{ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف } وهو يهوذا ، وقال قتادة روبيل ، وكان ابن خالة يوسف ، وكان أكبرهم سنا وأحسنهم رأيا فيه . والأول أصح أنه يهوذا ، نهاهم عن قتله ، وقال : القتل كبيرة عظيمة . { وألقوه في غيابة الجب } ، قرأ أبو جعفر ، ونافع : غيابات الجب على الجمع في الحرفين ، وقرأ الباقون غيابة الجب على الواحد : أي : في أسفل الجب وظلمته . والغيابة : كل موضع ستر عنك الشيء وغيبه . والجب : البئر غير المطوية لأنه جب ، أي : قطع ولم يطو . { يلتقطه } : يأخذه ، والالتقاط : أخذ الشيء من حيث لا يحتسبه ، { بعض السيارة } ، أي : بعض المسافرين ، فيذهب به إلى ناحية أخرى ، فتستريحوا منه ، { إن كنتم فاعلين } ، أي : إن عزمتم على فعلكم ، وهم كانوا يومئذ بالغين ، ولم يكونوا أنبياء بعد . وقيل : لم يكونوا بالغين ، وليس بصحيح ، بدليل أنهم قالوا : { وتكونوا من بعده قوما صالحين } . { قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا } والصغير لا ذنب له . وقال محمد بن إسحاق : اشتمل فعلهم على جرائم من : قطع الرحم ، وعقوق الوالدين ، وقلة الرأفة بالصغير ، الذي لا ذنب له ، والغدر بالأمانة ، وترك العهد ، والكذب مع أبيهم . وعفا الله عنهم ذلك كله حتى لا ييأس أحد من رحمة الله . وقال بعض أهل العلم : إنهم عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة بهم ، ولو فعلوا لهلكوا أجمعين ، وكل ذلك كان قبل أن أنبأهم الله تعالى . وسئل أبو عمروا بن العلاء : كيف قالوا { يرتع ويلعب } وهم أنبياء ؟ قال : كان ذلك قبل أن نبأهم الله تعالى ، فلما أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضرب من الحيل .
{ 10 } { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }
أي : { قَالَ قَائِلٌ ْ } من إخوة يوسف الذين أرادوا قتله أو تبعيده : { لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ْ } فإن قتله أعظم إثما وأشنع ، والمقصود يحصل بتبعيده عن أبيه من غير قتل ، ولكن توصلوا إلى تبعيده بأن تلقوه { فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ْ } وتتوعدوه على أنه لا يخبر بشأنكم ، بل على أنه عبد مملوك آبق منكم ، لأجل أن { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ْ } الذين يريدون مكانا بعيدا ، فيحتفظون فيه .
وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف ، وأبرهم وأتقاهم في هذه القضية ، فإن بعض الشر أهون من بعض ، والضرر الخفيف يدفع به الضرر الثقيل ، . فلما اتفقوا على هذا الرأي .
{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ } قال قتادة ، ومحمد بن إسحاق : كان أكبرهم واسمه روبيل . وقال السدي : الذي قال ذلك يهوذا . وقال مجاهد : هو شمعون { لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } أي : لا تَصِلوا{[15070]} في عداوته وبغضه إلى قتله ، ولم يكن لهم{[15071]} سبيلٌ إلى قتله ؛ لأن الله تعالى كان يريد منه أمرًا لا بدّ من إمضائه وإتمامه ، من الإيحاء إليه بالنبوة ، ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها ، فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب ، وهو أسفله .
قال قتادة : وهي بئر بيت المقدس .
{ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } أي : المارة من المسافرين ، فتستريحوا بهذا ، ولا حاجة إلى قتله .
{ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } أي : إن كنتم عازمين على ما تقولون .
قال محمد بن إسحاق بن يسار : لقد اجتمعوا على أمر عظيم ، من قطيعة الرحم ، وعقوق الوالد ، وقلة الرأفة بالصغير الضَّرَع الذي لا ذنب له ، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل ، وخطره عند الله ، مع حق الوالد على ولده ، ليفرقوا بينه وبين ابنه{[15072]} وحبيبه ، على كبر سنه ، ورِقَّة عظمه ، مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلا صغيرا ، وبين أبيه على ضعف قوته وصغر سنه ، وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه ، يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين ، فقد احتملوا أمرا عظيما .
والقائل منهم قيل : هو روبيل - أسنهم - قاله قتادة وابن إسحاق ، وقيل : يهوذا أحلمهم ، وقيل شمعون أشجعهم ، قاله مجاهد ، وهذا عطف منه على أخيه لا محالة لما أراد الله من إنفاذ قضائه . و «الغيابة » ما غاب عنك من الأماكن أو غيب عنك شيئاً آخر .
وقرأ الجمهور : «غيابة الجب » ، وقرأ نافع وحده «غيابات الجب » ، وقرأ الأعرج «غيّابات الجب » بشد الياء ، قال أبو الفتح : هو اسم جاء على فعالة ، كان أبو علي يلحقه بما ذكر سيبويه من الفياد ونحوه{[6573]} ، ووجدت أنا من ذلك : التيار للموج والفجار للخزف .
قال القاضي أبو محمد : وفي شبه غيابة بهذه الأمثلة نظر لأن غيابة جارية على فعل{[6574]} .
وقرأ الحسن : «في غيبة الجب » على وزن فعلة{[6575]} ، وكذلك خطت في مصحف أبي بن كعب ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر - وهو المنخل -
فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي*** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل{[6576]}
و { الجب } البئر التي لم تطو{[6577]} لأنها جبت من الأرض فقط .
وقرأ الجمهور : «يلتقطه بعض » بالياء من تحت على لفظ بعض ، وقرأ الحسن البصري ومجاهد وقتادة وأبو رجاء «تلتقطه » بالتاء ، وهذا من حيث أضيف { البعض } إلى { السيارة } فاستفاد منها تأنيث العلاقة ، ومن هذا قول الشاعر : [ الوافر ]
أرى مرّ السنين أخذنْ منّي*** كما أخذ السرار من الهلال{[6578]}
إذا مات منهم سيد قام سيد*** فذلت له أهل القرى والكنائس{[6579]}
ذلت لوقعتها جميع نزار . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[6580]}
حين أراد بنزار القبيلة ، وأمثلة هذا كثير .
وروي أن جماعة من الأعراب التقطت يوسف عليه السلام : و { السيارة } جمع سيار . وهو بناء للمبالغة ، وقيل في هذا { الجب } : أنه بئر بيت المقدس . وقيل : غيره : وقيل : لم يكن حيث طرحوه ماء ولكن أخرجه الله فيه حتى قصده الناس للاستقاء : وقيل : بل كان فيه ماء كثير يغرق يوسف فنشز حجر من أسفل الجب حتى ثبت عليه يوسف ، وروي أنهم رموه بحبل فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه حينئذ ، وهموا برضخه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك .