اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّ يَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ} (10)

ثم إنَّ قائلاً منهم قال : { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } .

قيل : إنه رُوبيل ، وكان ابن خالة يُوسُف ، وكان أحسنُهم رأياً فيه ؛ فمنعهم من قتله ، وقيل : يهُوذا ، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ ، والسِّنِّ ، وهو الصحيح .

قوله : " فِي غَيَابَةِ " قرأ نافع : " غَيابَات " بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة ، جعل ذلك المكان أجزاء ، وسمَّى لك جزءٍ غيابة ؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي ، فيكون فيها غيابات ، والباقون : بالإفراد ؛ لأن المقصُود : موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف ، وابن هُرْمز كنافع ، إلا أنَّه شدَّد الياء ، والأظهر في ههذه القراءة : أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة ، فهو وصف في الأصل ، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال ، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني : " ووجدت من ذلك الفخَّار : للخَزَف " .

وقال صاحب اللَّوامح : " يجوز أن يكو على " فعَّالات " كحمَّامات ، ويجوز أن يكون على " فيْعَالات " ، كشَيْطَانَات ، جمع شَيْطَانَه ، وكلٌّ للمبالغة " .

وقرأ الحسن : " في غَيَبةِ " بفتح الياء ، وفيه احتمالان :

أحدهما : أن يكون في الأصل مصدراً ؛ كالغلبة .

والثاني : أن يكون جمع غائب ، نحو : صَانِع وصنَعَة .

قال أبو حيَّانك " وفي حرف أبيَّ : " في غيْبَةِ " بسكون الياء ، وهي ظلمة الرَّكيَّة " .

قال شهاب الدين : " والضبط أمر حادثٌ ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف ، وتقدَّم نحو ذلك ، والغيابة ، قال الهروي : شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون " .

وقال الكلبيُّ : " الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ ، ورأسه ضيِّق ، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه " .

وقال الزمخشري : " هي غورة ، وما غب منه عن عين النَّاظر ، وأظلم من أسفله " .

قال المنخل : [ الطويل ]

3054 فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي *** فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ

أراد : غيابة حُفرته التي يدفن فيها ، والجبُّ : البشر الذي لم تُطْوَ ، وسمِّي بذلك : إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض ، أي : ما غلظ منها ؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ : القطعُ ، ومنه : الجبُّ في الذَّكر ؛ قال الأعشى : [ الطويل ]

3055 لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً *** ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ

ويجمع على جُنُبٍ ، وجِبَاب ، وأجْبَاب .

فصل

والألف واللام في " الجُبِّ " تقتضي المعهُود السَّابق ، واختلفوا فيه :

فقال قتادة : هو جُبُّ بئر بيت المقدِس ، وقيل : بأرض الأرْدُن .

وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب ، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ ؛ للعلَّة التي ذكروها ، وهي قوله : " يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ " لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً ، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها ، كان إلى السَّلامة أقْرب ؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا ، شاهدوا ذلك الإنسان فيهن فيخرجوه ، ويذهبوا به فكان إلقاءه فيها أبعد عن الهلاك .

قوله " يَلتَقِطْهُ " قرأ العامَّةك " يَلْتَقِطْهُ " بالياء من تحت ، وهو الأصلُ وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة : بالتَّاء من فوقح للتَّأنيثِ المعنويِّن والإضافة إلى مؤنَّث ، وقالوا : قُطِعَت بعضُ أصَابعه .

قال الشَّاعر : [ الوافر ]

3056 إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا *** كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ

وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [ الأنعام : 160 الأعرافَ : 56 ] .

والإلتِقَاط : تناول الشيء المطروح ، ومنه : اللُّقطَة واللَّقِيط ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]

3057 ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب ، ومنه قوله تعالى { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } أي : يجده من غير أن يحتسب .

فصل

اختلفوا في الملقوط فقيل : إن أصله الحرية ؛ لغلبة الأحرار على العبيد ، وروي الحسين بن علي رضي الله عنهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ ، وتلا قوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] وهذا قوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويروى عن علي وجماعته ، وقال إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك ، وإن نوى الاحتساب فهو حر .

فصل

والسيَّارة : جمع سيَّار ، وهو مثال مبالغة ، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر ، وقال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : يريد : المارَّة ، ومفعول " فَاعِلينَ " محذُوف ، أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم . وهذا إشارة إلى أن الأولى : أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك ، وأما إن كان ولا بد ، فاقتصروا على هذا القدر ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] يعني : الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك .