التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ} (27)

ثم حكى - سبحانه - ما رد به قوم نوح عليه فقال : { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } .

والمراد بالملأ : أصحاب الجاه والغنى من قوم نوح . وهذا اللفظ اسم جميع لا واحد له من لفظه كرهط وهو - كما يقول الآلوسى - : مأخوذ من قولهم فلان ملئ بكذا : إذا كان قادرا عليه . . . أو لأنهم متمالئون أى متظاهرون متعاونون ، أو لأنهم يملأون القلوب والعيون . . .

ووصفهم بالكفر ، لتسجيل ذلك عليهم من أول الأمر زيادة فى ذمهم .

أى : بعد هذا النصح الحكيم الذى وجهه نوح - عليه السلام - لقومه ، رد عليه أغنياؤهم وسادتهم بقولهم { مَا نَرَاكَ } يا نوح إلا بشر مثلنا ، أى : إلا إنسانا مثلنا ، ليست فيك مزية تجعلك مختصا بالنبوة دوننا . . .

فهم - لجهلهم وغبائهم - توهموا أن النبوة لا تجامع البشرية ، مع أن الحكمة تقتضى أن يكون الرسول بشرا من جنس المرسل إليهم ، حتى تتم فائدة التفاهم معه ، والاقتداء به فى أخلاقه وسلوكه .

وقد حكى القرآن قولهم هذا فى أكثر من موضع ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ . وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ . . . } ثم إنهم فى التعليل لعدم اتباع نبيهم لم يكتفوا بقولهم ما نراك إلا بشر مثلنا : بل أضافوا إلى ذلك قولهم : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي } ومرادهم بقولهم : { أَرَاذِلُنَا } أى فقراؤنا ومن لا وزن لهم فينا .

قال الجمل : ولفظ { أَرَاذِلُنَا } فيه وجهان : أحدهما أنه جميع الجمع فهو جمع أرذل - بضم الذال - جمع رذل - بسكونها - نحو كلب وأكلب وأكالب . . .

ثانهيما : أنه جمع مفرد وهو أرذل كأكبر وأكابر . . والأرذل هو المغروب عنه لرداءته .

ومرادهم بقولهم : { بَادِيَ الرأي } أى : أوله من البدء . يقال : بدأ يبدأ إذا فعل الشئ أولا وعليه تكون الياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها ويؤيده قراءة أبى عمرو " بادئ الرأى " .

أى : وما نراك اتبعك يا نوح إلا الذين هم أقلنا شأنا وأحقرنا حالا من غير أن يثبتوا من حقيقة أمرك ، ولو تثبتوا وتفكروا ما اتبعوك ويصح أن يكون مرادهم بقولهم { بَادِيَ الرأي } أى اتبعوك ظاهرا لا باطنا ، ويكون لفظ { بادى } من البدو بمعنى الظهور . يقال : بدا الشئ يبدو بدواً وبُدوءاً وبداء أى ظهور وعليه يكون المعنى : وما نراك اتبعك يا نوح إلا الذين هم أهوننا أمرا ، ومع ذلك فإن اتباعهم لك إنما هو فى ظاهر أمرهم ، أما بواطنهم فهى تدين بعقيدتنا .

وشبيه بهذه الجملة قوله - تعالى - { قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } قال صاحب الكشاف : وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم فى الأسباب الدنيوية لأنهم أى الملأ من قوم نوح - كانوا جهالا ما كانوا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال كما ترى أكثر المتسمين بالإِسلام ، يعقتدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم ، ولقد زال عنهم أن التقدم فى الدنيا - مع ترك الآخرة - لا يقرب أحدامن الله وإنما يبعده ، ولا يرفعه بل يضعه ، فضلا عن أن يجعله سببا فى الاختيار للنبوة والتأهيل لها . . .

ثم أضافوا إلى مزاعمهم السابقة زعما جديدا فقالوا : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } .

والفضل : الزيادة فى الشرف والغنى وغيرهما مما يتميز به الإنسان عن غيره .

والمراد هنا : آثاره التي تدل عليه .

أى : أنت يا نوح ليست إلا بشرا مثلنا ، وأتباعك هم أحقرنا شأنا ، وما نرى لك ولمتبعيك شيئا من الزيادة علينا لا فى العقل ولا فى غيره ، بل إننا لنعتقد أنكم كاذبون فى دعواكم أنكم على الحق ، لأن الحق فى نظرنا هو فى عبادة هذه الأصنام التى عبدها من قبلنا آباؤنا .

وهكذا نرى أن الملأ من قوم نوح - عليه السلام - قد عللوا كفرهم بما جاءهم به بثلاث علل ، أولها : أنه بشر مثلهم وثانيها : أن أتباعه من فقرائهم وثالثها : أنه لا مزية له ولأتباعه عليهم . .

وهى كلها علل باطلة ، تدل على جهلهم ، وانطماس بصيرتهم ، ويدل على ذلك ، رد نوح - عليه السلام - الذى حكاه القرآن فى قوله - تعالى - :

{ قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ . . . } .