الأولى : قوله تعالى : " قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف " القائل هو يهوذا ، وهو أكبر ولد يعقوب ، قاله ابن عباس . وقيل : روبيل ، وهو ابن خالته ، وهو الذي قال : " فلن أبرح الأرض " [ يوسف : 80 ] الآية{[8959]} . وقيل : شمعون . " وألقوه في غيابة الجب " قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة " في غيابة الجب " . وقرأ أهل المدينة " في غيابات الجب " واختار أبو عبيد التوحيد ؛ لأنه على موضع واحد ألقوه فيه ، وأنكر الجمع لهذا . قال النحاس : وهذا تضييق في اللغة ، " وغيابات " على الجمع يجوز من وجهين{[8960]} : حكى سيبويه : سير عليه عَشيَّاناتٍ وأصيلاناتٍ ، يريد عشية وأصيلا ، فجعل كل وقت منها عشية وأصيلا ، فكذا جعل كل موضع مما يغيب غيابة . والآخر - أن يكون في الجب غيابات ( جماعة ) . ويقال : غاب يغيب{[8961]} غيبا وغيابة وغيابا ، كما قال الشاعر :
ألا فالبَثَا شهرين أو نصفَ ثالث *** أنا ذاكُمَا قد غَيَّبْتْنِي غِيَابِيَا
قال الهروي : والغيابة شبه لِجَفٍ{[8962]} أو طاق في البئر فويق الماء ، يغيب الشيء عن العين . وقال ابن عزيز : كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة . قلت : ومنه قيل للقبر غيابة ، قال الشاعر :
فإن أنا يوما غيَّبَتْنِي غَيَابَتِي*** فسِيروا بسيري في العَشِيرَة والأهل
والجب الركية التي لم تطو ، فإذا طويت فهي بئر ، قال الأعشى :
لئن كنت في جبٍّ ثمانين قامة *** ورُقِّيتَ أسبابَ السماء بسُلَّمِ{[8963]}
وسميت جبا ؛ لأنها قطعت في الأرض قطعا ، وجمع الجب جِبْيَة وجِباب وأجباب ؛ وجمع بين الغيابة والجب لأنه أراد القوة في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين . قيل : هو بئر بيت المقدس ، وقيل : هو بالأردن ، قاله وهب بن منبه . مقاتل : وهو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب .
الثانية : قوله تعالى : " يلتقطه بعض السيارة " جزم على جواب الأمر . وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة : " تلتقطه " بالتاء ، وهذا محمول على المعنى ؛ لأن بعض السيارة سيارة ، وقال سيبويه : سقطت بعض أصابعه ، وأنشد{[8964]} :
وتَشْرَقَ بالقول الذي قد أذعتَه *** كما شرِقت صدر القناةِ من الدَّمِ
أرى مَرَّ السِّنِين أخذنَ منّي *** كما أخذ السِّرَارُ{[8965]} من الهلال
ولم يقل شَرِق ولا أخذت . والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر ؛ وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود ، فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد ، وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم ، فربما لا يأذن لهم أبوهم ، وربما يطلع على قصدهم .
الثالثة : وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولاً ولا آخراً ؛ لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم ، بل كانوا مسلمين ، فارتكبوا معصية ثم تابوا . وقيل : كانوا أنبياء ، ولا يستحيل في العقل زلة نبي ، فكانت هذه زلة منهم ، وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه . وقيل : ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله ، وهذا أشبه ، والله أعلم .
الرابعة : قال ابن وهب قال مالك : طرح يوسف في الجب وهو غلام ، وكذلك روى ابن القاسم عنه ، يعني أنه كان صغيرا ، والدليل عليه قوله تعالى : " لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة " قال : ولا يلتقط إلا الصغير ، وقوله : " وأخاف أن يأكله الذئب " [ يوسف : 13 ] وذلك أمر{[8966]} يختص بالصغار ، وقولهم : " أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون " [ يوسف : 12 ] .
الخامسة : الالتقاط تناول الشيء من الطريق ، ومنه اللقيط واللقطة ، ونحن نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة ، وما قال في ذلك أهل العلم واللغة . قال ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب ، ومنه قوله تعالى : " يلتقطه بعض السيارة " أي يجده من غير أن يحتسبه . وقد اختلف العلماء في اللقيط ، فقيل : أصله الحرية لغلبة الأحرار على العبيد ، وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر ، وتلا " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة " [ يوسف : 20 ] وإلى هذا ذهب أشهب صاحب مالك ، وهو قول عمر بن الخطاب ، وكذلك روي عن علي وجماعة . وقال إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك ، وإن نوى الحسبة فهو حر . وقال مالك في موطئه : الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر ، وأن ولاءه لجماعة المسلمين ، هم يرثونه ويعقلون عنه ، وبه قال الشافعي ، واحتج بقول عليه السلام : ( وإنما الولاء لمن أعتق ) قال : فنفى الولاء عن غير المعتق . واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا ، ولا يرثه أحد بالولاء . وقال أبو حنيفة وأصحابه وأكثر الكوفيين : اللقيط يوالي من شاء ، فمن ولاه فهو يرثه ويعقل عنه ، وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء ، ما لم يعقل عنه الذي والاه ، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه : المنبوذ حر ، فان أحب أن يوالي الذي التقطه والاه ، وإن أحب أن يوالي غيره والاه ، ونحوه عن عطاء ، وهو قول ابن شهاب وطائفة من أهل المدينة ، وهو حر . قال ابن العربي : إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد ، فقضى بالغالب ، كما حكم أنه مسلم أخذا بالغالب ؛ فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون قال ابن القاسم : يحكم بالأغلب ، فإن وجد عليه زي اليهود فهو يهودي ، وإن وجد عليه زي النصارى فهو نصراني ، وإلا فهو مسلم ، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام . وقال غيره : لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه ، وهو مقتضى قول أشهب ، قال أشهب : هو مسلم أبدا . لأني أجعله مسلما على كل حال ، كما أجعله حرا على كل حال . واختلف الفقهاء في المنبوذ تدل{[8967]} البينة على أنه عبد ، فقالت طائفة من أهل المدينة : لا يقبل قولها{[8968]} في ذلك ، وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر : هو حر ، ومن قضى بحريته لم تقبل البينة في أنه عبد . وقال ابن القاسم : تقبل البينة في ذلك وهو قول الشافعي والكوفي .
