الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّ يَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ} (10)

فيه ثلاث عشرة مسألة :

الأولى : قوله تعالى : " قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف " القائل هو يهوذا ، وهو أكبر ولد يعقوب ، قاله ابن عباس . وقيل : روبيل ، وهو ابن خالته ، وهو الذي قال : " فلن أبرح الأرض " [ يوسف : 80 ] الآية{[8959]} . وقيل : شمعون . " وألقوه في غيابة الجب " قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة " في غيابة الجب " . وقرأ أهل المدينة " في غيابات الجب " واختار أبو عبيد التوحيد ؛ لأنه على موضع واحد ألقوه فيه ، وأنكر الجمع لهذا . قال النحاس : وهذا تضييق في اللغة ، " وغيابات " على الجمع يجوز من وجهين{[8960]} : حكى سيبويه : سير عليه عَشيَّاناتٍ وأصيلاناتٍ ، يريد عشية وأصيلا ، فجعل كل وقت منها عشية وأصيلا ، فكذا جعل كل موضع مما يغيب غيابة . والآخر - أن يكون في الجب غيابات ( جماعة ) . ويقال : غاب يغيب{[8961]} غيبا وغيابة وغيابا ، كما قال الشاعر :

ألا فالبَثَا شهرين أو نصفَ ثالث *** أنا ذاكُمَا قد غَيَّبْتْنِي غِيَابِيَا

قال الهروي : والغيابة شبه لِجَفٍ{[8962]} أو طاق في البئر فويق الماء ، يغيب الشيء عن العين . وقال ابن عزيز : كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة . قلت : ومنه قيل للقبر غيابة ، قال الشاعر :

فإن أنا يوما غيَّبَتْنِي غَيَابَتِي*** فسِيروا بسيري في العَشِيرَة والأهل

والجب الركية التي لم تطو ، فإذا طويت فهي بئر ، قال الأعشى :

لئن كنت في جبٍّ ثمانين قامة *** ورُقِّيتَ أسبابَ السماء بسُلَّمِ{[8963]}

وسميت جبا ؛ لأنها قطعت في الأرض قطعا ، وجمع الجب جِبْيَة وجِباب وأجباب ؛ وجمع بين الغيابة والجب لأنه أراد القوة في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين . قيل : هو بئر بيت المقدس ، وقيل : هو بالأردن ، قاله وهب بن منبه . مقاتل : وهو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب .

الثانية : قوله تعالى : " يلتقطه بعض السيارة " جزم على جواب الأمر . وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة : " تلتقطه " بالتاء ، وهذا محمول على المعنى ؛ لأن بعض السيارة سيارة ، وقال سيبويه : سقطت بعض أصابعه ، وأنشد{[8964]} :

وتَشْرَقَ بالقول الذي قد أذعتَه *** كما شرِقت صدر القناةِ من الدَّمِ

وقال آخر :

أرى مَرَّ السِّنِين أخذنَ منّي *** كما أخذ السِّرَارُ{[8965]} من الهلال

ولم يقل شَرِق ولا أخذت . والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر ؛ وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود ، فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد ، وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم ، فربما لا يأذن لهم أبوهم ، وربما يطلع على قصدهم .

الثالثة : وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولاً ولا آخراً ؛ لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم ، بل كانوا مسلمين ، فارتكبوا معصية ثم تابوا . وقيل : كانوا أنبياء ، ولا يستحيل في العقل زلة نبي ، فكانت هذه زلة منهم ، وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه . وقيل : ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله ، وهذا أشبه ، والله أعلم .

الرابعة : قال ابن وهب قال مالك : طرح يوسف في الجب وهو غلام ، وكذلك روى ابن القاسم عنه ، يعني أنه كان صغيرا ، والدليل عليه قوله تعالى : " لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة " قال : ولا يلتقط إلا الصغير ، وقوله : " وأخاف أن يأكله الذئب " [ يوسف : 13 ] وذلك أمر{[8966]} يختص بالصغار ، وقولهم : " أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون " [ يوسف : 12 ] .

الخامسة : الالتقاط تناول الشيء من الطريق ، ومنه اللقيط واللقطة ، ونحن نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة ، وما قال في ذلك أهل العلم واللغة . قال ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب ، ومنه قوله تعالى : " يلتقطه بعض السيارة " أي يجده من غير أن يحتسبه . وقد اختلف العلماء في اللقيط ، فقيل : أصله الحرية لغلبة الأحرار على العبيد ، وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر ، وتلا " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة " [ يوسف : 20 ] وإلى هذا ذهب أشهب صاحب مالك ، وهو قول عمر بن الخطاب ، وكذلك روي عن علي وجماعة . وقال إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك ، وإن نوى الحسبة فهو حر . وقال مالك في موطئه : الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر ، وأن ولاءه لجماعة المسلمين ، هم يرثونه ويعقلون عنه ، وبه قال الشافعي ، واحتج بقول عليه السلام : ( وإنما الولاء لمن أعتق ) قال : فنفى الولاء عن غير المعتق . واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا ، ولا يرثه أحد بالولاء . وقال أبو حنيفة وأصحابه وأكثر الكوفيين : اللقيط يوالي من شاء ، فمن ولاه فهو يرثه ويعقل عنه ، وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء ، ما لم يعقل عنه الذي والاه ، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه : المنبوذ حر ، فان أحب أن يوالي الذي التقطه والاه ، وإن أحب أن يوالي غيره والاه ، ونحوه عن عطاء ، وهو قول ابن شهاب وطائفة من أهل المدينة ، وهو حر . قال ابن العربي : إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد ، فقضى بالغالب ، كما حكم أنه مسلم أخذا بالغالب ؛ فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون قال ابن القاسم : يحكم بالأغلب ، فإن وجد عليه زي اليهود فهو يهودي ، وإن وجد عليه زي النصارى فهو نصراني ، وإلا فهو مسلم ، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام . وقال غيره : لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه ، وهو مقتضى قول أشهب ، قال أشهب : هو مسلم أبدا . لأني أجعله مسلما على كل حال ، كما أجعله حرا على كل حال . واختلف الفقهاء في المنبوذ تدل{[8967]} البينة على أنه عبد ، فقالت طائفة من أهل المدينة : لا يقبل قولها{[8968]} في ذلك ، وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر : هو حر ، ومن قضى بحريته لم تقبل البينة في أنه عبد . وقال ابن القاسم : تقبل البينة في ذلك وهو قول الشافعي والكوفي .

السادسة : قال مالك في اللقيط : إذا اتفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا ، وإن لم يكن طرحه ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب ، والملتقط متطوع بالنفقة . وقال أبو حنيفة : إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع ، إلا أن يأمره الحاكم . وقال الأوزاعي : كل من أنفق علي من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق . وقال الشافعي : إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال ، فإن لم يكن ففيه قولان : أحدهما - يستقرض له في ذمته . والثاني - يقسط على المسلمين من غير عوض .

السابعة : وأما اللقطة والضَّوَال فقد اختلف العلماء في حكمهما ، فقالت طائفة من أهل العلم : اللقطة والضوال سواء في المعنى ، والحكم فيهما سواء ، وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي{[8969]} ، وأنكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام - أن الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان - وقال هذا غلط ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك للمسلمين : ( إن أمكم ضلت قلادتها ) فأطلق ذلك على القلادة .

الثامنة : أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا ، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها ، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد . صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له ، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها ، فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع ، ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة ، ولا تصرف قبل الحول . وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها .

التاسعة : واختلف الفقهاء في الأفضل من تركها أو أخذها ، فمن ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا . وقال في الشاة : ( لك أو لأخيك أو للذئب ) يحضّه على أخذها ، ولم يقل في شيء دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه . ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في ضالة الإبل ، والله أعلم . وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة ، إن شاء أخذها وإن شاء تركها ، هذا قول إسماعيل بن إسحاق رحمه الله . وقال المزني عن الشافعي : لا أحب لأحد ترك اللقطة إن وجدها إذا كان أمينا عليها ، قال : وسواء قليل اللقطة وكثيرها .

العاشرة : روى الأئمة مالك وغيره عن زيد بن خالد الجهني قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال : ( اعرف عفاصها{[8970]} ووكاءها ثم عرفها سنة ، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ) قال : فضالة الغنم يا رسول الله ؟ قال : ( لك أو لأخيك أو للذئب ) قال : فضالة الإبل ؟ قال : ( ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ) . وفي حديث أبي قال : ( احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها ) ففي هذا الحديث زيادة العدد ، خرجه مسلم وغيره . وأجمع العلماء أن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها ، فإذا أتى صاحب اللقطة بجميع أوصافها دفعت له ؛ قال ابن القاسم : يجبر على دفعها ، فإن جاء مستحق يستحقها ببينة أنها كانت له لم يضمن الملتقط شيئا ، وهل يحلف مع الأوصاف أو لا ؟ قولان : الأول لأشهب ، والثاني لابن القاسم ، ولا تلزمه بينة عند مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له ، وهو بخلاف نص الحديث ، ولو كانت البينة شرطا في الدفع لما كان لذكر العفاص والوكاء والعدد معنى ، فإنه يستحقها بالبينة على كل حال ، ولما جاز سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فإنه تأخير البيان عن وقت الحاجة . والله أعلم .

الحادية عشرة : نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما ، وسكت عما عداهما من الحيوان . وقد اختلف علماؤنا في البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم ؟ قولان ، وكذلك اختلف أئمتنا في التقاط الخيل والبغال والحمير ، وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط ، وقال أشهب وابن كنانة : لا تلتقط ، وقول ابن القاسم أصح ؛ لقول عليه السلام : ( احفظ على أخيك المؤمن ضالته ) .

الثانية عشرة : واختلف العلماء في النفقة على الضوال ، فقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم : إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة ، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره ، قال : وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن . وقال الشافعي : إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع ، حكاه عنه الربيع . وقال المزني عنه : إذا أمره الحاكم بالنفقة كانت دينا ، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا . وقال أبو حنيفة : إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع ، وإن أنفق بأمر القاضي فذلك دين على صاحبها إذا جاء ، وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها ، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها ، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة .

الثالثة عشرة : ليس في قوله صلى الله عليه وسلم في اللقطة بعد التعريف : ( فاستمتع بها ) أو ( فشأنك بها ) أو ( فهي لك ) أو ( فاستنفقها ) أو ( ثم كلها ) أو ( فهو مال الله يؤتيه من يشاء ) على ما في صحيح مسلم وغيره ، ما يدل على التمليك ، وسقوط الضمان عن الملتقط إذا جاء ربها ، فإن في حديث زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإن لم تعرف{[8971]} فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه ) في رواية ( ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه ) خرجه البخاري ومسلم . وأجمع العلماء على أن صاحبها متى جاء فهو أحق بها ، إلا ما ذهب إليه داود من أن الملتقط يملك اللقطة بعد التعريف ؛ لتلك الظواهر ، ولا التفات لقوله ؛ لمخالفة الناس ، ولقوله عليه السلام : ( فأدها إليه ) .


[8959]:من ع.
[8960]:الزيادة عن النحاس.
[8961]:من ع.
[8962]:للجف: الناحية من الحوض أو البئر يأكله الماء فيصير كالكهف.
[8963]:بعده كما في الديوان: ليستدرجنك القول حتى تهره *** وتعلم أني عنك لست بمجرم وتشرق بالقول الذي قد أذعته *** كما شرقت صدر القناة من الدم.
[8964]:البيت للأعشى، وهو يخاطب يزيد بن مسهر الشيباني، وكانت بينهما مباينة ومهاجاة، فيقول له: يعود عليك مكروه ما أذعت عني من القول ونسبته إلى من القبيح، فلا تجد منه مخلصا. والشرق بالماء كالغصص بالطعام.
[8965]:سرار الشهر (بفتح السين المهملة وكسرها) وسرره: آخر ليلة منه.
[8966]:من ع و ك و ي.
[8967]:في ع و ك و و و ي: تشهد.
[8968]:كذا في الأصول.
[8969]:في ع: الطبري.
[8970]:العفاص: الوعاء الذي يكون به النفقة، جلدا كان أو غيره. والوكاء هو الخيط الذي يشد به الوعاء. والمراد بالعفاص والوكاء أن يعلم الملتقط صدق واصفها من كذبه، وبالحذاء خفها، فهي تقوى بأخفافها على السير وورود الماء والشجر.
[8971]:(إن لم تعرف): أي لم تعرف صاحبها.