{ فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي الإشراف منهم وهو كما قال غير واحد من قولهم : فلان مليء بكذا إذا كان قادراً عليه لأنهم ملئوا بكفاية الأمور وتدبيرها ، أو لأنهم متمالئون أن متظاهرون متعاونون ، أو لأنهم يملأون القلوب جلالا . والعيون جمالا . والأكف نوالاً ، أو لأنهم مملؤون بالآراء الصائبة والأحلام الراجحة على أنه من الملأ لازماً ، ومتعدياً ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة .
{ مَا * نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } أرادوا ما أنت إلا بشر مثلنا ليس فيك مزية تخصك من بيننا بالنبوة ولو كان ذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل لكن لا نراه ، وكذا الحال في { وَمَا * نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى } فالفعلان من رؤية العين وبشراً . واتبعك حالان من المفعول بتقدير قد في الثاني أو بدونه على الخلاف ؛ ويجوز أن يكونا من رؤية القلب وهو الظاهر فهما حينئذ المفعول الثاني ، وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا البشرية فقط ، ويفهم من الكشاف أن في الآية وجهين : الأول أنهم أرادوا التعريض بأنهم أحق بالنبوة كأنهم قالوا : هب أنك مثلنا في الفضيلة والمزية من كثرة المال والجاه فلم اختصصت بالنبوة من دوننا ، والثاني أنهم أرادوا أنه ينبغي أن يكون ملكاً لا بشراً ، وتعقب هذا بأن فيه اعتزالاً خفياً ، وقد بينه العلامة الطيبي ، ونوزع في ذلك ففي الكشف أن قولهم { مّثْلُنَا } علية لتحقيق البشرية ، وقولهم { وَمَا نَرَاكَ اتبعك } الخ استدلال بأنهم ضعفاء العقول لا تمييز لهم ، فجوّزوا أن يكون الرسول بشراً وقولهم الآتي { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } تسجيل بأن دعوى النبوة باطلة لإدخاله عليه السلام والأراذل في سلك على أسلوب يدل أنهم أنقص البشر فضلاً عن الارتقاء ، وليسس في هذا الكلام اعتزال خفي ولا المقام عنه أبى انتهى .
وفي الانتصاف يجوز أن يكونوا قد أرادوا الوجهين جميعاً كأنهم قالوا : من حق الرسول أن يكون ملكاً لا بشراً وأنت بشر ، وإن جاز أن يكون الرسول بشراً فنحن أحق منك بالرسالة ، ويشهد لإرادتهم الأول قوله في الجواب { وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ } [ هود : 31 ] ويشهد لأرادتهم القانية { وَمَا نرى لَكُمْ } الخ ، والظاهر أن مقصودهم ليس إلا إثبات أنه عليه السلام مثلهم وليس فيه مزية يترتب عليها النبوة ووجوب الإطاعة والاتباع ، ولعل قولهم { وَمَا نَرَاكَ اتبعك } الخ جاب عما يرد عليهم من أنه عليه السلام ليس مثلهم حيث اتبعه من وفق لاتباعه ، فكأنهم قالوا : إنه لم يميزك اتباع من اتبعك فيوجب علينا اتباعك لأنه لم يتبعك { إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } أي أخساؤنا وأدانينا ، وهو جمع أرذل والأغلب الاقيس في مثله إذا أريد جمعه أن يجمع جمع سلامة كالأخسرون جمع أخسر لكنه كسر هنا لأنه صار بالغلبة جاريا مجرى الاسم ، ولذا جعل في القاموس الرذل والأرذل بمعنى وهو الخسيس الدنيء ، ومعنى جريانه مجرى الاسم أنه لا يكاد يذكر الموصوف معه كالأبطح والأبرق .
وجوز أن يكون جمع أرذل جمع رذل فهو جمع الجمع ونظير ذلك أكالب . وأكلب . وكلب وكونه جمع رذل مخالف للقياس وإنما لم يقولوا : إلا أراذبنا مبالغة في استرذالهم وكأنهم إنما استرطلوهم لفقرهم لأنهم لما لم يعلموا إلا ظاهراً من الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكير منها حظاً والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن الدنيا بحذافيرها لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة . والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه ، ومثل هؤلاء في الجهل كثير من أهل هذا الزمان عافانا الله سبحانه مما هم فيه من الخذلان والحرمان وكان القوم على ما في بعض الأخبار حاكة وأساكفة وحجامين وأرادوا بقولهم { بَادِىَ الرأى } ظاهره وهو ما يكون من غير تعمق ، والرأي من رؤية الفكر والتأمل ، وقيل : من رؤية العين وليس بذاك .
وجوز أن يكون البادي بمعنى الأول ، وهو على الأول من البدو ، وعلى الثاني من البدء ، والياء مبدلة . من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد قرأ أبو عمرو . وعيسى الثقفي بها ، وانتصابه على القراءتين على الظرفية لاتبعك على معنى اتبعوك في ظاهر رأيهم أو أوله . ولم يتأملوا . ولم يتثبتوا ولو فعلو ذلك لم يتبعوك وغرضهم من هذا المبالغة في عدم اعتبار ذلك الاتباع وجعل ذلك بعضهم علة الاسترذال وليس بشيء ، وقيل : المعنى إنهم اتبعوك في أول رأيهم أو ظاهرة وليسوا معك في الباطن .
