معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ} (27)

قوله تعالى : { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } : والملأ هم الأشراف والرؤساء . { ما نراك } ، يا نوح ، { إلا بشرا } ، آدميا ، { مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } ، سفلتنا ، والرذل : الدون من كل شيء والجمع : أرذل ، ثم يجمع على أراذل ، مثل : كلب وأكلب وأكالب ، وقال في سورة الشعراء :{ واتبعك الأرذلون } يعني : السفلة . وقال عكرمة : الحاكة والأساكفة ، { بادي الرأي } ، قرأ أبو عمرو بادئ بالهمزة ، أي : أول الرأي ، يريدون أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير روية وتفكر ، ولو تفكروا لم يتبعوك . وقرأ الآخرون بغير همز ، أي ظاهر الرأي من قولهم : بدا الشيء : إذا ظهر ، معناه : اتبعوك ظاهرا من غير أن يتدبروا ويتفكروا باطنا . قال مجاهد : رأي العين ، { وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ} (27)

{ 27 } { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } أي : الأشراف والرؤساء ، رادين لدعوة نوح عليه السلام ، كما جرت العادة لأمثالهم ، أنهم أول من رد دعوة المرسلين .

{ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا } وهذا مانع بزعمهم عن اتباعه ، مع أنه في نفس الأمر هو الصواب ، الذي لا ينبغي غيره ، لأن البشر يتمكن البشر ، أن يتلقوا عنه ، ويراجعوه في كل أمر ، بخلاف الملائكة .

{ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } أي : ما نرى اتبعك منا إلا الأراذل والسفلة ، بزعمهم .

وهم في الحقيقة الأشراف ، وأهل العقول ، الذين انقادوا للحق ولم يكونوا كالأراذل ، الذين يقال لهم الملأ ، الذين اتبعوا كل شيطان مريد ، واتخذوا آلهة من الحجر والشجر ، يتقربون إليها ويسجدون لها ، فهل ترى أرذل من هؤلاء وأخس ؟ .

وقولهم : { بَادِيَ الرَّأْيِ } أي : إنما اتبعوك من غير تفكر وروية ، بل بمجرد ما دعوتهم اتبعوك ، يعنون بذلك ، أنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم ، ولم يعلموا أن الحق المبين تدعو إليه بداهة العقول ، وبمجرد ما يصل إلى أولي الألباب ، يعرفونه ويتحققونه ، لا كالأمور الخفية ، التي تحتاج إلى تأمل ، وفكر طويل .

{ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } أي : لستم أفضل منا فننقاد لكم ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } وكذبوا في قولهم هذا ، فإنهم رأوا من الآيات التي جعلها الله مؤيدة لنوح ، ما يوجب لهم الجزم التام على صدقه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ} (27)

{ فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } والملأ هم : السادة والكبراء من الكافرين منهم : { مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا } أي : لست بملك ، ولكنك بشر ، فكيف أوحي إليك من دوننا ؟ ثم ما نراك{[14559]} اتبعك إلا أراذلنا{[14560]} كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء [ منا ]{[14561]} ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن تَرَوّ منهم ولا فكرة ولا نظر ، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك{[14562]} ؛ ولهذا قال : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } أي : في أول بادئ الرأي ، { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } يقولون : ما رأينا لكم علينا فضيلة في خَلْق ولا خُلُق ، ولا رزق ولا حال ، لَمَّا دخلتم في دينكم هذا ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } أي : فيما تَدَّعونه{[14563]} لكم من البر والصلاح والعبادة ، والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها .

هذا اعتراض الكافرين على نوح ، عليه السلام ، وأتباعه ، وذلك دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم ، فإنه ليس بعار على الحق رَذَالة من اتبعه ، فإن الحق في نفسه صحيح ، وسواء اتبعه الأشراف أو الأراذل{[14564]} بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ، ولو كانوا فقراء ، والذين يأبونه هم الأراذل ، ولو كانوا أغنياء . ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس ، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ، {[14565]} ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له فيما قال : أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . فقال هرقل : هم أتباع الرسل .

