البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ} (27)

رذل الرجل رذالة فهو رذل إذا كان سفلة لا خلاق له ، ولا يبالي بما يقول ما يفعل

لما أنذرهم من عذاب الله وأمرهم بإفراده بالعبادة ، وأخبر أنه رسول من عند الله ، ذكروا أنه مماثلهم في البشرية ، واستبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ، وكأنهم ذهبوا إلى مذهب البراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق ، ثم عيروه بأنه لم يتبعه إلا الأراذل أي : فنحن لا نساويهم ، ثم نفوا أن يكون له عليهم فضل .

أي : أنت مساوينا في البشرية ولا فضل لك علينا ، فكيف امتزت بأنك رسول الله ؟ وفي قوله : إلا الذين هم أراذلنا ، مبالغة في الإخبار ، وكأنه مؤذن بتأكيد حصر من اتبعه ، وأنهم هم الأراذل لم يشركهم شريف في ذلك .

وفي الحديث « إنهم كانوا حاكة وحجامين » وقال النحاس : هم الفقراء والذين لا حسب لهم ، والخسيسو الصناعات .

وفي حديث هرقل : «أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، فقال : هم أتباع الرسل قبل » وإنما كان كذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف وصعوبة الانفكاك عنها ، والأنفة من الانقياد لغيرهم ، والفقير خلى عن تلك الموانع فهو سريع إلى الإجابة والانقياد .

ونراك يحتمل أن تكون بصرية ، وأن تكون علمية .

قالوا : وأراذل جمع الجمع ، فقيل : جمع أرذل ككلب وأكلب وأكالب .

وقيل : جمع أرذال ، وقياسه أراذيل .

والظاهر أنه جمع أرذل التي هي أفعل التفضيل وجاء جمعاً ، كما جاء أكابر مجرميها وأحاسنكم أخلاقاً .

وقال الزمخشري : ما نراك إلا بشراً مثلنا ، تعريض بأنهم أحق منه بالنبوّة ، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم ، فقالوا : هب أنك واحد من الملأ وموازيهم في المنزلة ، فما جعلك أحق منهم ؟ ألا ترى إلى قولهم : وما نرى لكم علينا من فضل ، أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً لا بشراً ، ولا يظهر ما قاله الزمخشري من الآية .

وقرأ أبو عمرو ، وعيسى الثقفي : بادىء الرأي من بدأ يبدأ ومعناه : أول الرأي .

وقرأ باقي السبعة : بادي بالياء من بدا يبدو ، ومعناه ظاهر الرأي .

وقيل : بادي بالياء معناه بادىء بالهمز ، فسهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسر ما قبلها .

وذكروا أنه منصوب على الظرف ، والعامل فيه نراك أو اتبعك أو أراذلنا أي : وما نراك فيما يظهر لنا من الرأي ، أو في أول رأينا ، أو وما نراك اتبعك أول رأيهم ، أو ظاهر رأيهم .

واحتمل هذا الوجه معنيين : أحدهما : أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم ، وعسى أن تكون بواطنهم ليست معك .

والمعنى الثاني : أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادئ دون تعقب ، ولو تثبتوا لم يتبعوك ، وفي هذا الوجه ذم الرأي غير المروي .

وقال الزمخشري : اتبعوك أول الرأي ، أو ظاهر الرأي ، وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم ، فحذف ذلك ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، أرادوا أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر انتهى .

وكونه منصوباً على الظرف هو قول أبيّ على في الحجة ، وإنما حمله على الظرف وليس بزمان ولا مكان ، لأنّ في مقدرة فيه أي : في ظاهر الأمر ، أو في أول الأمر .

وعلى هذين التقديرين أعني أنْ يكون العامل فيه نراك ، أو اتبعك يقتضي أن لا يجوز ذلك ، لأنّ ما بعد إلا لا يكون معمولاً لما قبلها إلا إن كان مستثنى منه نحو : قام إلا زيداً القوم ، أو مستثنى نحو : جاء القوم إلا زيداً ، أو تابعاً للمستثنى منه نحو : ما جاءني أحد إلا زيد أخبرني عمرو ، وبادىء الرأي ليس واحداً من هذه الثلاثة .

وأجيب بأنه ظرف ، أو كالظرف مثل جهد رأي أنك ذاهب ، أي أنك ذاهب في جهد رأي ، والظروف يتسع فيها .

وإذا كان العامل أراذلنا فمعناه الذين هم أراذلنا بأدل نظر فيهم ، وببادىء الرأي يعلم ذلك منهم .

وقيل : بادي الرأي نعت لقوله : بشراً .

وقيل : انتصب حالاً من ضمير نوح في اتبعك ، أي : وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك .

وقيل : انتصب على النداء لنوح أي : يا بادي الرأي ، أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد ، قالوا : ذلك تعجيزاً له .

وقيل : انتصب على المصدر ، وجاء الظرف والمصدر على فاعل ، وليس بالقياس .

فالرأي هنا إما من رؤية العين ، وإما من الفكر .

قال الزمخشري : وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية ، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال انتهى .

وظاهر الخطاب في لكم شامل لنوح ومن اتبعه ، والمعنى : ليس لكم علينا زيادة في مال ، ولا نسب ، ولا دين .

وقال ابن عباس : في الخلق والخلق ، وقيل : بكثرة الملك والملك ، وقيل : بمتابعتكم نوحاً ومخالفتكم لنا ، وقيل : من شرف يؤهلكم للنبوّة ، وقال الكلبي : نظنكم نتيقنكم ، وقال مقاتل : نحسبكم أي في دعوى نوح وتصديقكم ، وقال صاحب العتيان : بل نظنكم كاذبين توسلاً إلى الرئاسة والشهرة .