واستشكل هذا التعلق بأن ما قبل { إِلا } لا يعمل فيما بعدها إلا إذا كان مستنثى منه نحو ما قام إلا زيداً القوم أو مستثنى نحو جاء القوم إلا زيداً أو تابعاً للمستنثى منه نحو ما جاءني أحد إلا زيداً خير من عمرو ، و { بَادِىَ الرأى } ليس واحداً من هذه الثلاثة في بادي الرأي ؛ وأجيب بأنه يغافر ذلك في الظرف لأنه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره ، واستشكل أمر الظرفية بأن فاعلاً ليس بظرف في الأصل ، وقال مكي : إنما جاز في فاعل أن يكون ظرفاً كما جاز في فعيل كقريب ، ومليء لإضافته إلى الرأي وهو كثيراً ما يضاف إلى المصدر الذي يجوز نصبه على الظرفية نحو جهد رأييأنك منطلق .
وقال الزمخشري : وتابعه غيره أن الأصل وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه ، ولعل تقدير الوقت ليكون نائباً عن الظرف فينتصب على الظرفية ، واعتبار الحدوث بناءاً على أن اسم الفاعل لا ينوب عن الظرف وينتصب والمصدر ينوب عنه كثيراً فأشاروا بذكره إلى أنه متضمن معنى الحدوث بمعنييه فلذا جاز فيه ذلك ، وليس مرادهم أنه محذوف إذ لا داعي لذلك في المعنى على التفسيرين ، وما ذكروه هنا من أن الصفات لا ينوب منها عن الظرف إلا فعيل من الفوائد الغريبة كما قال الشهاب لكن استدركه باملنع لأن فاعلا وقع ظرفاً كثيراً كفعيل ، وذلك مثل خارج الدار .
وباطن الأمر . وظاهره ، وغير ذلك مما هو كثير في كلامهم ، وقيل : هو ظرف لنراك أي ما نراك في أول رأينا أو فيما يظهر منه ، وقيل : لاراذلنا أي أنهم أراذل في أول النظر أو ظاهره لأن رذالتهم مكشوفة لا تحتاج إلى تأمل .
وقيل : هو نعت لبشراً وقيل : منصوب على أنه حال من ضمير نوح في { اتبعك } أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة فيك ، وقيل : انتصب على النداء لنوح عليه السلام أي يا بادي الرأي أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد ، وقيل : هو مصدر على فاعل منصوب على المفعولية المطلقة والعامل فيه ما تقدم على تقدير الظرفية .
{ وَمَا نرى لَكُمْ } خطاب له عليه السلام ولمتبعيه جميعاً على سبيل التغليب أي وما نرى لك ولمتبعيك . { عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } أي زيادة تؤهلكم لاتباعنا لكم ، وعن ابن عباس تفسير ذلك بالزيادة في الخلق والخلق ، وعن بعضهم تفسيره بكثرة الملك والملك ، ولعل ما ذكرناه أولى ، وكأنّ مرادهم نفي رأية { فَضلَ } بعد الاتباع أي ما نرى فيك وفيهم بعد الاتباع فضيلة علينا لنتبع وإلا فهم قد نفوا أولاً أفضليته عليه السلام في قولهم { لايستوي القاعدون من المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر والمجاهدون في سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ } لهم علهم ، وقيل : إن هذا تأكيد لما فهم أولاً ، وقيل : الخطاب لأتباعه عليه السلام فقط فيكون التفاتاً أي ما نرى لكم علينا شرف في تلك التبعية لنوافقكم فيها ، وحمل الفضل على التفضل والإحسان في احتمالي الخطاب على أن يكون مراد امللأ من جوابهم له عليه السلام حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه أنا لانتبعك ولا نترك ما نحن عليه لقولك لأنك بشر مثلنا ليس فيك ما يستدعي نبوتك وكونك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا بذلك وأتباعك أراذل اتبعوك من غير تأمل وتثبت فلا يدل اتباعهم على أن فيك ما يستدعي ذلك وخفي عنا ، وأيضاً لست ذا تفضل علينا ليكون تفضلك داعياً لنا لموافقتك كيفما كنت ولا أتباعك ذوو تفضل علينا لنوافقهم وإن كانوا أراذل مراعاة لحق التفضل ، فإن الإنسان قد يوافق الرذيل لتفضله ولا يبالي بكونه رذيلاً لذلك مما يدور في الخلد إلا أن في القلب منه شيئاً { بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين } جميعاً لكون كلامكم واحداً ودعوتكم واحدة أو إياك في دعوى النبوة وإياهم في تصديقك ، قيل : واقتصروا على الظن احترازاً منهم عن نسبتهم إلى المجازفة كما أنهم عبروا بما عبروا أولاً لذلك مع التعريض من أول الأمر برأي المتبعين ومجاراة معه عليه السلام بطريق الآراء على نهج الانصاف .
( ومن باب الإشارة ) : { فَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي الأشراف المليؤون بأمور الدنيا الذي حجبوا بما هم فيه عن الحق { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } لكونهم واقفين عند حد العقل المشوب بالوهم فلا يرون لأحد طوراً وراء ما بلغوا إليه ولم يشعروا بمقام النبوة ومعناها { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى } وصفوهم بذلك لفقرهم حيث كانوا لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ولم يعلموا أن الشرف بالكمال لا بالمال .
{ وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } وتقدم يؤهلكم لما تدعونه { بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين }
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.