وقولهم{[14566]} { بَادِيَ الرَّأَي } ليس بمذمة ولا عيب ؛ لأن الحق إذا وضح لا يبقى للتروي{[14567]} ولا للفكر مجال ، بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء ولا يفكر وينزوي هاهنا إلا عَيِيّ أو غبي{[14568]} . والرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، إنما جاءوا بأمر جلي واضح .

وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَة ، غير أبي بكر ، فإنه لم يَتَلَعْثَم " {[14569]} أي : ما تردد ولا تروَّى ، لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا ، فبادر إليه وسارع .

وقولهم : { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } هم لا يرون ذلك ؛ لأنهم عُمْي عن الحق ، لا يسمعون ولا يبصرون : بل هم في ريبهم يترددون ، في ظلمات الجهل يعمهون ، وهم الأفاكون الكاذبون ، الأقلون الأرذلون ، وفي الآخرة هم الأخسرون .


[14559]:- في ت ، أ : "لا نراك.
[14560]:- في ت : "أرذلنا".
[14561]:- زيادة من ت ، أ.
[14562]:- في ت ، أ : "واتبعوك".
[14563]:- في ت : "تدعوهم" ، وفي أ : "تدعونهم".
[14564]:- في ت ، أ : "الأرذال".
[14565]:- في ت : "من نبي".
[14566]:- في ت : "وقوله".
[14567]:- في ت : "للروي" ، وفي أ : "للردي".
[14568]:- في ت ، أ : "غني".
[14569]:- ذكره المؤلف في البداية والنهاية (3/27) عن ابن إسحاق وهو منقطع.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ} (27)

و { الملأ } الجمع والأكثر من القبيلة والمدينة ونجوه ، ويسمى الأشراف ملأ إذ هم عمدة الملأ والسادّون مسدّه في الآراء والأمور ، وكل جماعة كبيرة ملأ .

ولما قال لهم نوح : { إني لكم نذير . . . } قالوا : { ما نراك إلا بشراً مثلنا . . . } أي والله لا يبعث رسولاً من البشر ، فأحالوا الجائز على الله تعالى .

و «الأراذل » جمع أرذل ، وقيل جمع أرذل وأرذال جمع رذل{[6302]} وكان اللازم على هذا أن يقال : أراذيل ؛ وإذا ثبتت الياء في جمع«صيرف » فأحرى ألا تزال في موضع استحقاقها . وهم سفلة الناس ومن لا أخلاق له ، ولا يبالي ما يقول ولا ما يقال له .

وقرأ الجمهور «بادي الرأي » بياء دون همز ، من بدا يبدو ، ويحتمل أن يكون من بدأ مسهلاً ، وقرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي «بادىء الرأي » بالهمز من بدأ يبدأ .

قال القاضي أبو محمد : وبين القراءتين اختلاف في المعنى يعطيه التدبر{[6303]} ، فتركت التطويل ببسطه ، والعرب تقول :«أما بادىء بدء فإني أحمد الله » و«أما بادي بدي » بغير همز فيهما ، وقال الراجز : [ الرجز ]

أضحى لخالي شبهي بادي بدي*** وصار للفحل لساني ويدي{[6304]}

وقال الآخر :

*وقد علتني ذرأة بادي بدي{[6305]}*

وقرأ الجمهور بهمز «الرأي » وقرأ أبو عمرو بترك همزه . و { بادي } نصب على الظرف وصح أن يكون اسم الفاعل ظرفاً كما يصح في قريب ونحوه ، وفعيل وفاعل متعاقبان أبداً على معنى واحد ، وفي المصدر كقولك : جهد نفسي أحب كذا وكذا .

وتعلق قوله : { بادي الرأي } يحتمل ستة أوجه .

أحدها : أن يتعلق ب { نراك } بأول نظر وأقل فكرة ، وذلك هو { بادي الرأي } ، أي إلا ومتبعوك أراذلنا .

والثاني : أن يتعلق بقوله : { اتبعك } أي ، وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل ، ثم يحتمل على هذا قوله : { بادي الرأي } معنيين :

أحدهما : أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم وعسى أن بواطنهم ليست معك .

والثاني : أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادي دون تعقب ولو تثبتوك لم يتبعوك . وفي هذا الوجه ذم الرأي الغير المروي{[6306]} .

