معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (69)

قوله عز وجل { وأشرقت الأرض } أضاءت { بنور ربها } بنور خالقها وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه فما يتضارون في نوره كما لا يتضارون في الشمس في اليوم الصحو . وقال الحسن ، والسدي : بعدل ربها ، وأراد بالأرض عرصات القيامة { ووضع الكتاب } أي : كتاب الأعمال . { وجيء بالنبيين والشهداء } قال ابن عباس : يعني : الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء : يعني الحفظة . يدل عليه قوله تعالى :{ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } ( ق-21 ) { وقضي بينهم بالحق } أي : بالعدل ، { وهم لا يظلمون } أي : لا يزاد في سيئاتهم ، ولا ينقص من حسناتهم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (69)

{ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } علم من هذا ، أن الأنوار الموجودة تذهب يوم القيامة وتضحمل ، وهو كذلك ، فإن اللّه أخبر أن الشمس تكور ، والقمر يخسف ، والنجوم تندثر ، ويكون الناس في ظلمة ، فتشرق عند ذلك الأرض بنور ربها ، عندما يتجلى وينزل للفصل بينهم ، وذلك اليوم يجعل اللّه للخلق قوة ، وينشئهم نشأة يَقْوَوْنَ على أن لا يحرقهم نوره ، ويتمكنون أيضا من رؤيته ، وإلا ، فنوره تعالى عظيم ، لو كشفه ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .

{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي : كتاب الأعمال وديوانه ، وضع ونشر ، ليقرأ ما فيه من الحسنات والسيئات ، كما قال تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } ويقال للعامل من تمام العدل والإنصاف : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }

{ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ } ليسألوا عن التبليغ ، وعن أممهم ، ويشهدوا عليهم . { س وَالشُّهَدَاءِ } من الملائكة ، والأعضاء والأرض . { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ } أي : العدل التام والقسط العظيم ، لأنه حساب صادر ممن لا يظلم مثقال ذرة ، ومن هو محيط بكل شيء ، وكتابه الذي هو اللوح المحفوظ ، محيط بكل ما عملوه ، والحفظة الكرام ، والذين لا يعصون ربهم ، قد كتبت عليهم ما عملوه ، وأعدل الشهداء قد شهدوا على ذلك الحكم ، فحكم بذلك من يعلم مقادير الأعمال ومقادير استحقاقها للثواب والعقاب .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (69)

وقوله : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } أي : أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق ، تبارك وتعالى ، للخلائق لفصل القضاء ، { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } قال قتادة : كتاب الأعمال ، { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ } قال ابن عباس : يشهدون على الأمم بأنهم بلغوهم رسالات{[25308]} الله إليهم ، { وَالشُّهَدَاءِ } أي : الشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر ، { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ } أي : بالعدل { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } قال الله [ تعالى ] {[25309]} : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] ، وقال [ الله ]{[25310]} تعالى : { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] ، ولهذا قال : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ }


[25308]:- في س ، أ: "رسالة".
[25309]:- زيادة من ت ، س ، أ.
[25310]:- زيادة من أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (69)

{ وأشرقت الأرض بنور ربها } بما أقام فيها من العدل سماه " نور " لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة . وفي الحديث " الظلم ظلمات يوم القيامة " .

ولذلك أضاف اسمه إلى { الأرض } أو بنور خلق فيها بلا واسطة أجسام مضيئة ولذلك أضافه إلى نفسه . { ووضع الكتاب } للحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه ، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال ، واكتفى باسم الجنس عن الجمع . وقيل اللوح المحفوظ يقابل الصحائف { وجيء بالنبيين والشهداء } الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين ، وقيل المستشهدون . { وقضي بينهم } بين العباد . { بالحق وهم لا يظلمون } بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (69)

{ أشرقت } معناه : أضاءت وعظم نورها ، يقال شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت .

وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير : «أشرِقت » بضم الهمزة وكسر الراء على بناء الفعل للمفعول ، وهذا إنما يترتب في فعل يتعدى ، فهذا على أن يقال : أشرق البيت ، وأشرقه السراج ، فيكون الفعل متجاوزاً أو غير متجاوز بلفظ واحد كرجع ورجعته ووقف ووقفته ، ومن المتعدي من ذلك يقال أشرقت الأرض : و : { الأرض } في هذه الآية : الأرض المبدلة من الأرض المعروفة .

وقوله : { بنور ربها } إضافة خلق إلى خالق ، أي بنور الله تعالى ، و : { الكتاب } كتاب حساب الخلائق ، ووحده على اسم الجنس ، لأن كل أحد له كتاب على حدة . وقالت فرقة : وضع اللوح المحفوظ ، وهذا شاذ وليس فيه معنى التوعد وهو مقصد الآية .

وقوله : { وجيء بالنبيين } أي ليشهدوا على أممهم .

وقوله : { والشهداء } قيل هو جمع شاهد ، والمراد أمة محمد الذين جعلهم الله شهداء على الناس . وقال السدي : { الشهداء } جمع شهيد في سبيل الله ، وهذا أيضاً يزول عنه معنى التوعد ، ويحتمل أن يريد بقوله : { والشهداء } الأنبياء أنفسهم ، عطف الصفة على الصفة بالواو ، كما تقول : جاء زيد الكريم والعاقل . وقال زيد بن أسلم : { الشهداء } : الحفظة . والضمير في قوله : { بينهم } عائد على العالم بأجمعه . إذ الآية تدل عليهم . و : { لا يظلمون } معناه : لا يوضع شيء من أمورهم غير موضعه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (69)

صوَّرت هذه الآيات جلال ذلك الموقف وجمالَه أبدع تصوير والتعريف في { الأرض } تعريف العهد الذكري الضمني فقد تضمن قوله : { فإذا هم قيام ينظرون } [ الزمر : 68 ] أنهم قيام على قَرار فإن القيام يستدعي مكاناً تقوم فيه تلك الخلائق وهو أرض الحشر وهي الساهرة في قوله تعالى في سورة [ النازعات : 13 ، 14 ] : { فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة } وفُسرت بأنها الأرض البيضاء النقية وليس المراد الأرض التي كانوا عليها في الدنيا فإنها قد اضمحلت قال تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] .

وإشراق الأرض انتشار الضوء عليها ، يقال : أشرقت الأرض ، ولا يقال : أشرقت الشمسُ ، كما تقدم عند قوله : { بالعشي والإشراق } في سورة [ ص : 18 ] .

وإضافة النور إلى الرب إضافة تعظيم لأنه منبعث من جانب القدس وهو الذي في قوله تعالى : { اللَّه نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } الآية من سورة [ النور : 35 ] . فإضافة نور إلى الرب إضافة تشريف للمضاف كقوله تعالى : { هذه ناقة اللَّه لكم آية } [ الأعراف : 73 ] كما أن إضافة ( رب ) إلى ضمير الأرض لتشريف المضاف إليه ، أي بنور خاص خلقه الله فيها لا بسطوع مصباح ولا بنور كوكب شمس أو غيرها ، وإذ قد كان النور نوراً ذاتياً لتلك الأرض كان إشارة إلى خلوصها من ظلمات الأعمال فدل على أن ما يجري على تلك الأرض من الأعمال والأحداث حق وكمال في بابه لأن عالم الأنوار لا يشوبه شيء من ظلمات الأعمال ، ألا ترى أن العالم الأرضي لمّا لم يكن نَيِّراً بذاته بل كان نوره مقتبساً من شروق الشمس والكواكب ليلاً كان ما على وجه الأرض من الأعمال والمخلوقات خليطاً من الخير والشر . وهذا يغني عن جعل النور مستعاراً للعدل فإن ذلك المعنى حاصل بدلالة الالتزام كناية ، ولو حُمل النور على معنى العدل لكان أقل شمولاً لأحوال الحق والكمال وهو يغني عنه قوله : { وقُضِي بينهم بالحق وهم لا يُظلمون } . هذا هو الوجه في تفسير الآية وقد ذهب فيها المفسرون من السلف والخلف طرائق شتى .

و { الكِتَاب } تعريفُه تعريف الجنس ، أي وضعت الكُتب وهي صحائف أعمال العباد أحضرت للحساب بما فيها من صالح وسيّىءٍ . والوضع : الحطّ ، والمراد به هنا الإِحضار .

ومجيء النبيئين للشهادة على أممهم ، كما تقدم في قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } في سورة [ النساء : 41 ] .

والشهداء : جمع شهيد وهو الشاهد ، قال تعالى : { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } في سورة [ ق : 21 ] . والمراد الشهداء من الملائكة الحفظة الموكلين بإحصاء أعمال العباد . وضمير { بينَهُم } عائد إلى { مَن في السَّموات ومن في الأرض } [ الزمر : 68 ] أي قضي بين الناس بالحق .

ويجوز أن يكون المراد بالكتاب كتب الشرائع التي شرعها الله للعباد على ألْسنة الرسل ويكون إحضارها شاهدة على الأمم بتفاصيل ما بلَّغه الرسل إليهم لئلا يزعموا أنهم لم تبلغهم الأحكام .

