : بلى ، ومعناها : تمسكم النار .

والمعنى على التأبيد ، وبين ذلك بالخلود .

{ من كسب سيئة } من : يحتمل أن تكون شرطية ، ويحتمل أن تكون موصولة ، والمسوّغات لجواز دخول الفاء في الخبر ، إذا كان المبتدأ موصولاً ، موجودة هنا ، ويحسنه المجيء في قسيمة بالذين ، وهو موصول .

والسيئة : الكفر والشرك ، قاله ابن عباس ومجاهد .

وقيل : الموجبة للنار ، قاله السدي ، وعليه تفسير من فسر السيئة بالكبائر ، لأنها هي التي توجب النار ، أي يستحق فاعلها النار إن لم تغفر له .

{ وأحاطت به خطيئته } : قرأ الجمهور بالإفراد ، ونافع : خطيئاته جمع سلامة ، وبعض القراء : خطاياه جمع تكسير ، والمعنى أنها أخذته من جميع نواحيه .

ومعنى الإحاطة به أنه يوافي على الكفر والإشراك ، هذا إذا فسرت الخطيئة بالشرك .

ومن فسرها بالكبيرة ، فمعنى الإحاطة به أن يموت وهو مصر عليها ، فيكون الخلود على القول الأول المراد به الإقامة ، لا إلى انتهاء .

وعلى القول الثاني المراد به الإقامة دهراً طويلاً ، إذ مآله إلى الخروج من النار .

قال الكلبي : أوثقته ذنوبه .

وقال ابن عباس : أحبطت حسناته .

وقال مجاهد : غشيت قلبه .

وقال مقاتل : أصرّ عليها .

وقال الربيع : مات على الشرك .

قال الحسن : بكل ما توعد الله عليه بالنار فهو الخطيئة المحيطة .

ومن ، كما تقدم ، لها لفظ ومعنى ، فحمل أولاً على اللفظ ، فقال : من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ، وحمل ثانياً على المعنى ، وهو قوله : { فأولئك } ، إلى آخره .

وأفرد سيئة لأنه كنى به عن مفرد ، وهو الشرك .

ومن أفرد الخطيئة أراد بها الجنس ومقابلة السيئة ، لأن السيئة مفردة ، ومن جمعها فلأن الكبائر كثيرة ، فراعى المعنى وطابق به اللفظ .

وذهب قوم إلى أن السيئة والخطيئة واحدة ، وأن الخطيئة وصف للسيئة .

وفرق بعضهم بينهما فقال : السيئة الكفر ، والخطيئة ما دون الكفر من المعاصي ، قاله مجاهد وأبو وائل والربيع بن أنس .

وقيل : إن الخطيئة الشرك ، والسيئة هنا ما دون الشرك من المعاصي .

قال الزمخشري : وأحاطت به خطيئته تلك ، واستولت عليه ، كما يحيط العدو ، ولم ينقص عنها بالتوبة .

انتهى كلامه .

وهذا من دسائسه التي ضمنها كتابه ، إذ اعتقاد المعتزلة أن من أتى كبيرة ، ولم يتب منها ، ومات ، كان خالداً في النار .

وفي قوله : { أصحاب النار هم فيها خالدون } : إشارة إلى أن المراد : الكفار ، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون » وقد رتب كونهم أصحاب النار على وجود أمرين : أحدهما ، كسب السيئة ، والآخر : إحاطة الخطيئة .

وما رتب على وجود شرطين لا يترتب على وجود أحدهما ، فدل ذلك على أن من لم يكسب سيئة ، وهي الشرك وإن أحاطت به خطيئته ، وهي الكبائر ، لا يكون من أصحاب النار ، ولا ممن يخلد فيها .

ويعني بأصحاب النار : الذين هم أهلها حقيقة ، لا من دخلها ثم خرج منها .

/خ82