معاني القرآن للفراء - الفراء  
{فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ} (27)

وقوله : { ما نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنا وَما نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنا 27 }

رفعَتَ الأراذل بالاتِّباع وقد وقع الفعل في أوَّل الكلام على اسمه . ولا تكاد العرب تجعل المردود بإلاَّ إلا على المبتدأ لا على راجِع ذكره . وهو جائز . فمن البيّن الذي لا نظر فيه أن تقول : ما قام أحد إلاّ زيد . وإن قلت : ما أحد قام إلا زيد فرفعت زيداً بما عاد في فعل أحد فهو قليل وهو جائز . وإنما بَعُد على المبتدأ لأنه كناية ، والكناية لا يُفرق فيها بين أحدٍ وبين عبد الله ، فلما قبح أن تقول : ما قام هو إلاّ زيد ، وحسن : ما قام أحد إلا زيد تبيَّن ذلك لأن أحداً كأنّه ليسَ في الكلام فحسُن الردّ على الفعل . ولا يقال للمعرفة أو الكناية أَحد إذْ شاكل المعرفة كأنه ليس في الكلام ؛ ألا ترى أنك تقول ما مررت بأحد إلا بزيد ( فكأنك قلت : ما مررت إلا بزيد ) لأن أحداً لا يُتَصوّر في الوهم أنه مَعْمود له . وقبيح أن تقول : ليس أحد مررت به إلاّ بزيد لأن الهاء لها صورة كصورة المعرفة ، وأنت لا تقول : ما قمت إلا زيد فهذا وجه قبحه . كذلك قال : ( ما نراك ) ثم كأنه حذف ( نراك ) وقال : ( ما اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا ) فإبْن على هذا ما ورد عليك إن شاء الله .

( بَادِيَ الرَّأْيِ ) لا تهمز ( بادي ) لأن المعنى فيما يظهر لنا [ و ] يبدو . ولو قرأت ( بادئ الرأي ) فهمزت تريد أوّل الرأي لكان صوابا . أنشدنى بعضهم :

أضحى لخالى شبهي بادى بدى *** وصار للفحل لسانى ويدى

فلم يهمز ومثله مما تقوله العرب في معنى ابدأ بهذا أوّل ، ثم يقولون . ابدأ بهذا آثراً ما وآثِر ذى أثِير ( وأثير ذى أثير ) وإثْرَ ذى أثير ، وابدأ بهذا أوَّل ذاتِ يدين وأدْنَى دَنِىّ . وأنشدونا :

فقالوا ما تريد فقلت ألهو *** إلى الإصباح آثِر ذي أَثِير

وقوله : { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ27 } مثل قوله { يأيّها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّساء } لأنهم كذّبوا نوحا وحده ، وخرج على جهة الجمع ، وقولِه { فَإنْ لَمْ يَسْتَجيبُوا لَكُمْ } فلكم أريد بها النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقوله : { فاعْلَمُوا } ليست للنبي صلى الله عليه وسلم . إنما هي لكفّار مكّة ألا ترى أَنه قال ( فَهَلْ أَنْتُم مُسْلِمونَ ) .