وقد صوَّرت الآية صورة المَحْكمة الكاملة التي أشرقت بنور العدل ، وصدر الحكم على ما يستحقه المحكوم فيهم من كرامة ونذالة ، ولذلك قال : { وقضي بينهم بالحق } أي صدر القضاء فيهم بما يستحقون وهو مسمى الحَق ، فمِن القضاء ما هو فصل بين الناس في معاملات بعضهم مع بعض من كل ظالم ومظلوم ومعتدٍ ومعتدىً عليه في اختلاف المعتقدات واختلاف المعاملات قال تعالى : { إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } [ النحل : 124 ] .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (69)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فأضاءت الأرض بنور ربها... وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه...

وقوله:"وَوُضِعَ الكِتَابُ" يعني: كتاب أعمالهم لمحاسبتهم ومجازاتهم... وقوله: "وَجِيءَ بالنّبِيّينَ والشّهدَاءِ "يقول: وجيء بالنبيين ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم، وردّت عليهم في الدنيا، حين أتتهم رسالة الله "والشهداء"، يعني بالشهداء: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يستشهدهم ربهم على الرسل، فيما ذكرت من تبليغها رسالة الله التي أرسلهم بها ربهم إلى أممها، إذ جحدت أممهم أن يكونوا أبلغوهم رسالة الله، والشهداء: جمع شهيد، وهذا نظير قول الله: "وكَذلكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَداءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا"...

وقوله: "وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ" يقول تعالى ذكره: وقضي بين النبيين وأممها بالحقّ، وقضاؤه بينهم بالحق، أن لا يحمل على أحد ذنب غيره، ولا يعاقب نفسا إلا بما كسبت.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ويستضيء بذلك النور والإشراق قوم دون قوم. الكفار يبقون في الظلمات، والمؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

قد استعار الله عزّ وجلّ النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل، وهذا من ذاك، والمعنى: {وَأَشْرَقَتِ الأرض} بما يقيمه فيها من الحق والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات، وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه؛ لأنه هو الحق العدل. وإضافة اسمه إلى الأرض؛ لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل، ولا أعمر لها منه. وفي هذه الإضافة أن ربها وخالقها هو الذي يعدل فيها، وإنما يجوز فيها غير ربها، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق وهو النور المذكور.

وترى الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما تقول: أظلمت البلاد بجور فلان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الظلم ظلمات يوم القيامة" وكما فتح الآية بإثبات العدل، ختمها بنفي الظلم.

وقرىء: «واشرقت» على البناء للمفعول، من شرقت بالضوء تشرق: إذا امتلأت به واغتصت.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان العلم هو النور في الحقيقة، وكان الكتاب أساس العلم، وكان لذلك اليوم من العظمة ما يفوت الوصف، ولذلك كذب به الكفار؛ أتى فيما يكون فيه بإذنه بصيغة المجهول على طريقة كلام القادرين؛ إشارة إلى هوانه، وأنه طوع أمره لا كلفة عليه في شيء من ذلك، وكذا ما بعده من الأفعال، زيادة في تصوير عظمة اليوم بعظمة الأمر فيه فقال: {ووضع الكتاب} أي الذي أنزل إلى كل أمة لتعمل به.

ولما كان الأنبياء أعم من المرسلين، وكان للنبي وهو المبعوث ليعمل من أمره أن يأمر بالمعروف، وقد يتبعه من أراد الله به الخير، وكان عدتهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً، وهي قليلة جداً بالنسبة إلى جميع الناس، عبر بهم دون المرسلين وبجمع القلة فقال: {وجاء بالنبيين} للشهادة على أممهم بالبلاغ.

ولما كان أقل ما يكون الشهود ضعف المكلفين، عبر بجمع الكثرة فقال: {والشهداء} أي الذين وكلوا بالمكلفين فشاهدوا أعمالهم فشهدوا بها وضبطوها فأصلت الأصول وصورت الدعاوى وأقيمت البينات على حسبها من طاعة أو معصية، ووقع الجزاء على حسب ذلك، فظهر العدل رحمة للكفار، وبان الفضل رحمة للمسلمين.

{وقضى بينهم} أي بين العباد الذين فعل ذلك كله لأجلهم.

ولما كان السياق ظاهراً في عموم الفضل عدلاً وفضلاً كما يأتي التنبيه عليه قال:

{بالحق} بأن يطابق الواقع من المثوبات والعقوبات ما وقع الخبر به في الكتب على ألسنة الرسل.

ولما كان المراد كمال الحق باعتبار عمومه لجميع الأشخاص والأعمال، وكان ربما طرقه احتمال تخصيص ما، أزال ذلك بقوله: {وهم} أي باطناً وظاهراً.

{لا يظلمون} أي لا يتجدد لهم ظلم في وقت أصلاً، فلا يزادون في جزاء السيئة على المثل شيئاً، ولا ينقصون في جزاء الحسنة عن العشر شيئاً...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

علم من هذا، أن الأنوار الموجودة تذهب يوم القيامة وتضحمل، وهو كذلك، فإن اللّه أخبر أن الشمس تكور، والقمر يخسف، والنجوم تندثر، ويكون الناس في ظلمة، فتشرق عند ذلك الأرض بنور ربها، عندما يتجلى وينزل للفصل بينهم، وذلك اليوم يجعل اللّه للخلق قوة، وينشئهم نشأة يَقْوَوْنَ على أن لا يحرقهم نوره، ويتمكنون أيضا من رؤيته، وإلا فنوره تعالى عظيم، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

صوَّرت هذه الآيات جلال ذلك الموقف وجمالَه أبدع تصوير:

التعريف في {الأرض} تعريف العهد الذكري الضمني فقد تضمن قوله: {فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر: 68] أنهم قيام على قَرار؛ فإن القيام يستدعي مكاناً تقوم فيه تلك الخلائق وهو أرض الحشر وهي الساهرة في قوله تعالى في سورة [النازعات: 13، 14]: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} وفُسرت بأنها الأرض البيضاء النقية.

وإشراق الأرض انتشار الضوء عليها، يقال: أشرقت الأرض، ولا يقال: أشرقت الشمسُ، كما تقدم عند قوله: {بالعشي والإشراق} في سورة [ص: 18].

وإضافة النور إلى الرب إضافة تعظيم؛ لأنه منبعث من جانب القدس وهو الذي في قوله تعالى:

{اللَّه نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} الآية من سورة [النور: 35]. فإضافة نور إلى الرب إضافة تشريف للمضاف كقوله تعالى: {هذه ناقة اللَّه لكم آية} [الأعراف: 73]، كما أن إضافة (رب) إلى ضمير الأرض لتشريف المضاف إليه، أي بنور خاص خلقه الله فيها لا بسطوع مصباح ولا بنور كوكب شمس أو غيرها، وإذ قد كان النور نوراً ذاتياً لتلك الأرض كان إشارة إلى خلوصها من ظلمات الأعمال فدل على أن ما يجري على تلك الأرض من الأعمال والأحداث حق وكمال في بابه؛ لأن عالم الأنوار لا يشوبه شيء من ظلمات الأعمال، ألا ترى أن العالم الأرضي لمّا لم يكن نَيِّراً بذاته بل كان نوره مقتبساً من شروق الشمس والكواكب ليلاً كان ما على وجه الأرض من الأعمال والمخلوقات خليطاً من الخير والشر، وهذا يغني عن جعل النور مستعاراً للعدل فإن ذلك المعنى حاصل بدلالة الالتزام كناية، ولو حُمل النور على معنى العدل لكان أقل شمولاً لأحوال الحق والكمال، وهو يغني عنه قوله: {وقُضِي بينهم بالحق وهم لا يُظلمون}، هذا هو الوجه في تفسير الآية وقد ذهب فيها المفسرون من السلف والخلف طرائق شتى.

{الكِتَاب} تعريفُه تعريف الجنس، أي وضعت الكُتب وهي صحائف أعمال العباد أحضرت للحساب بما فيها من صالح وسيئ، والوضع: الحطّ، والمراد به هنا الإِحضار.

ويجوز أن يكون المراد بالكتاب كتب الشرائع التي شرعها الله للعباد على ألْسنة الرسل ويكون إحضارها شاهدة على الأمم بتفاصيل ما بلَّغه الرسل إليهم لئلا يزعموا أنهم لم تبلغهم الأحكام.

وقد صوَّرت الآية صورة المَحْكمة الكاملة التي أشرقت بنور العدل، وصدر الحكم على ما يستحقه المحكوم فيهم من كرامة ونذالة، ولذلك قال: {وقضي بينهم بالحق} أي صدر القضاء فيهم بما يستحقون وهو مسمى الحَق، فمِن القضاء ما هو فصل بين الناس في معاملات بعضهم مع بعض من كل ظالم ومظلوم ومعتدٍ ومعتدىً عليه في اختلاف المعتقدات واختلاف المعاملات قال تعالى: {إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} [النحل: 124].