فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلۡجُبِّ يَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ} (10)

{ قال قائل منهم } أي من الإخوة قيل هو يهوذا وقيل روبيل وقيل شمعون والأول أولى قيل وجه الإظهار في { لا تقتلوا يوسف } استجلاب شفقتهم عليه فلم ير هذا القائل القتل ولا طرحه في أرض خالية قفراء بل قال { وألقوه في غيابة الجب } أي في بئر يشرب منها الماء فإنه أقرب لخلاصه فمحصل ذلك أنه أختار خصلة ثالثة هي أرفق بيوسف من تينك الخصلتين .

قرأ جماعة غيابة بالإفراد وغيرهم بالجمع ، وأنكر أبو عبيد الجمع لأن الموضع الذي ألقوه فيه واحد قال النحاس : وهذا تضييق في اللغة والجمع يجوز والغيابة كل شيء غيب عنك شيئا وقيل للقبر غيابه والمراد بها هنا غور البئر الذي لا يقع عليه البصر أو طاقة فيه .

قال الهروي : الغيابة سد أو طاق في البئر قريب الماء يغيب ما فيه من العيون وقال الكلبي : الغيابة تكون في قعر الجب لأن أسفله واسع ورأسه ضيق فلا يكاد الناظر يرى في جوانبه وقال الزمخشري : هي غورة وما غاب منه من عين الناظر وأظلم من أسفله والمعاني متقاربة والجب البئر التي لم تطو ويقال لها قبل الطي ركية فإذا طويت قيل لها بئر وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا أو لكونه محفورا في جبوب الأرض أي ما غلظ منها .

وجمع الجب جبب وجباب وأجباب وجمع بين الغيابة والجب مبالغة في أن يلقوه في مكان أسفل من الجب شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين قيل وهذه البئر ببيت القدس قاله قتادة وقيل ببعض نواحي إيلياء وقيل بالأردن قاله وهب وقيل بالشام وعن ابن زيد قال : بحذاء طبرية بينه وبينها أميال وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب وجواب الأمر .

{ يلتقطه بعض السيارة } قرئ بالتحتية والفوقية ووجهه أن بعض السيارة سيارة وهي الجمع الذي يسير في الطريق جمع سيار أي المبالغ في السير والالتقاط هو أخذ شيء مشرف على الضياع من الطريق أو من حيث لا يحتسب ومنه اللقطة كأنهم أرادوا أن بعض السيارة إذا التقطه حمله إلى مكان بعيد بحيث يخفى عن أبيه ومن يعرفه ولا يحتاجون إلى الحركة بأنفسهم إلى المكان البعيد فربما أن والدهم لا يأذن لهم بذلك وكان هذا الجب معروفا يرد عليه كثير من المسافرين .

{ إن كنتم فاعلين } أي عاملين بما أشرت به عليكم في أمره كأنه لم يجزم بالأمر بل وكله إلى ما يجمعون عليه كما يفعله المشير مع من استشاره وفي هذا دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء فإن الأنبياء لا يجوز عليهم التواطؤ على القتل لمسلم ظلما وبغيا وقيل كانوا أنبياء وكان ذلك منهم زلة قدم أوقعهم فيها التهاب نار الحسد في صدورهم واضطرام جمرات الغيظ في قلوبهم .

ورد بأن الأنبياء معصومون عن مثل هذه المعصية الكبيرة المتبالغة في الكبر مع ما في ذلك من قطع الرحم وعقوق الوالد وافتراء الكذب ، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له والغدر بالأمانة وترك العهد وقيل عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة بهم ، ولو فعلوا ذلك لهلكوا جميعا وقيل أنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء بل صاروا أنبياء من بعد وكان كل ذلك قبل أن ينهاهم الله .

ولما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجب جاءوا على أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوة استعطافا له وتحريكا للحنو الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء وتوسلا بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبروه واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه .