الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ} (27)

فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " فقال الملأ " قال أبو إسحاق الزجاج : الملأ الرؤساء ، أي هم مليؤون بما يقولون . وقد تقدم هذا في " البقرة " {[8652]} وغيرها . " ما نراك إلا بشرا " أي آدميا . " مثلنا " نصب على الحال . و " مثلنا " مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدر فيه التنوين ، كما قال الشاعر :

{[8653]} : يا رُبَّ مثلِكِ في النساء غَرِيرَةٍ

الثانية : قوله تعالى : " وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا " أراذل جمع أرذل وأرذل جمع رَذْل ، مثل كلب وأكلب وأكالب . وقيل : والأراذل جمع الأرذل ، كأساود جمع الأسود من الحيات . والرذل النذل ، أرادوا اتبعك أخساؤنا وسقطنا وسفلتنا . قال الزجاج : نسبوهم إلى الحياكة ، ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة . قال النحاس : الأراذل هم الفقراء ، والذين لا حسب لهم ، والخسيسو الصناعات . وفي الحديث ( أنهم كانوا حَاكَةً وحجامين ) . وكان هذا جهلا منهم ؛ لأنهم عابوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لا عيب فيه ؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات ، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات ، وهم يرسلون إلى الناس جميعا ، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان ؛ لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم .

قلت : الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء ، كما قال هرقل لأبي سفيان : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، فقال : هم أتباع الرسل . قال علماؤنا : إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف ، وصعوبة الانفكاك عنها ، والأنفة من الانقياد للغير ، والفقير خلي عن تلك الموانع ، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد . وهذا غالب أحوال أهل الدنيا .

الثالثة : اختلف العلماء في تعيين السفلة على أقوال ، فذكر ابن المبارك عن سفيان أن السفلة هم الذين يَتَقَلَّسُون{[8654]} ، ويأتون أبواب القضاة والسلاطين يطلبون الشهادات وقال ثعلب عن ابن الأعرابي : السفلة الذين يأكلون لدنيا بدينهم{[8655]} ، قيل له : فمن سفلة السفلة ؟ قال : الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه . وسئل علي رضي الله عنه عن السفلة فقال : الذين إذا اجتمعوا غلبوا ، وإذا تفرقوا لم يعرفوا . وقيل لمالك بن أنس رضي الله عنه : من السفلة ؟ قال : الذي يسب الصحابة . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( الأرذلون الحاكة والحجامون ) . يحيى بن أكثم : الدباغ والكناس إذا كان من غير العرب .

الرابعة : إذا قالت المرأة لزوجها : يا سَفِلة ، فقال : إن كنتُ منهم فأنت طالق ، فحكى النقاش أن رجلا جاء إلى الترمذي فقال : إن امرأتي قالت لي يا سَفِلة ، فقلت : إن كنت سفلة فأنت طالق ، قال الترمذي : ما صناعتك ؟ قال : سماك ، قال : سَفِلة والله ، سفلة والله [ سفلة ]{[8656]} .

قلت : وعلى ما ذكره ابن المبارك عن سفيان لا تُطَلَّق ، وكذلك على قول مالك ، وابن الأعرابي لا يلزمه شيء .

قوله تعالى : " بادي الرأي " أي ظاهر الرأي ، وباطنهم على خلاف ذلك . يقال : بدا يبدو . إذا ظهر ، كما قال : فاليوم حين بدون للنظار

ويقال للبرية بادية لظهورها . وبدا لي أن أفعل كذا ، أي ظهر لي رأي غير الأول . وقال الأزهري : معناه فيما يبدو لنا من الرأي . ويجوز أن يكون " بادي الرأي " من بدأ يبدأ وحذف الهمزة . وحقق أبو عمرو الهمزة فقرأ : " بادئ الرأي " أي أول الرأي ، أي اتبعوك حين ابتدؤوا ينظرون ، ولو أمعنوا النظر والفكر لم يتبعوك ، ولا يختلف المعنى ههنا بالهمز وترك الهمز . وانتصب على حذف " في " كما قال عز وجل : " واختار موسى قومه{[8657]} " [ الأعراف : 155 ] . " وما نرى لكم علينا من فضل " أي في اتباعه ، وهذا جحد منهم لنبوته صلى الله عليه وسلم " بل نظنكم كاذبين " الخطاب لنوح ومن آمن معه{[8658]} .


[8652]:راجع ج 3 ص 243.
[8653]:هو أبو محجن الثقفي وتمام البيت: بيضاء قد متعتها بطلاق الغريرة: المغترة بلين العيش. ومتعها : أعطاها ما تستمتع به عند طلاقها.
[8654]:التقليس: استقبال الولاة عند قدومهم بأصناف اللهو.
[8655]:كذا في ع، والذي في غيره بالإفراد.
[8656]:من ي.
[8657]:راجع ج 7 ص 294.
[8658]:في ع و ي: به.