السادسة : قال مالك في اللقيط : إذا اتفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا ، وإن لم يكن طرحه ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب ، والملتقط متطوع بالنفقة . وقال أبو حنيفة : إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع ، إلا أن يأمره الحاكم . وقال الأوزاعي : كل من أنفق علي من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق . وقال الشافعي : إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال ، فإن لم يكن ففيه قولان : أحدهما - يستقرض له في ذمته . والثاني - يقسط على المسلمين من غير عوض .
السابعة : وأما اللقطة والضَّوَال فقد اختلف العلماء في حكمهما ، فقالت طائفة من أهل العلم : اللقطة والضوال سواء في المعنى ، والحكم فيهما سواء ، وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي{[8969]} ، وأنكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام - أن الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان - وقال هذا غلط ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك للمسلمين : ( إن أمكم ضلت قلادتها ) فأطلق ذلك على القلادة .
الثامنة : أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا ، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها ، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد . صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له ، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها ، فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع ، ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة ، ولا تصرف قبل الحول . وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها .
التاسعة : واختلف الفقهاء في الأفضل من تركها أو أخذها ، فمن ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا . وقال في الشاة : ( لك أو لأخيك أو للذئب ) يحضّه على أخذها ، ولم يقل في شيء دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه . ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في ضالة الإبل ، والله أعلم . وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة ، إن شاء أخذها وإن شاء تركها ، هذا قول إسماعيل بن إسحاق رحمه الله . وقال المزني عن الشافعي : لا أحب لأحد ترك اللقطة إن وجدها إذا كان أمينا عليها ، قال : وسواء قليل اللقطة وكثيرها .
العاشرة : روى الأئمة مالك وغيره عن زيد بن خالد الجهني قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال : ( اعرف عفاصها{[8970]} ووكاءها ثم عرفها سنة ، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ) قال : فضالة الغنم يا رسول الله ؟ قال : ( لك أو لأخيك أو للذئب ) قال : فضالة الإبل ؟ قال : ( ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ) . وفي حديث أبي قال : ( احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها ) ففي هذا الحديث زيادة العدد ، خرجه مسلم وغيره . وأجمع العلماء أن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها ، فإذا أتى صاحب اللقطة بجميع أوصافها دفعت له ؛ قال ابن القاسم : يجبر على دفعها ، فإن جاء مستحق يستحقها ببينة أنها كانت له لم يضمن الملتقط شيئا ، وهل يحلف مع الأوصاف أو لا ؟ قولان : الأول لأشهب ، والثاني لابن القاسم ، ولا تلزمه بينة عند مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له ، وهو بخلاف نص الحديث ، ولو كانت البينة شرطا في الدفع لما كان لذكر العفاص والوكاء والعدد معنى ، فإنه يستحقها بالبينة على كل حال ، ولما جاز سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فإنه تأخير البيان عن وقت الحاجة . والله أعلم .
الحادية عشرة : نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما ، وسكت عما عداهما من الحيوان . وقد اختلف علماؤنا في البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم ؟ قولان ، وكذلك اختلف أئمتنا في التقاط الخيل والبغال والحمير ، وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط ، وقال أشهب وابن كنانة : لا تلتقط ، وقول ابن القاسم أصح ؛ لقول عليه السلام : ( احفظ على أخيك المؤمن ضالته ) .
الثانية عشرة : واختلف العلماء في النفقة على الضوال ، فقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم : إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة ، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره ، قال : وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن . وقال الشافعي : إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع ، حكاه عنه الربيع . وقال المزني عنه : إذا أمره الحاكم بالنفقة كانت دينا ، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا . وقال أبو حنيفة : إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع ، وإن أنفق بأمر القاضي فذلك دين على صاحبها إذا جاء ، وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها ، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها ، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة .
الثالثة عشرة : ليس في قوله صلى الله عليه وسلم في اللقطة بعد التعريف : ( فاستمتع بها ) أو ( فشأنك بها ) أو ( فهي لك ) أو ( فاستنفقها ) أو ( ثم كلها ) أو ( فهو مال الله يؤتيه من يشاء ) على ما في صحيح مسلم وغيره ، ما يدل على التمليك ، وسقوط الضمان عن الملتقط إذا جاء ربها ، فإن في حديث زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإن لم تعرف{[8971]} فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه ) في رواية ( ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه ) خرجه البخاري ومسلم . وأجمع العلماء على أن صاحبها متى جاء فهو أحق بها ، إلا ما ذهب إليه داود من أن الملتقط يملك اللقطة بعد التعريف ؛ لتلك الظواهر ، ولا التفات لقوله ؛ لمخالفة الناس ، ولقوله عليه السلام : ( فأدها إليه ) .