فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّ يَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ} (10)

{ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } أي : من الإخوة ، قيل : هو يهوذا ، وقيل : روبيل ، وقيل : شمعون { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } قيل : ووجه الإظهار في { لا تقتلوا يوسف } استجلاب شفقتهم عليه . قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام : { في غيابة الجب } بالإفراد ، وقرأ أهل المدينة ( في غيابات ) بالجمع ، واختار أبو عبيد الإفراد وأنكر الجمع ، لأن الموضع الذي ألقوه فيه واحد . قال النحاس : وهذا تضييق في اللغة ، و «غيابات » على الجمع تجوز ، والغيابة : كل شيء غيب عنك شيئاً . وقيل للقبر : غيابة ، والمراد به هنا غور البئر الذي لا يقع البصر عليه ، أو طاقة فيه ، قال الشاعر :

ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث *** إلى ذا كما قد غيبتني غيابيا

والجب : البئر التي لم تطو ، ويقال لها قبل الطيّ ركية ، فإذا طويت قيل لها : بئر ، سميت جباً ، لأنها قطعت في الأرض قطعاً ، وجمع الجب جبب وجباب ، وأجباب ، وجمع بين الغيابة والجبّ مبالغة في أن يلقوه في مكان من الجبّ شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين ، قيل : وهذه البئر ببيت المقدس . وقيل : بالأردن ، وجواب الأمر : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } قرأ مجاهد ، وأبو رجاء ، والحسن ، وقتادة ( تلتقطه ) بالمثناة الفوقية ، ووجهه أن بعض السيارة سيارة ، وحكي عن سيبويه سقطت بعض أصابعه . ومنه قول الشاعر :

أرى مرّ السنين أخذن مني *** كما أخذ السرار من الهلال

وقرأ الباقون «يلتقطه » بالتحتية . والسيارة : الجمع الذي يسيرون في الطريق ، والالتقاط : هو أخذ شيء مشرف على الضياع ، وكأنهم أرادوا أن بعض السيارة إذا التقطه حمله إلى مكان بعيد ، بحيث يخض عن أبيه ومن يعرفه ، ولا يحتاجون إلى الحركة بأنفسهم إلى المكان البعيد ، فربما أن والدهم لا يأذن لهم بذلك ، ومعنى : { إِن كُنتُمْ فاعلين } إن كنتم عاملين بما أشرت به عليكم في أمره ، كأنه لم يجزم بالأمر ، وبل وكله إلى ما يجمعون عليه ، كما يفعله المشير مع من استشاره . وفي هذا دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء ، فإن الأنبياء لا يجوز عليهم التواطؤ على القتل لمسلم ظلماً وبغياً . وقيل : كانوا أنبياء ، وكان ذلك منهم زلة قدم ، وأوقعهم فيها التهاب نار الحسد في صدورهم واضطرام جمرات الغيظ في قلوبهم .

وردّ بأن الأنبياء معصومون عن مثل هذه المعصية الكبيرة المتبالغة في الكبر ، مع ما في ذلك من قطع الرحم وعقوق الوالد وافتراء الكذب . وقيل : إنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء ، بل صاروا أنبياء من بعد .

/خ10