والوجه الثالث : من تعلق قوله { بادي الرأي } أن يتعلق بقوله : { أراذلنا } أي الذين هم أراذلنا بأول نظر فيهم ، وببادي الرأي يعلم ذلك منهم ، ويحتمل أن يكون قولهم : { بادي الرأي } وصفاً منهم لنوح ، أي تدعي عظيماً وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك ، ونصبه على الحال وعلى الصفة ، ويحتمل أن يكون اعتراضاً في الكلام مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم . ويجيء جميع هذا ستة معان ، ويجوز التعلق في هذا الوجه ب { قال } .

ومعنى { وما نرى لكم علينا من فضل } أي ما ثم شيء تستحقون به الاتباع والطاعة . ثم قال : { بل نظنكم كاذبين } فيحتمل أنهم خاطبوا نوحاً ومن آمن معه من قومه ، أي أنتم كاذبون في تصديقكم هذا الكاذب ، وقولكم إنه نبي مرسل . ويحتمل أنهم خاطبوا نوحا وحده فيكون من باب قوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم }{[6307]} .


[6302]:- يقول أكثر أهل اللغة: أراذل: جمع أرذل: وأرذُل: جمع رذل، فهو مثل: كلب وأكلب وأكالب. وقد نقل ذلك القرطبي والبحر، وقال في "البحر": "والظاهر أنه جمع أرذل التي هي أفعل التفضيل، وجاء جميعا كما جاء: {أكابر مجرميها} و(أحاسنكم أخلاقا). ويقال: إن الأراذل هي جمع الأرذل كالأساود جمع الأسود من الحيّات.
[6303]:- إذا كانت من "بدا يبدو" فالمعنى المراد هو الظهور، أي: فيما يظهر لنا- وإن كانت من"بدأ يبدأ"- سواء بقيت الهمزة أو سُهّلت- فالمعنى يكون من بدأت، أي: من أول الرأي. قال ذلك الفراء والجوهري.
[6304]:- البيت في "اللسان" و"القاموس"، وهو من شواهد أبي عبيدة في تفسيره "مجاز القرآن"، ولم ينسبه أحد منهم، قال في "اللسان" أراد به: ظاهري في الشبه الخالي، والمعنى: خرجت عن شرخ الشباب إلى حدّ الكهولة التي معها الرأي والحجا، فصرت كالفحولة التي بها يقع الاختيار، ولها بالفضل تكثر الأوصاف". والفراء ينشد البيت شاهدا لعدم الهمز. وتأمل الهامش التالي فالشطر الثاني للبيت هنا مثبت فيه على رواية "اللسان".
[6305]:- هذا بيت من مشطور الرجز، وهو لأبي نُخيلة السعدي، وأنشده الجوهري شاهدا على أن أصله الهمز وإنما ترك لكثرة الاستعمال، قال: وربما جعلوه اسما للداهية، كما قال أبو نخيلة: وقد علتني ذرأة بادي بدي وريثة تنهض بالتشدد وصار للفحل لساني ويدي قال: و"بادي بدى" اسمان جعلا اسما واحدا مثل: "قالي قلا" و "معديكرب"، ومن الرأي في "اللسان" أيضا أنه قد يكون من: بدا يبدو بمعنى: ظهر. والذّرأة: الشيب في مقدم الرأس، ويقال: علته ذرأة أي شيب، وهي بضم الذال، والريثة: انحلال الركب والمفاصل.
[6306]:- الأفصح في اللغة أن يقال: "غير المروي" لأن الألف واللام لا تدخل على (غير) إذ الهدف من إدخالها على النكرة تخصيصها بشيء معيّن، وليس لإدخالها على (غير) فائدة لأنها لا تتعرف بها وتشتمل على ما لا يحصى. وهناك من اللغويين من يجيز إدخال الألف واللام عليها لأنها تشبه المعرفة، فهي تضاف إلى المعرفة ويجوز أن يدخل عليها ما يعاقب الإضافة وهو الألف واللام. (راجع "المصباح المنير- غير"، والصبان، وحواشي الكشاف وغيرها).
[6307]:- من الآية (1) من سورة (الطلاق)، وهي من باب الآية في أن المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو ومن معه.